العدد الخامسنصوص أدبية

هل لي أوبة لأندلس؟

هل لي أوبة لأندلس؟

زينب الأزبكي·

هل لي أوبة لأندلس؟
هل لي أوبة لأندلس؟

وأخيرًا أنا سائحٌ أوربيٌّ في الأندلس، أقول (أوروبي) وهذا ما تثبته أوراقي الرسمية. كان حلم السفر الأوربي يراودني ويأخذني بعيدًا أيامّ الإعدادي.. وما كنت أظن أني سأقف على ناصية الحلم دون قتالٍ وأجعله واقعًا وأنتصر ولكن بذراعٍ مفقودة جرّاء القصف على مدينتي..

تخيّلوا أنا في إسبانيا مع مجموعة من السيّاح ووصلت غرناطة.. مدينة السّحر والعطر، والجمال والظلال، والمياه المنْسابة، والموسيقى الحالمة، بلد الفلامنكو (الفلاح المنكوب) والمَواويل ذات النغمات الرّخيمة، فيها “قصر الحمراء”، مَعلَمة حضارية طبّقت شهرتها الآفاق. هذا ما افتتحتْ به دليلَتُنا السياحية كلامَها.. فتاةٌ ثلاثينية متوسّطة الطول ممشوقة القامة بيضاء ببشرة عربية، شعر بنيّ طويل، عينان ساحرتان، عشوائية الشامات.. تلبس زيًّا رسميًّا بلون نيلي ذكّرني بالبحر ليلًا حين عبرناه سباحةً، كنتُ أتلو ما حفظتُ من الأدعية متوسّلًا لننجو من هول ما عانيناه بعدَ أن غرق الزورق ونجوتُ بأعجوبة..

كانت دليلتُنا جميلة‏ ربّما ليست الأجمل بين الحضور الأنثوي، ولكنها جميلة بصورة غير محددة، بصورة خاصة، لا يُمكن شرحها بالكلمات، مثلَ بيتِ شِعرٍ يَفلتُ مَعناهُ مِن الُمترجِم لأنه عاجز.

أرى في عروقها دمًا عربيًّا.. ولكني ظللتُ مستمعًا نبهًا لما ستقول… وكعادة المرشد السياحي سيمجّد كل شيء في بلاده وينسب كل شيء إلى أجداده، أكملَت الحسناء وصفَ قصر الحمراء وأتت على ذِكر زفرة العربي الأخير أو ما أسمتها: زفرة المورو..

وهنا.. لا بد من أحد يرى الزاوية الأخرى التي غطاها المنتصر بسجف من الكذبات المحبوكة..

كان ساذجًا ربما لكنه لم يخن قط.. أبو عبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر وآخر ملوك المسلمين في الأندلس..

وبين كذبة البداية التي عزى بها النصارى هزيمتهم في معركة وادي برباط الخالدة وسقوط غرناطة كُتبَ لنا مشهد النهاية بعين المنتصر..

أرى ضعف القول بأن غرناطة إنما سلمها أبو عبد الله جبنًا وطوعًا ولولا خيانته لكنا نصول ونجول في البلاد بلا حد ولا قيد اليوم..

ما أشده من بلاء أن كونك آخر الملوك سبب كافٍ لتحميلك وزر سقوط حضارة بكاملها..

ولو بكى هذا الرجل ألا يبكي أقلّنا وطنية واعتزازًا بوطنه إذا أجبرته الحياة على الاغتراب فكيف بخارجٍ من غرناطة..

لم يسأل أحد ما الذي دفع أبا عبد الله إلى الموافقة على قرار التسليم، لا أحد يدري ما الذي يعني أن ترى شعبك محاصرًا ثماني سنين، فاليد قصيرة والأعداء يحيطون بك من كل جانب والحرب دامت عشر سنين بلا عون ولا مدد خارج حدود البلاد ولم تُبقِ شيئًا ولم تذر إلا الجوع والعويل.

لا أملك أن أدافع عن الرجل فالتاريخ ظالمٌ على المغلوب، إنما نريد أن يُنصف الرجل وأهله ولو بعد حين، سذاجة أبي عبد الله جعلته يصدّق أن القشتالين سيلتزمون بما جاء في المعاهدة من احترام للمسلمين وعدم المسّ بدينهم وتقاليدهم كأن لم يزل حكم الإسلام قط، وتجنب إراقة الدماء وإزهاق الأرواح… وهنا خانته فطنته التي أعمته في أن يستشعر مكرهم وأن يتبصر ما لا يرى من خداع حدث سابقًا في طليطلة وقرطبة وأشبيلية والمدن التي سبقت سقوط غرناطة بوقت طويل وما فُعل بها، ولو علم كمّ الدماء التي أريقت بعدها والأعراض التي انتهكت ما فكّر لحظة في التسليم ولو دام ما دام ولم يجدْ لهم عزمًا، ومع ذلك فلقد فعل ما استطاع ليفعله بَصير عين، قصير يد، حيث لم تخرق بنود المعاهدة إلا بعد عشر سنوات..

ما ذنبه إن لم يكن لهم توقير للعهود؟

غرناطة التي أراها الآن كانت آخر حبة لؤلؤ في عقد الأندلس النفيس، فلماذا لا نلوم من سمَح بتناثر حبات اللؤلؤ الأولى، الذين سبقوه، لِمَا عاثوه من فسادٍ بأرضٍ وزّعوها بينهم كما تُوزّع الذبيحة ونقَصوها من أطرافها بجحدٍ من الدنيا قليل، وكيف لبُنيان خرّ من فوقه ومن تحته أن يظلّ واقفًا إلا أن تهبّ عليه ريح خفيفة فتذره قاعًا صفصفًا!!

كانت تلك زفرةُ العربي الأخير أو زفرةُ المورو التي لم تحدُث إلا في خيال المنتصِر حين كتبَ تاريخَ سقوط الأندلس، وهو كل ما نتذكر من تاريخها، وكأنما يودّون إخبارنا أن المجْد الذي كسبناه بالقوّة سُلب منّا من غير حولٍ لنا ولا قوة، بالخيانة وتواطؤ مع الأعداء.

فهل كانت جملة “ابْكِ مثلَ النساء مُلكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال” حقيقيةً؟؟

ثمّ إنْ كنّا نلوم هذا الملِك.. فما بال بلادنا الآن؟؟ لو كانت لنا مِن زفراتٍ فلتكُن على البلاد التي أصبحتْ على شَفا حفرةٍ من الضياع قبل تلقّي الطعنة مرّتين..

غادرتُ المجموعةَ وأكملتُ مَسيرتي في شوارع غَرناطة وحيدًا مع صَمتِ تلك الأزقّة، وشعرتُ بصوتٍ يهمسُ في أذني ويقول لي: مرحبًا بك أيّها العربيّ مرةً أخرى بعد فراقٍ دام قرون..

الهوامش:

  • قاصة وكاتبة، من العراق.

اقرأ أيضًا:

ستعلو مآذن الأندلس قريبا

أوصى ابن الأحمر في مخطوطه القرمزي الأندلسي من تغريبة الأنصار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى