العدد الأولدراسات

الفرق بين الخطة بالكسر والخطة بالضم

الفرق بين الخطة بالكسر والخطة بالضم

عبد الباري بن حماد الأنصاري

ممَّا يَكثرُ اسْتعمالُه لدَى الأساتذة وطلبةِ العلْم في الجامعات كلمةُ “خِطَّة”، فينطقُها بعضهم (بضم الخاء)، وبعضهم (بكسرها).

ويَعنون بها: الورقةَ العلمية الَّتي يتقدَّمُ بها الباحثُ، وتتضمَّن وصفَ مشروع بحثه، الَّذي يرغبُ في العمل فيه لنَيل درجة الماجستير أو الدكتوراه أو ما دونهما.

والخِطَّة بالكسرِ والضمِّ وإن كان أصلُهما في اللُّغة واحدًا، فليستا مُترادفتَين، فلكلِّ واحدةٍ منهما معنًى يُخالف الأخرى.

قال ابن فارس: الخاءُ والطاءُ أصلٌ واحد؛ وهو أَثَرٌ يمتدُّ امتدادًا، فمن ذلك الخَطُّ الذي يخطُّه الكاتب([1]).

وهَذا بيانٌ لمعنى كلِّ واحدةٍ مِن هاتَين الكلمتَين:

* فأما (خِطَّة) -بالكسر-:

فجاء أصلُ معناها في أحاديث منها: حديث زينب -رضي الله عنها- (أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ورَّث النساءَ خِطَطهن)([2]).

قال ابن الأثير: (ورَّث النساءَ خِطَطَهنَّ دونَ الرجال) الخِطَطُ جمعُ خِطَّة بالكَسر، وهي الأرْض يَخْتَطُّها الإنسانُ لنفسهِ، بأنْ يُعَلِّم علَيها علامةً، وَيَخُطَّ علَيها خَطًّا لِيُعْلَمَ أنه قد احْتازَها، وبِها سُمِّيتْ خِطَطُ الكُوفة والبَصرة. ومعنَى الحديثُ أنَّ النبيَّ -صلى اللهّ عليه وسلم- أعْطى نِساءً -منهنّ أمُّ عبْدٍ- خِطَطًا يَسْكُنَّها بالمدِينة، شِبْه القَطَائع، لا حظَّ للرِّجال فِيها([3]).

وقال السندي: “خِطَطهنَّ” ضُبِط بكسرٍ فَفتحٍ، أيْ: بيوتَهنَّ، أي: لَيس لورثةِ الزوجِ إذا ماتَ أن يأخذوا من المرأة البيت ويُخرجوها منه، بل علَيهم أن يُخَلُّوها في بيتها، وكانَ هذا الحُكْم خاصًّا بالمهاجرين، وانقضَى بانقضائهم([4]).

ونبَّهَ على أصلِ هَذا المعنَى اللُّغويُّون؛ فقال الجوهري: الخِطَّةُ بالكسر: الأرضُ يختطُّها الرجلُ لنفسه، وهو أن يُعلِّم عليها علامة بالخط ليُعلَم أنه قد اختارها ليبنيها دارًا. ومنه خِطَط الكوفة والبصرة([5]).

وقال الأزهري: الخِطَّة الأرض والدَّار يختطّها الرجل في أرضٍ غيرِ مملوكةٍ؛ ليتحجَّرها ويبني فيها، وجمعُها: الخِطَط، وذلك إذا أَذِن السلطانُ لجماعةٍ من المسلمين أن يختطُّوا في موضعٍ بعينه ويتَّخذوا فيها مساكن لهم، كما فَعلوا بالكُوفة والبصرة وبغداد، وإنما كُسرت الخاء من الخِطَّة لأنها أُخْرِجت على مَصدرِ بُني على فِعْلَة([6]).

وقال الفَيُّوميّ: الخِطَّةُ المكان المختطّ لعِمارة، والجمع (خِطَطٌ) مثل سِدْرة وسِدَر، وإنما كُسرت الخاء لأنها أُخرجت على مصدر افتعل، مثلُ: اختطب خِطْبة وارتدَّ ردَّة وافترى فِرْية، وحذفُ الهاء لغة فيها، فيقال: هو (خِطُّ) فلان وهي (خِطَّتُه)([7]).

وعلى هذا المعنى ما يرِدُ في كتبِ التاريخ وغيرها “أنَّ فلانًا اختطَّ خِطةً بالمدينة أو البصرة أو الكوفة، كله -بالكسر- على المعنَى المتقدِّم.

وصنَّف في ذلك العلماء والمؤرخونَ كُتُبًا سمَّوها بهذا الاسم، منها: كتاب القُضاعي المسمى بـ(خِطَط مصر)، وكتاب المَقْريزي (المواعظ والاعتبار في ذكر الخِطَط والآثار) المشهور بخِطَط المَقْريزي، و(الخِطط التوفيقية) لعلي باشا مبارك، و(خِطَط الشام) لمحمد كُرْد علي.

* وأما الخُطَّة -بالضم-:

فقد جاءت كثيرًا في الأحاديثِ النبويةِ الشريفةِ وأشعارِ العرب وأمثالِهم:

ومن ذلك ما أخرجه البخاريُّ في قصة الحديبية: من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطَّة يُعظِّمون فيها حُرُماتِ الله إلا أعطيتُهم إياها»([8]).

وقول عروة بن مسعود -في الحديث نفسهِ-: «فإنَّ هذا قد عَرَضَ لكم خُطَّةَ رُشد، اقبلوها ودعوني آتيه».

قال القاضي عياض: (لا يسألوني خُطَّة) بضم، أي: قِصَّةً وأمرًا([9]).

وقال ابن حجر: خُطَّة – بضمِّ الخاء المعجمة وتشديدِ المهملة -: أي خصلة خير وصلاح وإنصاف([10]).

وقال العيني: الخُطَّة بضمِّ الخاء المعجمة وتشديدِ الطاء: أي حالة، وقال الداودي: خصلة([11]).

ومن مجيء (الخُطَّة) بالضم في أشعار العرب: قول الحارث بن حِلِّزة في “معلَّقته”:

أيما خُطَّةٍ أردتُم فأدُّوها                إلينا تُشفَى بها الأَملاءُ

قال الزوزني عند شرح البيت: الخُطة: الأمر العظيم الذي يَحتاج إلى مخلص منه([12]).

وقال الجوهري: الخُطَّة بالضمِّ: الأمر والقصة([13]).

وقال زهير بن أبي سُلمى:

أَروني خُطَّةً لا عيبَ فيها             يُسوِّي بيننا فيها السَّواءُ

والسَّواء: العدل([14]).

وقال ابن فارس: الخُطَّة هي الحال؛ ويقال هو: بخُطَّةٍ سوْء. وذلك أنه أمرٌ قد خُطَّ له وعليه([15]).

وقولهم في المثل العربي: (في رأس فلان خُطَّة) قال العسكري: أَي فِي نَفسه حاجَة يَرومُها، ولَه أمرٌ يَطْلُبهُ، والجمع خُطَط، والخُطَّة الْخصْلَة، وَيُقَال هَذهِ خُطَّة خَسْف، وخُطَّة صِدْق.. تعني: الخَصْلَة([16]).

ومنه قولهم في كتب التراجم: وَلِيَ خُطَّة القَضاءِ في بَلدِ كَذا، يعنون منصب القضاء، أي تولى أمر القضاء في تلك الناحية([17]).

* فيتلخص ممَّا سبق:

أنَّ الخِطة -بالكسر- الأصل فيها: الأرض الَّتي يَختطُّها الرجلُ، بأن يُعلِّم عليها علامة بالخط تُميزها.

وأمَّا خطَّة -بالضم- فتُطلق: بمعنى الأمر، أو القِصّة، أو الحال، أو الخصلة من الخصال، أو الحاجة.

فالخِطَّةُ يُراد بها أمرٌ محدَّدٌ مفصَّلٌ بدِقَّة حتَّى يتميَّز عَن غيرهِ.

والخُطَّةُ حالةٌ أو خَصلةٌ مُجْمَلَة.

وإذا عُلِم ممَّا تقدَّم أنَّ لكلِّ واحدةٍ من الكلمتَين (خِطَّة) بالكسِر و(خُطَّة) بالضمِّ معنًى يتميَّزُ عن معنَى الكلمة الأخرَى، فالسؤال الذي يَرِد هنا:

ماذا نُسمي الورقة العلمية، المتضمّنة لوصف المشروع البحثي، التي يتقدم بها الباحث للموافقة عليها في مجال الدراسات العليا ونحوها؟

ـ هل الصحيح فيها أن تُسمى: (خِطَّة) بالكسر؟ أو(خُطَّة) بالضم؟

فالذي يترجَّح من خلال ما سبقَ بيانُه من معنَى الكلمتَين وإطلاقاتهما، أنَّ الصوابَ تسميتُها بـ(خِطَّة) بالكسر.

وذلك أنَّ وصفَ المشروع العِلمي يتضمَّنُ: أهميتَه، وأسباب اختياره، وتقسيم أبوابه وفصوله ومباحثه، وربما أُلحقَ به المنهج الذي سيتَّبعه في العمل فيه.

وهذه الأمور بمثابة وضع المعالم والحدود التي تُجعل في الأرض التي يختطّها الشخصُ لنفسه، أو لغيرِه.

فعليه؛ فالخِطَّة هنا -بكسر الخاء- استعارةٌ من قولهم: اختطَّ الرجلُ أرضًا، إذا جعل لها خُطوطًا ومعالمَ تتميز بها عن غيرها.

والقياسُ اللُّغوي فيها الكسرُ، كما قال الفيومي: إنما كُسرت الخاء لأنها أُخرجت على مصدر افتعل مثل اخْتطبَ خِطْبةً وارتدَّ رِدَّة وافْترَى فِرْية([18]).

وكذلك الأمر في الخِطَط الاقتصادية، فإنَّ واضعَها يرسمُ معالمَ ويضعُ إجراءات؛  يُؤمَّل من السير على وَفقها تحقيقُ أهدافِ تلك الخِطَّة.

ويَزيد ذلك وضوحًا أن حُذَّاقَ المشتغلين بآداب التأليف والبحث العلمي: يُشبِّهون تصنيفَ الكُتُب وتأليفَها بالشروع في البُنيان، فكما أنَّ من يبني دارًا يحتاج إلى إجراء تخطيطٍ لها، يُبين هذه الدار وحُجَرِها ومرافِقِها، فكذلك المؤلِّف لا بدَّ أن يكون متصورًا للخطوط العريضة لكتابه، قبل أن يشرع فيه، ليسيرَ فيه على منهجٍ أمثل، ويُخرج كتابَه بصورة أجود.

فخِطَّة البحث -الَّتي تُبيِّن أبوابَه وفصولَه ومباحثَه- شبيهةٌ بمُخَطَّط الدارِ الَّذي، يُحدِّد مكوِّناتها، ويُصوِّر كيفيتَها ومقاييسها.

ويظهرُ ممّا سبق أن (الخِطَّة) بالكسر أوضحُ ارتباطًا وصلةً بالخِطة العلمية للبحث من (الخُطَّة) بالضمِّ الَّتي يُقصَد منها: الخَصلة من الخِصال، والحال من الأحْوال، والأمْر من الأمور، ونحو ذلك. والله تعالى أعلم.

 

————————-

[1] ) مقاييس اللغة (2/ 154).

[2] ) مسند الإمام أحمد (الحديث 27049).

[3] ) النهاية في غريب الحديث (2/48)

[4] ) حاشية المسند (14/ 510).

[5] ) الصحاح (3/ 260).

[6] ) تهذيب اللغة (6/ 559).

[7] ) المصباح المنير (1/ 173).

[8] ) الجامع الصحيح (2731).

[9] ) المشارق (1/ 471).

[10] ) انظر: فتح الباري (5/ 339).

[11] ) عمدة القاري (14/ 7).

[12] ) شرح المعلقات السبع (ص 158).

[13] ) الصحاح (3 /260).

[14] ) تهذيب اللغة (13/ 126).

[15] ) مقاييس اللغة (2/ 154).

[16] ) جمهرة الأمثال (2/ 98).

[17] ) ينظر: تكملة المعاجم العربية (4/ 127).

[18] ) المصباح المنير (1/ 173).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى