العدد الخامسمقالات

نقائش الحمراء وإشاراتها

نقائش الحمراء وإشاراتها

جابر خليفة جابر·

نقائش الحمراء وإشاراتها
نقائش الحمراء وإشاراتها

وأنت تتمشى مع طقس مشمس منعش بدرجة حرارة 16 مئوي في مدينة مار دل بيلاتا على الساحل الأرجنتيني  ستندهش بمبنىً أمامك، تزينه نقوش الأرابسك وتعتليه قبة ومنارة، أنت أمام مسجد على الطراز الأندلسي المعروف بفن المدجنين (والمدجنون هم الأندلسيون قبل 1492م، الذين لم يغادروا مدنهم بعد استيلاء الممالك الإسبانية عليها وبقوا تحت سلطة الإسبان) ولا شك وأنت تندهش لمشهد المسجد في تلك المدينة البعيدة عن الشرق وعن الأندلس ستشدّك حروف وكلمات الشعار الأندلسي المعروف (لا غالب إلا الله) هذا الشعار الذي تزدان وتزدحم به جدران وأفاريز وأبواب وواجهات قصر الحمراء في غرناطة بإسبانيا، ثمة خيط يضيء الذاكرة ويمتد من الساحل الآخر الأرجنتيني إلى الأطلسي وحتى السواحل الجنوبية الشرقية لإسبانيا على البحر المتوسط وصعودًا منها إلى غرناطة وتل السبيكة حيث قام محمد بن يوسف بن الأحمر بتمرده بالتزامن مع ثورتي زيان بن مردنيش ومحمد بن هود مستغلين ضعف الدولة الموحدية وتراخي قبضتها على الأندلس، ثم انفرد محمد بن يوسف ابن الأحمر بالحكم فيما تبقى من الأندلس إذ اضطر الأمير زيان بن مردنيش بعد سنوات من سقوط بلنسية إلى اللجوء إلى السلطان الحفصي في تونس، وأدت شهوات ابن هود إلى مقتله من أجل جارية رومية جميلة نافسه عليها عامله على المرية المدعو بالرميمي!

لطخة العار هذه والفعلة المتدنية من أقوى قادة الأندلس حينذاك وبلاده ومدنه ومنها العاصمة قرطبة تحت خطر الجيوش الإسبانية ليست بالوحيدة وما أكثر اللطخات التي شوهت صفحات الكتاب الأندلسي الجميل بحضارة شعبه وتضحياته ومجاهديه.

نعم ما أكثر اللطخات التي تجعلنا على الرغم من جمال الوجود الإسلامي في الأندلس نشعر بالخجل، ومنها ما يتعلق بهذا الشعار المنقوش بحروف عربية على واجهة ذاك المسجد الأرجنتيني البعيد وأعني شعار سلطنة غرناطة وحكامها (لا غالب إلا الله) الذي زينوا به قصورهم ومساجدهم وصار مع الزمن شعارًا للأمة الأندلسية الشهيدة كما وصفها أحد الكتاب.

بعد هزيمة الجيش الموحدي في معركة العقاب بقيادة الخليفة الموحدي الناصر سنة 609 هـ  وتمزق البيت الموحدي واقتتال الأمراء الموحدين مع بعضهم ومن ثم اندلاع ثورات الأندلسيين وزحف الإسبان واستيلاؤهم على مدن الأندلس الكبرى بقيت إشبيلية صامدة ممتنعة وعصية حتى سنة 646 هـ / 1248م وكان ابن الأحمر قد خاض حربًا عنيفة للدفاع عن غرناطة ثم اضطر لتوقيع اتفاقية مع مملكة قشتالة أقوى وأكبر الدول الإسبانية وبموجبها تنازل عن مدن عديدة وقدم جزية ضخمة سنوية وتعهد بمساعدة الإسبان في حالة الحرب، وهكذا كان الجيش الغرناطي بقيادة محمد بن يوسف بن الأحمر متواجدًا عند أسوار إشبيلية، حمص الجند وعروس الأندلس، وعاصمة الموحدين حيث عاش ابن الطفيل صاحب “حي بن يقظان”، وابن زهر الطبيب والفيلسوف الكبير، وابن رشد وما أدراك ما ابن رشد ذاك الذي كان يخاطب خليفة الموحدين بعبارة يا أخي، وما أثقل هكذا عبارة على سلطان يعد نفسه خليفة وأميرًا المؤمنين، بل ويسميه في إحدى كتاباته بملك البربر، والحديث يستدرجنا ليطول، فنقف ونعود إلى إشبيلية المحاصرة بجيوش فرناندو ملك قشتالة وحليفه العربي المسلم أمير غرناطة وسلطانها الغالب بالله كما يصف نفسه، وطال الحصار واشتدت معاناة الإشبيليين حتى اضطروا للاستسلام سنة 646هـ وفي الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك سقطت إشبيلية الجميلة بعد سبعة عشر شهرًا من الحصار القشتالي المدعوم بجيش غرناطة وقائده ابن الأحمر (الغالب بالله).

وعاد الغالب بالله بجيشه المنتصر شكليًا والمهزوم نفسيًا إلى غرناطة واستقبله شعبه، وهنا الألم أوجع، استقبله أهالي غرناطة وهم يهتفون الغالب الغالب الغالب، ولكن ابن الأحمر يدرك في قرارة نفسه أنه في حال أسوأ حتى من حال الإشبيلي المغلوب، فرد عليهم بانكسار: لا غالب إلا الله.

منذ ذاك صارت عبارته هذه شعارًا لدولته ومن ثم شعارًا للأندلسيين حتى بعد أن اختفوا من جغرافيا الأمم تمامًا ولم يتبق منهم الآن سوى شتات هنا وهناك وسوى تأريخهم يذكرنا بجمال ذاك الشعب العظيم وحضارته، ولكنه يذكرنا أيضًا ويوجعنا بتلك اللطخات المخزية وفي مقدمتها شعار (لا غالب إلا الله)، نعم لا غالب إلا الله ولكنها كلمة حق وجمال تخفي خلفها باطلًا وقباحة، عارًا وخيانة ما زلت تتناسل وتتكرر من يوم استقبال ابن الأحمر -وهو عائد من سقوط إشبيلية- من قِبل الغرناطيين، وقبل ذاك اليوم وحتى يومنا هذا، خيانات وغدر وعمالة، ورحم الله شاعرنا بدر شاكر السياب وهو يتساءل مندهشًا:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده ؟

إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون ؟

وبعده قال نزار قباني وهو يتوجع من الخونة والعملاء وينتصر لأطفال انتفاضة الحجارة الفلسطينيين أواخر ثمانينات القرن العشرين:

آه يا جيل الخيانات

و يا جيل العمولات

و يا جيل الدعارةْ

سوف يجتاحك مهما أبطأ التأريخ أطفالُ الحجارةْ !

ونقول له: لم يزل التأريخُ بطيئًا، ولكن أطفال الحجارة يكبرون ويكبرون ويكبرون.

ونعود إلى غرناطة وإلى نقائش قصر الحمراء وأوجاعها، فإلى جانب شعار بني الأحمر (لا غالب إلا الله) تزدان الحمراء بنقائش أخرى لمدائح الشعراء لسلاطينها وكأنما يريدون بتلك القصائد المدائح محو عار ولطخة حصار إشبيلية وسقوطها.

قصائد مطولات نقشت على جدران الحمراء وزينت أفاريزها كتبها شعراء عدة تزلفًا لسلاطين غرناطة وطمعًا بعطاياهم وجوائزهم لكن أغلبها -أو حصة الأسد منها- كانت لوزيرهم أديب السلطنة وشاعرها محمد بن يوسف بن زمرك، أشعار وقصائد ينظمها موضوع واحد وهو مدح السلطان، سلطان غرناطة طبعًا، وابن زمرك هذا التحق للعمل عند السلطان بمساعدة ورعاية تامة من أستاذه ابن الخطيب الوزير والمتنفذ في البلاط الغرناطي، وليس ابن زمرك وحده من وفر له ابن الخطيب المساعدة والرعاية فهناك ابن مالقا المدينة القريبة من غرناطة: القاضي علي بن عبد الله النباهي (أو البناهي على رأي الباحث المغربي محمد بنشريفة) ومعهما أحمد بن سليمان بن فركون، وقد تدرج الثلاثة بل ترقّوا بسرعة ونالوا حظوة عند السلطان بفضل ابن الخطيب وشغلوا وظائف عالية، لكنهم وخاصة ابن زمرك والنباهي كادوا لأستاذهم أيما كيد، وبغوا عليه أشد البغي، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وكيف يسيء تلميذ إلى أستاذه ؟ هلا قرؤوا قصة ابن المقفع الأديب العراقي البصري البارع مع أستاذه عبد الحميد الكاتب وكان آخر كتّاب الأمويين، حين دخل الحرس العباسي يريدون عبد الحميد لقتله، فوجدوهما معًا ولم يتبينوا من هو المطلوب منهما فسألوهما: أيكم عبد الحميد الكاتب؟ وحالًا أجابا معًا بكلمة: أنا! كلاهما قال أنا عبد الحميد، قالها الأستاذ كي لا يقتل تلميذه، وقالها التلميذُ ليفتدي أستاذه!

ولكنها النفوس الضعاف المتدنيات وقبيح الفعائل، فقد جدّ القاضي النباهي المتفقه وأكثر منه الشاعر الأديب ابن زمرك، واجتهدا كل الجد والاجتهاد للإيقاع بسيدهما وأستاذهما، فكفره النباهي بمبررات واهية، وسعى ابن زمرك للقبض عليه مستغلًا حنق ابن الأحمر من لجوء ابن الخطيب للمغرب، وما أن تمكن سلطان غرناطة منه، حتى عبرا البحر طائرين فأُحضرَ شيخهما أمامهما مستضعفًا مقيدًا وقد تجاوز الستين من عمره وحاكماه بتعجّل المتعطّش إلأى دم أستاذه والمحترق بنار أحقاده عليه، وتم كل ذاك بإشراف شخصي مباشر من تلميذه ابن زمرك من دون أدنى خجل أو حياء ولا ذرة رحمة، وأودع ابن الخطيب السجن.

