العدد الرابعمقالات

المؤرخ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف رجل بأمة

رجلٌ بأمّة

 (4)

المؤرخ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف
رجلٌ بأمّة

إياد عبد اللطيف القيسي

المؤرخ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف 
رجلٌ بأمّة

 

وأخيرًا رحل الدكتور عماد عبد السلام رؤوف تاركًا خلفة فراغًا بين أهل العراق عامّة، وبغداد خاصة، لا يُملأ، وليس يسيرًا أن يعوَّض.

التقيته سنة 1977م في مكتبة الشيخ عبد القادر الكيلاني، وهو يعمل بصمت في مخطوطاتها، وكنت -وأنا شاب صغير- أستشعر هيبة الرجل ودماثة خلقه، وإذا بادرته بسؤال تكلّم بعمقٍ ومعرفة، وكنت قد التقيته مرارًا في المكتبة القادرية، وألفيته منكبًا على مخطوطاتها.

وكنت أطالع ما يكتب في مجلة المورد ومجلة سومر، فلي- ولله الحمد- ولع قديم في معرفة كتابات القرون المتأخرة، كما عندي شغف في معرفة خطط مدينة بغداد: محلاتها، مساجدها، منذ العصور العباسية إلى يومنا هذا، وهذا ما كنت أطالعه في مؤلفات مؤرخي العراق: د.مصطفى جواد، د.أحمد صالح العلي، ود.حسين أمين، وخاتمتهم الدكتور عماد عبد السلام رؤوف.

والدكتور عماد رغم أرومته الموصلية، لكنها بغدادي أصيل، من مدينة الأعظمية، وهو عندي خاتمة المؤرخين الخططيين الذي اهتموا كثيرًا بعصور بغداد المتأخرة، فحقق مخطوطات نادرة حول تاريخها وحوادثها، وكان ما طبع في هذه الحقبة شحيح، وقليل من الناس مَن يدرك أهمية هذه الحقبة من التاريخ، وتراجمها ورجالاتها وأعلامها.

وقد كان حريصًا على تحقيق مؤلفات هذه الحقبة، فله أكثر من 40 عملًا بين تحقيق وتأليف في ذلك، وكان يشعرك في هوامشها بأنه يمتلك مخطوطات كثيرة جدًا لم تُطبع؛ وكلما ظهر كتاب جديد له، فهو يعد كنزًا جديدًا لأهل العراق، ولطالما تمنيتُ أن يطول عمره أكثر ليخرج لنا كنوزًا جديدة.

لقد كنتُ أشعر وأنا أطالع مؤلفاته وأنظر إلى كلماته في هوامش التحقيق بأنها حبلى بالمعلومات الغزيرة التي يندر أن تجدها في مكان آخر.

إن تاريخ مدينة بغداد القريب مهمٌ، ويكتسب أهميته بعد الاحتلال سنة 2003م، فقد بدأ المستعمر وذيوله يغيّرون من معالم بغداد وتاريخها، مستخدمين تزوير التاريخ بشكل جليّ لإثبات أحداث مزورة، ممارسين بالقوة إبراز أكاذيب واضحة في تغيير تاريخ بغداد ومَعلمها وخططها، وكانت كتابات د.مصطفى جواد أو كتابات الدكتور عماد عبد السلام رؤوف تُعدّ وثائق نادرة لإثبات ما يزوره ويحرفه هؤلاء.

بغداد مدينة السلام التي غادرها الكثير من الأحبة من أهلها بعدما شعروا أنها لم تعد مدينة للسلام والأمن، لكن الدكتور عماد لم يذهب بعيدًا فقد سكن مدينة أربيل في كردستان العراق، ومن هناك أكمل مسيرته العلمية العظيمة.

كنّا نستشعر ذلك قبل عشر سنوات وبغداد تُغزى من غير أهلها، ويسكنها أناس جدد، بثقافة جديدة غريبة، وكنّا نقول: محنة ليس لها من أهل العلم غير مؤرخنا الراحل عماد عبد السلام رؤوف -رحمه الله- وهي كذلك، وقد فاتحه بذلك بعض الفضلاء بمشروع تثبيت كتب جديدة تتكلم عن معالم بغداد وتاريخها الذي يراد أن يطمس عمدًا ليصنعوا لها تاريخًا محرفًا مزورًا، فأبدى استعداده لذلك.

وفي معالم شخصية الدكتور جانب آخر، ألا وهو جانب العروبة وحب الإسلام، فالدكتور عماد لم يتلوَّث بالقومية التي مزجت بين العروبة والأفكار اليسارية الوافدة من الغرب إلينا، بل هو عروبي إسلامي، يدرك أهمية الشخصية العربية ودورها التاريخي؛ ولذا يكتب عن الشخصية العربية ودورها في حمل راية الإسلام ونقلها إلى بقية الأمم لنشر الإسلام، ويفرق بينها وبين الشخصيات الشعوبية التي شوهت تاريخ الإسلام وحضارته، ويختلف هو عن القوميين أنه على إدراكه لأهمية العروبة، فهو ينظر بفخر إلى بقية الأمم كأمّة الترك ودورها في حماية الإسلام؛ سواء في العهد السلجوقي أو عصر المماليك والدولة العثمانية، بخلاف القوميين الذين يمارسون تزويرًا تاريخيًا بجعل هذه الأمم مُستعمرة لبلاد العرب.

والجانب العظيم في شخصية هذا الطود الشامخ هو: جانب حبه للإسلام، فقد كان الدكتور عماد حريصًا على الإسلام ورجالاته وتراجمهم، وفان إذا تناول شخصيةً ما، سواء من أهل العلم أو الحكم أو الصناعة، يحيطها من كل الجوانب، مبينًا جميع الجوانب مما لا تجده في مصنّف آخر، ويصحح الأخطاء أو يعدّلها، ويصف مؤلفاته بشكل تفصيلي، وتتمنى لو أنه انبرى لتحقيق جميع هذه الأسفار المذكورة.

ولم يكن كغيره من بعض المحققين يحتكر الأعمال، بل يحث غيره على تحقيق المخطوطات حتى التي يمتلكها هو -وهي من النوادر-.

ولا يفوتنا ذكر ميزة للدكتور عماد تشبه إلى حدٍ ما مؤرخ العراق عباس العزاوي -رحمه الله- في مشاهدته أماكن التاريخ بنفسه، ووصف ما شاهده عيانًا.

الكتابة عن هذا الرجل جميلة ومؤلمة في ذات الوقت، فقد رُزئ العراق بفقد عالم لا يعوَّض، فهو رجل بأمّة، ونسيج وحده، وإن تعويضه يكون بمؤسسة تحذو حذوه وتسير على خطاه التي رسمها لأبناء هذا البلد الجريح.

وأخيرًا:وصية من محب لأمته وتاريخها التليد حول مؤلفاته: لقد تناثرت تحقيقاته ومؤلفاته وكتاباته الصغيرة والكبيرة في عدد من دور النشر في داخل العراق وخارجه، وتحتاج إلى تجميع إلكتروني، وتصويرها في مكتبات العراق، لتكون الأعمال الكاملة بين يدي الأمة، كي يستمد جيلنا والأجيال القادمة نهجه وهمته، ولو انبرى بعض الفضلاء لتجميع مقالاته في الصحف الورقية والإلكترونية للمّ شعث المتفرق منها.

رحم الله الدكتور الفاضل عماد عبد السلام رؤوف بما قدّم، وأجزل الله له المثوبة ورفع قدره، آمين. آمين.

 

اقرأ أيضًأ:

التاريخ والذكريات

التقاطة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى