العدد الثالثمقالات

أبونا أيها العراق

أبونا أيها العراق

 

كان العرب يُكنّون كل شي، كل شي…

فيكنون الملموس كالماء بأبي نافع،  ويكنون المحسوس كالجوع بأبي مالك، وكذا العجَلة يكنونها بأم الندامة وهكذا…

ومن الكنى لغير المحسوس من الأشياء ما أطلقوا على الدهر وكنيتُه “أبو الورى”.

وتلك فكرة قديمة جدًا سبقت الأديان وهي أقرب إلى التسمية الفلسفية منها للواقعية وتقوم على مفهوم: أن الدهر ثابتٌ والناس متغيرون، فكأنه صار لهم أبًا وهم له أبناء.

وقد ترددت هذه الفكرة في بال الشعراء وتناوبوا على تضمينها وتباروا في إبداء غرائبها، من ذلك قول أبي تمام حين افترض أننا أبناء الدهر وأبونا شيخٌ هرِمٌ لطول العهد به فقال مادحًا بعضَهم:

مجدٌ رعى تلعاتِ المجدِ وهو فتىً

                                            حتى أتى الدهرُ يمشي مشية الهَرِمِ

والتلعات هي الأرض المتعرجة صعودًا وهبوطًا. وقال أيضًا:

وإذا جفاكَ الدهرُ -وهو أبو الورى-

                               يوماً فلا تعتبْ على أولادهِ

وقد أخذ الحريريّ هذه الفكرة في “مقاماته” فأعاد صياغتها من جديد بحُسْنٍ وجمالٍ فجاءتْ ذكيةً لامعةً فقال:

ولمّا تَعامى الدّهرُ -وهْوَ أبو الوَرى-

                                       عـنِ الرُّشْدِ في أنحـائِـهِ ومقاصِـدِهْ

تعامَيتُ حتى قيلَ إني أخو عَمًى

                                    ولا غَرْوَ أن يحذو الفتى حَذوَ والِدِهْ

“ولا غروَ” أي: لا عجَب ولا غرَابة.

غير أن أبا الطيب المتنبّي مختلفُ في الرؤيا والشعر كعادته، وفي الكناية والمعنى أيضًا، لأجل ذلك أسهب قليلًا وتلطَّفَ للمعنى تلطُّفَ العارف، فقال:

سُبحانَ خالِقِ نَفسي كَيفَ لَذَّتُها

                                     فيما النُفوسُ تَراهُ غايَةَ الأَلَمِ

الدَّهرُ يَعجَبُ مِن حَمْلي نَوائِبَهُ

                                         وَصَبرِ جِسمي عَلى أَحداثِهِ الحُطُمِ

وَقتٌ يَضيعُ وَعُمرٌ لَيتَ مُدَّتَهُ

                                          في غَيرِ أُمَّتِهِ مِـن سـالِفِ الأُمَمِ

أَتى الزَمانَ بَنوهُ في شَبيـبَتِهِ

                                      فَسَـرَّهُـم، وَأَتَيناهُ عَلى الهَرَمِ

ومعنى البيت الأخير: أنّ مَن سبقَنا مِن البَشَر قد جاؤوا أباهُم “الزمانَ” وهو شابٌّ فتيٌّ يَقدر على إسعادهم، فسَرَّهم وفعلَ لهم ما يتمنّون. أما نحن فقد جِئناهُ على هرَمهِ وشيخوخَتهِ فلم يستطع فعل ما فعله مع أسلافنا. وهذا فهمٌ غريب مع جماله وروعته، وهو معنًى مبتكَرٌ مع كثرة القائلين فيه، وكأنّه استلَّ المعنى من البحتريّ استلالاً حيث يقول:

صحبوا الزمان الفَرْط إلاّ أنهُ

                                           هرمَ الزمانُ وعِزُّهم لم يهرمِ

والفرط من الزمان هي الأيّام القليلة، وأزورك فرطًا أي أيامًا معدودة.

وما يزال الشعراء يقتبسون مِن نور مَن سبقَهم، فمنهم من يُفلح ومنهم من ينكص، ومن أُؤلئك الذين أخذو فأحسَنوا أبو الفتح البُستيّ حين اقتبس معنَى المتنبّي اقتباسًا رائعًا فأحسَن في إعادة صياغته حين قال:

لا غروَ أنْ لم نجدْ في الدهرَ مُخْترَفًا

                                                فقد أتيناهُ بعْدَ الشَّيبِ والْخَرَفِ

أي أتيناه بعدَ أن خَتْرَفَ أي صار يتخيّل ويتوهَّم، كنايةً عن أنّ الدهرَ شاخَ وكبُرَ وأثَّر في عقله قديمُ العهد وطول الأمَد…

غير أنّي أميلُ عن كلّ ما تقدَّم، متَّبعًا سبيلَ عبد الرزاق عبد الواحد بلمحته الشعرية العظيمة حين قال واصفًا (العراق):

هوَ العراقُ سَليلُ المَجدِ والحَسَبِ

                                                   هوَ الذي كلُّ مَن فيهِ حَفيدُ نَبي

كأنَّما كبرياءُ الأرضِ أجمَعِها

                                                  تنْمَى إليهِ فَما فيها سِواهُ أبي

هوَ العراقُ فَقُلْ لِلدائراتِ قِفي

                                                   شاخَ الزَّمانُ جَميعًا والعراقُ صَبي

أقول قولي هذا وأنا ألملمُ حالي وأتجهَّزُ للرَّحيل من جديد بعيدًا عن أبينا العراق، فالعراق للعراقيين ألْيَن وأحلَى، وهو بأبوَّتهم أجدرُ وأولَى.

حسّان الحديثيّ

انظر أيضًا:

التقاطة

أشواق اللقاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى