مقالات

أخطاء التحقيق في عتبة تاريخ الطبري

كيف أواري سوأة شيخي

أخطاء التحقيق في عتبة تاريخ الطبري

تاريخ الطبري
لم أكن أرغب في العودة إلى الرد بعد مقالتي السابقة، لكن أستاذنا بشار عواد معروف -سدده الله- أصرّ على أن يُثبِت ما لا يَثبُت في ميزان العربية ولا يَقبله منطق العقل ولا تُوافقه مناهج التحقيق.
وما أريدُ بهذا المقال نيلًا مِن قَدْره، فهو أستاذي وشيخي، لكن السوأة لا توارى بالعناد، والرجوع إلى الحق أكرم من الإصرار على الغلط، وأشرف للمرء في عيون تلامذته ومحبيه وسائر الناس.

أولًا: بين عطف المترادفات وإضافة بعضها إلى الآخَر:

لقد خرجَ علينا أستاذنا ببيانٍ يردّ فيه على مَن نبّه إلى غلط العنوان، وإذا به يتمسّك بالغلط وينسج له مسوّغات لو تأمّلها لقال كما نقول بالعامّيّة: (يا عيبة العيبة)، أو كما يعبّر الأعراب: (وا عيباه!).
فقد زعم أن في العنوان حذفًا وإيجازًا، فضبطُهُم له: “تاريخُ الملوكِ وأخبارِهم وموالدِ الرسلِ وأنبائِهم”، تقديره: “تاريخُ الملوكِ و(تاريخُ) أخبارِهم و(تاريخُ) موالدِ الرسلِ و(وتاريخُ) أنبائِهم”!
هكذا قال، ولم يُدرِك أنّ الإشكال فيه ليس بالحذف ولا بالإيجاز، وإنما الإشكال فيه بالعطف على المضاف، بل بالإضافة الفاسدة نفسِها؛ فإنّ (التاريخ) و(الأخبار) و(الموالِد) و(الأنباء) ألفاظٌ اجتمعت على معنى متقارب عند أهل صنعة التاريخ والسيَر -وأستاذُنا سيّد العارفين بذلك على ما أظنّ-؛ فلا يصحّ أنْ يضاف بعضُها إلى الآخَر، لأن الإضافة لا تكون بين المترادفات، وإنما يصحُّ فيها العطف. وإلى هذا أشرتُ في مقالي السابق، حيث قلتُ: ((فهل يُتصوّر أنه “تاريخ الأخبار”؟ أو “تاريخ الأنباء”؟ إنّ هذا التركيب يضعف الدلالة ويشوّه المعنى)).
وها أنا أسوق الآن أمثلةً تتضحُ بها تلك الإشارة، لعل أستاذنا يتنبّه إلى صواب ما نُبِّه إليه، بل لعلّ المصفّقين له مِن المنتسبين إلى اللغة وآدابها ينكسفون!
لو قال قائل: (هذا مقَرُّ الشركةِ ومكانِ العمَلِ) هكذا بجرّ “مكان”، أفَيكون تعبيره مستقيمًا، وكلامه دالًّا؟ أم يكون لحنًا، ودلالته فاسدة؟ وسيكون الصحيح الذي لا مرية فيه، هو أن يقول: (هذا مقَرُّ الشركةِ ومكانُ العمَلِ) بعطف “مكان” على “مقرّ”.
فكذلك لا يقال: “تاريخ الملوكِ وأخبارِهم” على أن تكون “الأخبار” مضافة إلى “التاريخ”، لأنهما مترادفان. وكذلك “الموالِد” فهي أيضًا من ضروب التأريخ، وتعني في اصطلاح المؤرخين: (السِّيَر). ومثلها: “الأنباء” فهي ليست شيئًا خارجًا عن هذا الباب. فجَعْلُ هذه المصطلحات مضافةً إلى “التاريخ” مجرورةً بالإضافة، هو إفسادٌ للمعنى. والصواب الذي لا يجوز خِلافه أن تُعطَف مرفوعَةً: (تاريخُ الملوك وأخبارُهم، وموالدُ الرسل وأنباؤُهم).
وفي هذا ردٌّ أيضًا على (المفتي اللغوي!) سليمان العيوني في زعمه جواز الوجهين، وإن كان يرى العطف على “التاريخ” أرجح من الإضافة إليه.

ثانيًا: بين الشواهد اللُّغوية والنُّسَخ الخطّيّة:

أمّا استشهاد أستاذنا بشّار عواد معروف -حفظه الله- ببعض الآيات القرآنية الكريمة، ليخلُص إلى أنّ العربية تحتمل الحذف والإيجاز، وأن عنوان الكتاب سائغ على هذا الوجه؛ فأقول: إنّ هذه الاستشهادات جاءت في غير موضعها، لأنّ القرآن أتى بقرائن تُبيّن المحذوف المعروف لدى السامع والمتلقّي، فيُفهم المعنى دون لبس. أما هذا العنوان الذي بين أيدينا فإنّ تقدير ما قدّره أستاذنا فيه، هو تقدير قائم على إضافةٍ فاسدة في أصلها؛ فلا يصح أن تُتخذ شواهدُ الإيجاز القرآني ذريعةً لتسويغ فساد التركيب والدلالة.
ولكنّ أستاذنا لم يكتفِ بهذه الاستشهادات التي في غير محلّها، بل زاد على ذلك أنّه اعتمد في هذا الضبط على النُّسَخ الخطّيّة التي أثبتَت هذا العنوان.
وهذا زعمٌ لا صحّة له؛ فليس في أيٍّ من هذه النُّسَخ ما زعمَه، بل فيها خلافُه، وهو أنّ هذه المخطوطات أثبتت العنوان على هذا النحو: (كتاب تاريخِ الملوكِ وأخبارِهم وموالدِ الرسلِ وأنبائِهم [والكائنِ كانَ في زمنِ كلِّ واحدٍ منهم])، وليس في هذا شاهد لما زعمه أستاذنا، لأنّ الجرّ هنا جاء نتيجة العطف على “التاريخ” التي جاءت مجرورةً بالإضافة إلى “كتاب”. وهذا ما صرّحتُ به في مقالي السابق حيث قلتُ: ((ويمكِنُ أن يكون الجرُّ صوابًا لو أنّهم ضبطوا “تاريخ” بالجرّ، مضافًا إلى “كتاب” المقدّرة، فيكون المعنى: “هذا كتابُ تاريخِ…”، ويؤيّد ذلك ما جاء في بعض نسخه المخطوطة)).
وثمَّة ملحظٌ مهمٌّ هنا، وهو: إنْ كان أستاذنا يرى أنّ هذا العنوان المثبَت على هذه النسخة هو العنوان الذي وضعه المؤلّف، وأنّه لم يسمح لنفسه بتغيير شيء من حركات ضبطه؛ فكيفَ سمحَ لنفسه أنْ يحذفَ تتمّة العنوان [والكائنِ كانَ في زمنِ كلِّ واحدٍ منهم]؟!
نرجو أن نرى الجواب عن هذا في مقدّمة التحقيق، وبِحُجَجٍ صحيحةٍ ليست من جنس هذه الحجج التي ساقَها في بيانه هذا.
والملحَظ الأهمّ –وهو ملحَظٌ منهجيٌّ في صنعة التحقيق-: أنّ معرفة دلالة العنوان كافية في ضبطه من جهة الإعراب، ولا يُشترَطُ الالتزام بضبط ناسخ المخطوطة، لأنّه لا دليل على أنّه نقلَ ضبْطَ المؤلّف، بل الغالب فيه أنّه مِن ضبْطِ الناسخ نفسه. إلا إذا كان المؤلّف نَصّ على ذلك، كأن يصرّح بكون كلمةٍ منه مجرورةً على الإضافة، أو بكونها منصوبةً على الحال، أو غير ذلك.
ومما يؤكّد هذا المنهج في صنعة التحقيق: أنّ من العلماء مَن يسمّي كتاب ابن حبّان: (المجروحون)، مرفوعًا على الابتداء أو الخبرية. ومنهم مَن يسمّيه: (المجروحين)، مجرورًا على الإضافة إلى لفظة “كتاب” المقدَّرة. ومثل ذلك كتُب الأربعينات، فمنهم مَن يقول: (الأربعون حديثًا…) ومنهم مَن يقول: (الأربعين…)، وكلاهما صواب، ولا يُقال في ذلك: إن المؤلف أراد الرفع ولم يُرد الخفض، أو العكس.

ثالثًا: بين عنوان الكتاب وكنية المؤلّف:

مِن أعجب ما في ردّ أستاذِنا بشّار، أنه أعرضَ عن قضية «أبي جعفر»، فلم يعلّق عليها، وهي أصلَحُ شاهدٍ على تناقض مَنهجِه.
فإنّ مخطوطات تاريخ الطبري -فيما اطّلعتُ عليه- جاءت كنية المؤلّف فيها هكذا: «تأليف أبي جعفرٍ» أو «لأبي جعفرٍ» مُنوَّنةً مصروفةً. وهذا هو الموافق لما عليه أهل اللغة، فاسْم «جعفر» اسم مصروف لا خلاف فيه. ولا يُعرَف عن أحدٍ من النحاة أنه منعه من الصرف.
فكيف يزعم الشيخ التزام المخطوط، ثم يمنع «جعفر» من الصرف، والمخطوط نفسه لم يمنعه؟ وكيف يُعرِض عن قاعدة نحوية مجمَع عليها؟
وأخشى أن يكون سكوته عن هذه القضية، وتجاهله الردّ عليها، دليلًا على أنه أراد أن يُشغل القارئ بالنقاش حول العنوان ليغطي على هذا الخلل، فإذا به يزيده انكشافًا.
وقد ردّ على أستاذِنا غيرُ واحد من أهل العلم والباحثين في قضية (العنوان)، وبيّنوا أن ما ذهب إليه باطل في العربية، لكنني لم أجد أحدًا تنبّه لقضية «جعفر» غَيري، فكنتُ أوّل مَن أشار إليها، وأملت أن يصححها المحققون قبل نزول الكتاب إلى المعارض والمكتبات.
ثم جاء مِن بَعدي (المفتي اللغوي) سليمان العيوني، فاستعارَ هذا الملحظ وردّ به على أستاذنا، دون أن ينسب الفضل إلى صاحبه! وما ذلك إلا دليل على أن الفكرة قويةٌ ظاهرة، حتى إنّ غيري لم يسعه إلا أن يتبنّاها وكأنّها من مكتَشَفاته.

ختامًا:

لقد أراد أستاذي المحقّق الكبير والمؤرخ الشهير أن يواري أخطاءه بِحُججٍ واهية، فإذا به يكشفها أكثر من ذي قبل، والحق أبلج لا يحتاج إلى زخارف تعمية. واللحن لا يُستر بالجدل، بل يُعالَج بالعلم، والاستكانة له، حتى لو كان كاشفُه أصغر التلاميذ.
والعناوين التي هي واجهة الكتب وعتبة النصوص، لا يجوز أن تُبنى على فسادٍ في التركيب والدلالة.
وأما «جعفر»، فصرفُه إجماع، والتزامُه في المخطوطات يقين، وإعراض الشيخ عن ذلك شاهدٌ عليه لا له.
فمَن رام ستر السوأة بالعناد فضحَ نفسَه، ومَن رجع إلى الحقّ علا قدرُه وازداد جَلالًا وعظَمة.
والله المستعان، وعليه التكلان.
وكتَب:
ليلة الرابع من ربيع الآخر، 1447هـ
يوافقه: 26/ 9/ 2025م

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى