النكسة المعكوسة وميلاد الوعي الجديد
النكسة المعكوسة وميلاد الوعي الجديد
لم تكن الحرب الأخيرة على مدى عامَين فصلًا عابرًا في تاريخ القضية الفلسطينية، بل كانت صفحةً جديدة في وعي الأمم العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء. فإن هذه الحرب لِمَن رآها بعين عقله الحاذق وقلبه الصادق، يجدها ارتدادًا للنكسة القديمة على وجهها المظلم، حتى غدت النكسة معكوسة؛ فبدل أن تُصاب بها الأمة، انقلبت على عدوها، فاضطرب وجدانه، وانكشفت أسطورته، وتهاوت أكاذيبه التي طالما تغذّى عليها وجدان الغرب والشرق معًا.
منذ اللحظة الأولى للطوفان، حاولَت المنابر المأجورة والمحجورة أن تجعل المقاومة مذنبة في عين الشرع والتاريخ، وأن تصوّر فعلها ككارثة جلبت الويلات على أهلها. لكنّ هذا الادعاء في جوهره خيانة للوعي وتشويه لصورة الواقع، إذ يغفل عن أنّ ما جرى لم يكن مغامرةً عمياء، بل ضربةً استباقية أعدّتها المقاومة بذكاءٍ استخباري نادر، حين رأت أنّ العدوّ يُعِدّ لابتلاع ما تبقّى من الأرض والحقّ والذاكرة. لقد سبقتهم إلى المعركة، لأنّ من ينتظر العدوان في زمان الخداع إنما يُساق إلى الذبح صامتًا.
وما لبثت تلك الضربة أن غيّرت وجه الصراع: فجيشٌ كان يُروَّج له بأنه لا يُقهر، وجد نفسه حائرًا في دهاليز المستوطنات المحترقة، عاجزًا عن استعادة المبادرة، مضطرًّا إلى الاستنجاد بالعالم، ثم مضطرًّا أيضًا إلى الجلوس على طاولة المفاوضات مرّاتٍ ومرّات، وهو الذي طالما أقسم ألا يفاوض “الإرهاب” ولا يجلس مع من يقاومه. فأيُّ انقلابٍ أعمق من أن يتحوّل المعتدي إلى متوسّلٍ بالوساطة؟!
إنّ الذين يزعمون أنّ المقاومة جرّت الخراب على أهلها، إنما ينظرون بعينٍ عوراء لا ترى إلّا الدمار المادي، ولا تبصر النصر المعنوي والسياسي الذي تحقّق. فهل تُقاس القضايا الكبرى بعدد البيوت المهدّمة أم بمدى انكسار هيبة العدو؟ وهل النصر في معركة الحرية يُقاس بعدد الشهداء، أم بمدى اهتزاز يقين المحتلّ بعدالة وجوده؟!
إنّ أولئك الذين يزعمون أنّ المقاومة جرّت الخراب على أهلها، لا يدركون أنّ كلَّ مقاومةٍ عظيمةٍ في التاريخ دفعت ثمنها بالروح والدم، وأنّ الأمم لا تُقاس بعدد بيوتها المهدّمة، بل بقدرتها على أن تنهض من الركام وهي أكثر وعيًا وكرامة، وهكذا كان، فمع كل بيتٍ يُهدم، كان وعيٌ جديد يُبنى؛ ومع كل شهيدٍ يُزفّ، كانت أمةٌ تستيقظ من سباتها الطويل.
إنّ الأمم العظيمة لا تُقاس بسلامتها من الجراح، بل بقدرتها على تحويل الجراح إلى رموز حياة، وهكذا فعلت المقاومة حين جعلت من أنقاضها منابر للكرامة، ومن دمائها راياتٍ في وجه الطغيان، ومن ثباتِها سبُلًا إلى التحرير الشامل.
إنّ آلة الاحتلال -مع بطشها وجنونها ووحشيتها ودعمها اللامحدود من الدول الكبرى- قد فشلت في تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنة: فلم تستأصل المقاومة، ولم تستعد أسراها، ولم تسترد هيبتها، بل خرجت مثقلةً بالخيبة والذعر، مع ضعفٍ طال جميع أركان كيانها المزيف، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا وتقنيًا وإعلاميًّا، والأهمّ من ذلك كلّها: ضعفها وجوديًا. حتى اعترف كبار قادة الاحتلال أن النصر الذي وعدوا به شعبهم قد تلاشى في ركام الحرب. وهنا تجلّت المفارقة: أنّ النكسة التي أرادوها للمقاومة انقلبت عليهم، فبدت وجوههم في الإعلام شاحبة، يطلبون هدنةً بشروطٍ لم يجرؤوا على إعلانها صراحة.
لقد تحوّلت الهدنة التي أرادها الاحتلال مخرجًا من الفشل إلى شاهدٍ على كرامة أصحاب الحق، فالمفاوضات لم تكن هذه المرة اعترافًا بالضعف، بل تتويجًا للصمود، إذ لا يُفاوِضُ الضعيفَ القويَّ، وإنما يُفاوض مَن استطاع أن يفْرض على خصمه الكلفة، وأن يجعله يعترف بأن الحرب لا يمكن كسبها.
لقد تغيّر وجه العالم، فلم يعد الرأي العام الغربي كما كان، ولا النظرة إلى الضحية والجلاد كما رُسمت منذ عقود طويلة، فقد خسر الاحتلال معركته، وانكشف زيف السردية التي روّجها، وبدأت الشعوب تُراجع وعيها: من الجامعات إلى البرلمانات، ومن الشوارع الأوروبية إلى شاشات الإعلام، ومِن الشرق إلى الغرب.
وهكذا أدّت المقاومة -من حيث لا يحتسب خصومها- دورًا حضاريًا جديدًا، إذ قلبت الوعي الدولي، وجعلت من نفسها مرآةً تفضح الغرب الذي يزعم الدفاع عن الإنسان، فإذا به يدعم قتل الإنسان ويسوّغه بكل المسوّغات اللامنطقية، ما دام ذلك الأنسان عربيًا أو مسلمًا.
وما كان ذلك ليحدث لولا تلك الضربة الاستباقية الجريئة التي غيّرت موقع الضعف إلى قوة، وجعلت من الصمود معادلة ردعٍ غير معلنة. فالمقاومة لم تدافع عن نفسها فحسب، بل أعادت تعريف الكرامة في السياسة، لتثبت أن المعركة لم تعد معركة أرضٍ فحسب، بل معركة وعيٍ وهويةٍ وحقٍّ في الوجود.
إنّ ما جرى على غزة ليس هزيمةً ولا نكسة جديدة، بل هو منعطف في تاريخ الوعي العربي والإسلامي؛ إذ تعلّمت الأمة أنّ ضعفها ليس قدَرًا، وأنّ المقاومة ليست خيارًا بين متعدّدات، بل هي خيارٌ أوحد، إمّا أن تكون أو لا تكون؛ فالمقاومة ضرورة وجود، لأنّ الحقّ لا يُتَناوَش من موائد السياسة، بل يُنتزَع من أيدي الغاصبين انتِزاعًا.
ولعلّ أخطر ما أنتجته هذه الحرب أنها أعادت تعريف النصر والهزيمة في ضمير الأمة؛ فلم يعد النصر أن تنتزع الأرض فحسب، بل أن تستعيد الوعي والكرامة والإرادة، وأن تُربك العدو في يقينه، وتخلخل أسُس مشروعه، وتُثبِتَ للعالَم أنّ هالة العظَمة والقوة هي هالة مصطنعة، كرّسَها الإعلام ومَن يقف خلفَه، وأنّ ثَمّ رجال قادرون على المواجهة بما أعدُّوا مِن عُدّة لازمة تُفَنِّد أسطورة النظام العالَمي وعُملائه.
ولقد أثبتت التجربة أنّ المقاومة حين تُحسن قراءة الواقع، وتستثمر قوتها الاستخبارية، تستطيع أن تفرض المعادلة، وأن تجرّ العدوّ من عنجهيّته إلى كرسي التفاوض، وأن تُرغمه على الاعتراف بوجودها لاعبًا حقيقيًا لا يمكن تجاوزه. هذه هي السياسة في أعمق معانيها: تحويل الفعل العسكري المحدود إلى مكسبٍ استراتيجي يُغيّر موازين القوى ويعيد صياغة الوعي الجمعي.
إنّ بنود الاتفاق الناتج عن المفاوضات الأخيرة بعد عامين من الحرب، تحمل ملامح نصرٍ مكتومٍ في ثناياها: انسحابٌ ميدانيٌّ من مدينة غزّة، فتحٌ للمعابر، إنهاءٌ لبعض أوجه الحصار، تبادلٌ للأسرى يشمل أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، ومنعٌ للتهجير القسري، مع بقاء حركة المقاومة على أرضها بكيانها السياسي والعسكري والفكري، بعد أن فشلت كل محاولات الاجتثاث وكسر الإرادة.
ومن العجيب أن بعض الأصوات -المأزومة فكرًا أو المهزومة روحًا- خرجت تسأل ساخرَة: (أين النصر؟ وما معنى أن تُسمّى هذه الصفقة نصرًا للمقاومة؟!)، ويغيب عن هؤلاء أن النصر في ميزان الحق ليس صورةً إعلاميةً ولا بيانًا عسكريًا، بل هو تحقيق الهدف الأعلى: أن يبقى المشروع المقاوم قائمًا، وأن يفشل العدو في تحقيق أهدافه، وأن يُضطرّ إلى الاعتراف بمقاوميه شركاء على الطاولة بعد أن كان يصفهم بالإرهاب ويسعى في إبادتهم واغتصاب أرضهم.
ويقول آخَرون مُنطلقين من منطقهم الساذج المعتاد: (لماذا بدأت المقاومة بضرب العدوّ ثم ما لبثت أنْ طالبَت بالهدنة ووقف الحرب؟!). إنّ أصحاب هذا القول ما زالوا مصرّين على العمى، وكأن أحداث الواقع ليست في متناول الناس أجمعين! لا يريدون أن يدركوا ما حققته المقاومة بضربتها الاستباقية من أهداف لولاها لما رضي أحد أن يجلس معها على طاولة التفاوض. بل إنّها جعلت العدو وداعميه هم الذين يطلبون الهدنة ويسعون إلى تنصيب الوسطاء المأجورين، حتى اشترطت عليهم المقاومة فيما اشترطَت: أنْ يُخرِج العدوُّ أسرى مقابلَ أسرى بعدَ أن أنفقَ العدوُّ جيوشه وعتاده في عبثٍ لم يجْنِ إلا الخيبة والعار.
أيُّ خسارةٍ أوضح من أن يخرج المعتدي من الحرب مثقلاً بدماء المدنيين، بلا نصرٍ عسكري، ولا مكسبٍ سياسي، ولا أمنٍ موهوم؟!
وأيُّ نصرٍ أنبل من أن تبقى راية أصحاب الحقّ مرفوعةً فوق الركام، والناس برغم الجوع والموت يقولون: ما استُبيحت أرضنا إلا ونحن نقاتل، وما سُفكت دماؤنا إلا ونحن نقول: (لا).
نعم، إنّ ما جرى مؤخَّرًا هو عهدٌ نعلَم علْم اليقين أنّ العدوّ سينكثه، فليكن ذلك، فإنّها استراحةُ المقاتل الواثق من عودته، ونَفَسُ الصابر الذي يعرف أنّ النصر وعدٌ لا يُخلِفُه الله. هي وقفةُ يلتقط فيها المقاتلون أنفاسهم بين جولةٍ وجولة، وليست انكسار رايةٍ في ميدان المعركة. فكلُّ اتفاقٍ يُفرَض على العدو لا يكون إلا ثمرةَ صمود، وكلُّ طاولةٍ يُجرّ إليها ليست إلا اعترافًا بأن المقاومة فرضت وجودها بحروف النار.
ليس النصر مجرّد غلبةٍ في الميدان، بل هو ثمرة صبرٍ طويلٍ وابتلاءٍ متكررٍ وصمودٍ في وجه الباطل؛ فهذا هو ميزان السنن الإلهية. فلقد وعد الله المؤمنين بأنّ الأيام تُداول بين الناس، وأنّ الابتلاء طريق التمكين، وأنّ الشدائد إنما تُصفّي معادن النفوس لتُخرج أنقى ما فيها. وهكذا تتجلّى سنة الله في التاريخ: أن كل مقاومةٍ صادقة تُولد من رحم الحصار، وكل وعيٍ جديدٍ ينبثق من بين الأنقاض.
وأما في ميزان التاريخ السياسي للمقاومات، فإنّ ما تحقق اليوم ليس سوى بداية التحوّل: فما مِن مقاومة عظيمة إلا وقد وُصِمَت يومًا ما بالجنون أو المغامرة، ثم ما تلبث أن تُثبِت بعد حين أنها كانت وعيًا سابقًا لزمنه، ونداءً مبكرًا إلى الكرامة. وما المقاومة الفلسطينية إلا الامتداد الطبيعي لهذا القانون التاريخي الذي لا يحابي أحدًا؛ إذ لا تنتصر الشعوب حين تمتلك السلاح فحسب، بل حين تمتلك أيضًا الوعيَ بحقيقة الصراع، وتستيقن أنّ عدوّها مهما “تفرعن” فإنه يحمل في داخله بذرة فنائه.
وهكذا انقلبت الصورة، فالنكسة معكوسة، والوعي مولودٌ من رحم الألم، والعدوّ الذي ظنّ نفسه خالدًا في عرشه، صار قلقًا في ظله، ومَن ظنّ أن النار تطفئ الفكرة، نسيَ أن الفكرة حين تحترق، تضيء.
أما الأمة، فقد بدأت نهضتها الكبرى من بين الركام، لتكتب على جدار التاريخ جملةً واحدة: (إنّ الشعوب التي تعرف طريق المقاومة، لا تعرف طريق الفناء).