هل المرأة عورة؟!
هل المرأة عورة؟!
اتفق الحُكماء قديمًا وحديثًا على أنَّه لا يَعرفُ قيمةَ النور إلا من سكنَ الظلام، ولا يَفهمُ معنى العدل إلا من عاش في نارِ الظلم واكتوى بها؛ لهذا كانت النِّساء في الصَّدرِ الأول من بزوغ نور الإسلام من أعرَف الناس بقيمة هذا الدِّين العظيم، وفهمًا لمعاني أحكامهِ وحِكَمهِ، وسرعةً في الاستجابة لتطبيق شرائعهِ، لأنَّهنَّ عايشنَ العصر الجاهلي، ورأينَ كيف كانت المرأةُ تُمتهنُ وتهان، وكيف كان يهدرُ حقّها، وتنتقصُ قيمتها، لم يكن يومئذٍ للمرأة مشاعرَ تحترم، ولا كرامة تصان، فلقد كانت عند بعضهم توأدُ عند ولادتها عيبًا ومخافةً من العار، فإذا نجت من ذلك، عاشت بين ظلم الأب والإخوان، وتسلّط الأعمام والقبيلة، ثم إلى ظلم الأزواج وتفاخرهم بالتعالي على نسائهم.
ثمَّ لمَّا جاء الإسلام: فرضَ للمرأة حقوقًا، وشرَّع لهنَّ قوانين تحفظ هيبتهنَّ وقيمتهن، فلقد جرَّم الإسلام وأد البنات، وأمر بالإحسان إليهنَّ، ورتّب على ذلك أعظم الجزاء، حتى قال رسولنا ﷺ: «مَن كان له ثلاثُ بناتٍ أو ثلاثُ أخَوات، أو ابنتان أو أُختان، فأحسَن صُحبتَهنَّ واتَّقى اللهَ فيهنَّ فلهُ الجنَّةَ» [رواه الترمذي]، بل وجعل مَن أحسَن في تربية بناتهِ رفيقًا له في الجنة فقال: «مَن عالَ جاريتين (بنتين) حتى تَبلُغا، جاء يوم القيامة أنا وهو -وضمَّ أصابعه-» [رواه مسلم].
ثمَّ أعطى الإسلام للمرأة حق التَّعليم وجعل ذلك من حقوقها على أبيها فقال ﷺ: «مَن كان لهُ ثلاث بنات يؤدبِّهنَّ ويرحمهنَّ ويكفلهنَّ وجبت له الجنة» [رواه أحمد].
و أعطى لها حقّ اختيار الزوج، ومنع من إكراهها، قال ﷺ: «لا تُنكحُ الأيمُ حتى تُستأمرُ، ولا تُنكحُ البكرُ حتى تُستأذنُ» [رواه البخاري ومسلم].
قال العلماء: هذه الأحاديث تدل على وجوب استئذان المرأة في النكاح، وأنه لا يجوز تزويجها بغير إذنها، سواء كانت بكرًا أو ثيبًا؛ لأنَّ مِن شرط النكاح الرضا، فلا بدّ أن يكون الزوجُ راضيًا، والمرأة راضية.
وفرَض لها حقّ الميراث من زوجها وأبيها وأبنائها وإخوانها، بحسب منظومة عادلة راقية، ولم تكن المرأة في زمن الجاهلية تحصل على شيء من الميراث، بل كانت هي نفسها تعامل معاملة الميراث عند بعض الجاهليين، فيأخذها الابن بعد موت أبيه، قال سعيد بن جبير وقتادة: “كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئًا، فأنزل الله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 7]، أي: الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله تعالى لكل منهم” [تفسير ابن كثير (3/20)].
وكذلك في الدول الغربية فقد كانت المرأة محرومة -إلى وقت قريب جدًّا- من حقِّها في الميراث، بل في القانون الفرنسي لم يسمح للمرأة في التقاضي والمطالبة بحقوقها المالية إلا بعد الأربعينيات من القرن الماضي!
ولعلَّ هذه الجوانب السريعة والبسيطة تُبيّن مدى رعاية الإسلام للمرأة إكرامه لها، وإنصافهُ حقوقها، ليتضح مراد الإسلام الشريف ومراد أهل التحريف والتزييف.
فلقد تعرَّض الإسلام وما زال يتعرض لحملات تشويه وطعن من مغرضين وحاقدين عليه، تعمَّدوا على طول الفترات السابقة والحالية أن يُزيفوا الحقائق ويُدلّسوا على الناس الحق، ومن ذلك قولهم: (إنَّ الإسلام ظلم المرأة، وأهانَ حقيقة وجودها، ولم يُعطها مكانتها الحقيقية).
ومن تلك الشبهات والتشويهات قولهم: (إنَّ الإسلام يقول عن المرأة إنَّها عورة، ويَعُدّها عارًا وشيئًا قبيحًا يستقبحُ لذاتهِ)، عامدين في ذلك -كعادتهم في شبهاتهم- إلى اقتطاع النصوص من سياقاتها الكاملة، وتحريفهم معانيها الصحيحة المرادة إلى معاني باطلة يُريدون إشاعتها عن الإسلام تشويهًا لهُ وقدحًا فيه.
ولم يَرِد في القرآن هذا الوصف، بل ورد في حديثٍ رواه أصحاب الحديث عن النبي ﷺ أنهُ قال: «المرأةُ عورةٌ، فإذا أقبلَت استشرفها الشَّيطان» [رواه التَّرمذي وصححه هو وغيرهُ من العلماء].
ولمعرفة مراد الرسول ﷺ لا بُدَّ من الرجوع إلى معنى العورة في لغة العرب، لأنَّ النبي ﷺ عربي ويتكلم بأساليب العرب في لغتهم، ثُمَّ لا بُدَّ أيضًا من معرفة تفسير الفقهاء لهذا الحديث، وفهمهم لهُ، كما يجب أن نعود إلى باقي كلمات وتصرفات علماء الشريعة مع هذه القضية.
فنقول: العورة في اللغة تأتي على معان، لخصَّها ابن منظور في “لسان العرب” (4/616) فقال: «العورةُ: الخلَلُ في الثغر وغيره. وفي التنزيل: {إنَّ بُيوتنَا عَورةٌ}… وإنَّما أرادوا إنَّ بيوتنا عورةٌ أي: مُمكنةٌ للسرّاق لخُلُوّها من الرَّجال… وقيل معناه: إنَّ بيوتنا عورة أي: مُعوِرة، أي: بيوتنا مما يلي العدوّ ونحنُ نسرقُ منها… وقد قيل: إنَّ بيوتنا عورة أي: ليست بحريزة. قال الأزهري: العورة في الثغور وفي الحروب خللٌ يتخوف منهُ القتل. وقال الجوهري: العورة كل خلل يتخوف منهُ من ثغرٍ أو حرب، والعورةُ: كُل مكمن للستر، وعورة الرجل والمرأة: سوأتهما، والجمع عورات… وكُلُّ أمرٍ يُسحيا منه: عورة. وفي الحديث: “يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟”، العورات جمع عورة، وهي كل ما يُستحيا منهُ إذا ظهر، وهي من الرجل ما بين السرة والركبة، ومن المرأة الحرة جميع جسدها إلا وجهها واليدين إلى الكوعين. وفي الحديث: “المرأة عورة”، جعلها نفسها عورة، لأنها إذا ظهرت يُستحيا منها كما يُستحيا من العورة إذا ظهرت».
ويتلخص مما ذكرهُ معان وهي:
- الخلل الذي يُخشى منه دخول العدو، وذلك لضعف فيه لعدم وجود الرجال الذين يحرسونه، مما يُغري العدو للهجوم عليه، ولو تأملنا قوله ﷺ في الحديث: «المرأةُ عورةٌ، فإذا أقبلت استشرفها الشَّيطان»، وقارنّاهُ مع قولهِ تعالى في الآية: {إنَّ بُيوتنَا عَورةٌ} أي: ممكنة للسرّاق، لوجدنا أنَّ المعنيين متطابقان، والمراد واحد، فالرسولُ ﷺ يُشير إلى ضعف المرأة وأنها مطمعٌ للسراق والذئاب البشرية التي تسعى للنيل منها والتحرش فيها، ويُأكِّدُ هذا المعنى قوله ﷺ فيما بعدُ: إذا خرجت استشرفها الشيطان، فهو يريدُ: أنَّها عورةٌ ضعيفةٌ إذا خرجت وفيها ما يدعو للإغراء، ولتزيين الشيطان لها في أعين الرجال وقلوبهم، وما يُلقي إليها الشيطان من الوساوس والتَّخيّلات، وليست عورة لذاتها على الإطلاق، مثل لو كانت في بيتها.
وعلماء المسلمين الشَّراح لهذا الحديث ذكروا هذا المعنى ومالوا إليه، فقد قال العلامة المباركفوري في شرحه على سنن الترمذي لهذا الحديث: “فإذا خرجت استشرفها الشيطان، أي: زيّنها في نظر الرجال، وقيل: أي نظر إليها ليغويها ويغوي بها، والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب، والمعنى: أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها، فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتن” انتهى كلامه.
والسرُّ بين وصف المرأة بأنَّها عورة في الحديث، وبين وصف البيوت بأنها عورة في الآية: هو أنَّ المرأة سكنٌ معنويٌ للرجل كما أنَّ البيت سكنٌ له حسيّ، قال تعالى: {هو الذي خَلَقكُم من نّفسٍ وَاحِدَةٍ وخَلَقَ منهَا زوجَهَا لِيَسكُنَ إليهَا}، فهو حثٌ للرجال لحفظ هذا المسكن اللطيف.
- والمعنى الثاني: هو أنها كُلّ مكمن للستر، ولا شكَّ أنَّ المرأة باتِّفاق العقلاء من جميع الملل والنحل أنها مكمن للستر والحياء، بل جمال المرأة في حيائها وسترها، وهذا المعنى مرادٌ أيضًا.
- والمعنى الثالث قولهُ: هي كُلّ ما يُستحيا من ظهوره، والمرأة يُستحيا من ظهورها أمام الرجال من غير حاجةٍ أو ضرورة، حفاظًا عليها وتكرمةً لها، وليس لأنَّها عيب أو قبيح، لأنَّها لو كانت عيبًا أو قبيحًا لما كان النظرُ إلى وجهها مما يسرُّ الزوج ويتلذذ به، بل أباح الإسلام النظر إلى وجه المرأة الأجنبية وإلى شعرها عند إرادة خطبتها، وذلك لما فيه من الداعي للإعجاب والمحبة.
- والمعنى الرابع: السوأة، مثل عورة الرجل وعورة المرأة، وهذا المعنى غير مراد هنا، وهناك فرقٌ بين قولنا: عورة المرأة، وقولنا: المرأة عورة، فالأولى المقصود منها الأعضاء التي لا يجوز للمرأة إظهارها، لما فيها من العيب عند ظهورها، كما نقول: عورة البيت: أي العيب الذي في البيت، وهذه تطلق على المرأة وعلى الرجل، فنقول عورة الرجل كما نقولها عن المرأة.
ثمَّ إنَّ وجهُ المرأة عند أكثر العلماء ليس من العورة التي يجبُ سترها، والذين قالوا أنهُ يجب ستره وتغطيتهُ أيضًا لم يقولوا لأنَّهُ قبيح أو عيب، بل قالوا لأنهُ من الزينة، وجعلوا من أقوى أدلتهم قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، فجعلوه من الزينة، وكذلك من أدلتهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، والسبب من تغطية الوجه في الآية واضح جدًّا، وهو لكي لا يؤذيهنَّ الرجال بالنظر إلى حُسنهنَّ، والتَّحرش بهنَّ، على أنَّ باقي العلماء يقولون: ليس المراد في الآية تغطية الوجه، وعلى كلا القولين لا أحد يقول: بأنَّ السبب قبح أو عيب في وجه المرأة.
كما أنَّ علماء المسلمين متفقين على أنَّ المرأة لا يجوز لها أن تغطي وجهها في الصلاة، فهل يصحُّ أن نقول: أنَّ الإسلام يقول وجه المرأة قبيح وعيب وسوأة وهو يأمرها أن تلاقي بهِ ربَّها في أعظم عبادة إسلامية؟!
بل قد نهى الرسول ﷺ المرأة في الحجِّ وبين ملايين الرجال من أن تغطي وجهها، فقال: «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين»، وهي تجمع بين عبادتين عظيمتين وركنين من أركان الإسلام.
فيتضحُ مما سبق مراد الإسلام الشريف والراقي في هذا الحديث وهو: أنَّ المرأة في الإسلام ليست سوأة ولا عيبًا، وأنَّ مراد الرسول ﷺ في الحديث هو حث الرجال على حفظ نسائهم، والدفاع عنهن والرعاية لهُنَّ، لأنَّ المرأة تحتاجُ إلى سندٍ لها، يكون عونًا لها، لأنَّها درة مصونةٌ غالية، وكذلك فيه حث للمرأة لتجتنب وساوس الشيطان، لكي لا تكون وسيلة من وسائله للإغراء والإغواء، وفي هذا من المكارم والفضائل ما لا يُدركهُ إلا العقلاء.
ويتضحُ التحريف والتزييف الذي يبثُّهُ الحاسدون لهذا الدين الحنيف، ويُحاول إشاعتهُ الحاقدون عليه، الذين يحسدون المرأة المسلمة على المكانة العظيمة التي أعطاها لها الإسلام، والتي تستحقها وتليقُ بها، محاولين بذلك طمس هويتها، وإخراجها من مكامن عزها وشرفها. فلا تغترّي بذلك أيتها الحرة الأصيلة.
أحمد منصور الشبيب الجبوري
اقرأ أيضًا:
قدوم خير الناس
أبونا أيها العراق
أنا راهب
3 تعليقات