ولم يكتف ابن زمرك بذلك ولم يهدأ حتى أرسل إليه من يخنقه في سجنه، وهكذا تم دفنه رحمه الله، ولكن ابن زمرك بقي متقدًا بجمرة حقد أعمى ولم يتوقف عند هذا الانتقام، ولم يشفِ موت الرجلِ غليله، فأخرج جثمان ابن الخطيب وأحرقه مع كتبه!

وإذا كنا استغربنا من الفعل المشين لمحمد بن يوسف بن هود وهو يترك قرطبة عاصمة الأندلس تواجه مصيرها ويذهب للمرية قصد أن يستمتع بجارية جميلة فكانت نهايته بسببها عادلة إذ قُتل خنقًا قبل أن ينال وطره منها، وإذا استنكرنا خيانة محمد بن يوسف بن الأحمر مؤسس سلطنة غرناطة حين شارك بجيشه -مضطرًا كما نتوقع- مع الجيش القشتالي في محاصرة إشبيلية سبعة عشر شهرًا حد القتل والتجويع حتى سقطت بيد الإسبان، فإن العجب العجاب هو مما فعله القاضي والمثقف -بمصطلح اليوم- ابن النباهي بمن أعانه وساعده، وبما اقترفه محمد بن يوسف بن زمرك وهو شاعر لامع وأديب بارع بأستاذه مؤرخ الأندلس وأديبها الكبير ابن الخطيب، وليّ نعمته وصاحب الفضل عليه، حتى بلغ به الحقد وانحدرت به شهوة الانتقام حد أن يخنقه ويحرق كتبه وجثمانه!

هكذا وأنا أقرأ عبارة (لا غالب إلا الله) المنقوشة على واجهة مسجد مار دل بيلاتا تذكرت محمد بن يوسف ابن الأحمر وفعله المشين مع إشبيلية وشعبها، وأخذتني الذاكرة لأشعار محمد بن يوسف بن زمرك وجريمته الشنعاء مع أستاذه ابن الخطيب وكتبه التي طالما تعلم منه ومن أفكاره ومعارفه، وقادني هذان الخائنان إلى استحضار سميّهما محمد بن يوسف بن هود، نعم هكذا وجدت نفسي أمام أولئك الثلاثة المسمين بمحمد بن يوسف: ابن الأحمر وابن زمرك وابن هود، وقلتُ: نَعم لا غالب إلا الله، ونِعم بالله من منتقم جبار فقد نال ابن هود جزاءه، وقضى ابن الأحمر جريحًا بسيف غرناطي وهو في الثمانين من عمره، وكان جزاء ابن زمرك قاسيًا وعنيفًا ودمويًا كفعلته بأستاذه، فقد غضب عليه سلطان غرناطة ومزقته السيوف وهو يحمل المصحف بين يديه علهم يرأفون به، بل وقتلوا حتى من كانوا معه ببيته عدا النساء المرعوبات الثكالى، ولعل محبي ابن الخطيب حينها وعلى تعاقب الأجيال وحتى عصرنا هذا وما بعده على يقين قاطع بأن العدالة الإلهية هي من اقتصت من ابن زمرك وليس سلطان غرناطة، ولا شك أنهم في يقينهم على حق.

ترى هل كان مشيّدوا مسجد مار دل بيلاتا يعرفون ما وراء نقائش مسجدهم من حكايات ؟

وهل سيتسنى لمصليه أن يروا يومًا ما أخفته العبارة التي زينوا بها واجهته من ظلال مظلمة بعيدة كل البعد عن معناها وما تلطخت به حروفها من دماء؟

وهل يعرف السياح المتزاحمون على مشاهدة الحمراء في غرناطة ما وراء تلك النقائش من غدر وخيانات؟

أنا واثق أنهم لم يعرفوا بعد، ولا أدري ما هي ردة فعلهم لو عرفوا، ولكنني أتوقع أنهم كحد أدنى سيعيدون صبغ واجهة مسجدهم -وربما حتى جدرانه- بالأحمر بدلًا عن الأبيض والأزرق، تمامًا كما هو حال قصر غرناطة الشهير، وسيلعنون محمد بن يوسف الثلاثة، أولاد هود والأحمر وزمرك، وسيقرؤون سورة الفاتحة المنقوشة بالداخل ولو بعربية مكسرة لروح ابن الخطيب ولكل شهداء إشبيلية والأندلس، ويقيمون -مع قلتهم على ساحل الأطلسي البعيد- الصلاة.

حقا لا غالب إلا الله بدءًا ودائمًا وأبدًا..

لا غالب إلا الله: هكذا تتحدثُ لنا وقائع التأريخ..

وهكذا تقولها واضحة بإشارتها: نقائشُ الحمراء.

الهوامش:

  • روائي وناقد ومؤرخ وسياسي، من العراق.

اقرأ أيضًا:

نقش أندلسي

عودة الإسلام إلى غرناطة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى