مقالات

نكبة المسكوت عنه والشيخ الددو يضحك ملء شدقيه

نكبة المسكوت عنه
والشيخ الددو يضحك ملء شدقيه

 

محمد الحسن ولد الددو 

 

عمر ماجد السنوي

 

كثيرًا ما تُطوى المسائل بالسكوت عنها في أزمنة الجدال الفكري عبر التاريخ، إمّا جهلًا بأهمّية تناولها، أو خوفًا من غوغاء لا تُحسن فهمها، أو خشيةً من سهام التكفير التي تُشهَر في وجه كلّ رأيٍ جَديد. ومن هذه المسائل: ما طرحه الشيخ محمد الحسن ولد الددو فيما يتعلّق بالنكبات الكبرى التي مرّت بها الأمة في تاريخها، أثناء حواره في «بودكاست الرحلة» بتاريخ: 29/ 8/ 2025م، وقد جعلَ الشيخُ أولى تلك النكبات: وفاة نبيّنا الأكرم ﷺ فجاءةً وهو في أوج قوته ونشاطه مع تتابع نزول الوحي عليه، دون أن يضع دستورًا تفصيليًّا لنظام الحكم، ودون أن ينصّ على مَن يتولى الأمر بعده؟ ولا كيف يُعيَّن الحاكم؟ وكيف يُعزل؟ وما طريقة محاسبته؟

وقد ثارت ضجة كبيرة عليه بعد هذا التصريح، من موافقين له ومخالفين، وأُطلِقَت بسببه التهم الجاهزة: «زندقة، ردّة، طعن في الدين، اتهام للنبي ﷺ …». والحقُّ أنه لم يكن في كلام الشيخ قدحًا في الرسالة، ولا اتهامًا للنبي ﷺ بالفشل والتقصير، بل فيه توصيف للواقع التاريخي الذي جرى، واستنباط لعلل الفتن والانقسامات التي أعقبت وفاة رسول الله ﷺ، لتكون للأمة في ذلك عبرةً ودرسًا.

وكأنّي بالشيخ وهو يرى تلك الصيحات المتكاثرة، سواء منها الجائرة والحائرة، يضحك ملء شدقيه من جهالة أصحابها، أو من تربص المتربّصين منهم من أهل الأهواء والفتن. يضحك وهو يتذكّر ما رُمي به ابنُ جرير وابنُ حزم والتوحيديُّ وشيخُ المعرّة أبو العلاء وغيرُهم.

 

تمهيد:
المرثيةُ الواقعيّةُ وهدفُ التحقيق

حينَ يقالُ: إنّ أول نكبةٍ في الإسلام هي وفاة النبي ﷺ من غير أن يكتب دستورًا لنظام الحكم؛ فلا بدّ أوّلًا أن نقرأَ الكلامَ قراءةً دقيقةً: ماذا يقصدُ المتكلّمُ بلفظِ «نكبة»؟ وهل القصدُ اتهامٌ للوحي بالنقص؟ واتهام للنبي بالفشل أو التقصير أو عدم التبليغ؟ أم هو توصيفٌ واقعِيٌ لتغيّرٍ تاريخيّ؟

في هذه المقالة أجيبُ عن ذلك من خلالِ ثلاثة مناهج: منهجُ الفقيهِ والمفسّر لبيانِ حدودِ النصّ ومرامي الشريعة، ومنهجُ المؤرِّخِ السياسيّ لقراءةِ الوقائعِ وتتبُّعِ الآثار، ومنهج اللغويّ الأديب لفهم حقيقة الألفاظ في سياقها، ومعرفة السباق واللحاق من الجمل المرتبطة بها.

ثم أنتقلُ إلى تفنيدِ الشبهاتِ المثارة على الشيخِ ولد الددو وإبطال ما افتُري به عليه، وإبراز أنّ قوله توصيفٌ تأريخيٌّ للحدَث، لا قضائيٌّ على النبي الكريم ﷺ أو على الشرع الحكيم.

 

معنى «النكبة» لغةً واصطلاحًا:
النازلةُ التاريخيةُ وإنارةُ المصطلح

في الاشتقاقِ اللغوي: «النكبة» مصدرُ نَكِبَ ونَكَبَ، وهي: الانقلابُ والوقوعُ في حالٍ ساءتْ. واصطلاحًا عند العرب تُستَعمَل للمصيبة يمر بها المرء، فيقولون: نَكبَهُ الدهر أي أصابه بنكبة ومُصيبة بالغة. وعند المؤرّخين وبعض الأدباء تُستعمَل للإشارةِ إلى نازلةٍ مفاجئةٍ ذات أثرٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ بالغٍ، تُغيّر علاقةَ الناسِ بالمقدّماتِ والسياقات. فهذه الركيزةُ البلاغيةُ لدى ولد الددو لم تكن محضَ مبالغةٍ، إنّما هي وصفٌ لوقعةٍ حقّة، ألا وهي: غيابُ المرجعيةِ النبويةِ المباشرة في المسائلِ السياسيّة التي تنصّ على شكلَ السلطانِ وآليّاتِ التعيينِ والعزلِ والمحاسبة؛ فأصبحت هذه المسائلُ «نازلةً» على الأمّة، ولم يكن يعيها إلا الراسخون من أهل العلم والإيمان كسائر النوازل.

إنّ الفقهاء والمفسّرين، حين يعالجون ظرفَ النصّ، يميّزون بين النصّ القطعيّ الذي يُنْهَل منه الحكمُ مباشرةً، وبين عموماتِ الوحي التي تُوجِّهُ المقصدَ ولا تفصّـل الآليات.

فالتعاملُ المطلوبُ عِلميًّا هو: قراءةُ النصّ في فضائهِ اللّغويِّ والتأريخيِّ، ثمّ استنباطُ ضوابطِ التطبيقِ من عمومات الشريعة. ولذلك لا يمكن أن يُستنتَج من كلمة الشيخ أنّه قصدَ مِن غياب الدستور نقصَ الرسالة! كيف وهو المُقرُّ بكمال الدين وتمامه؟!

في هذا الباب تفيدنا قراءاتُ التفاسير لكلمةِ «الإكمال» في قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}؛ فتذهبُ إلى أن الإكمالَ يتعلقُ بأصولِ الدين وأحكامه ومقاصدهِ، وأما ما ترك اللهُ ورسُولُه بيانَه فليس هو من هذا.

 

الدليلُ التاريخيّ:
هل وضعَ النبيُّ ﷺ دستورًا سياسيًا مفصّلاً؟

إنّ الجواب العلميّ يبتدئُ بنقطةِ الانطلاقِ الواقعيّة، وهي أنْ نتأمل حقيقة ما جرى فور وفاة النبي ﷺ.

فمصادرُ السيرةِ التاريخيةِ تُجمعُ على أنّ الصحابةِ اجتمعوا في «سقيفة بني ساعدة» لتدارُسِ شأنِ الإمرةِ، وأنّ اختيارَ أبي بكرٍ لم يكن نتيجةَ وصيّةٍ خطيّةٍ أو نصٍّ معلنٍ من النبي ﷺ على نحوٍ يُقفل البابَ على أيّ اجتهادٍ ميداني، بل إنّ شيئًا من الخلاف كان قد وقعَ في السقيفةِ آنذاك، وهذا دليلٌ عمليّ بأن النصّ التفصيليّ لا وجود له.

إنّ قراءة رواياتِ السقيفة (في متون الحديث ومتون السيرة) تُظهرُ أن المسألةَ حُلّتْ بميزانِ الواقعِ والاجتهادِ الميدانيِّ لصحابةٍ هم رجالُ الأزمةِ حينها -كما عبّر ولد الددو-.

هذا الواقعُ لا ينفي أنّ النبي ﷺ تركَ إشاراتٍ ومبادئَ يشترط توفُّرها في أي نظام من الأنظمة والدساتير الاجتهادية؛ كالشورى، والأمانة، والعدالة، وضمان الحرية، وحفظ الحقوق، ورعاية المصالح، ومبدأُ الطاعةِ ما لم يُعصَ الله، وغيرها من ضوابط الحكم التي تظهَر في نصوصٍ متعددةٍ. لكنّ وجودَ إشاراتٍ لا يعني وجودَ وصيّةٍ نصّيّة أو دستورٍ مكتوبٍ جامعٍ حاكم.

هذا الفراغُ النصّيُّ هو ما قصدَه ولد الددو بوصفِ «النكبةِ»، فهي نازلةٌ تاريخيةٌ تركت الأمةَ لإعمالِ عقلها واجتهادِها في تنظيم شأنها العام.

 

إشاراتٌ متفرقة لا نصوص جامعة:
قراءةٌ فقهيةٌ للأحاديث والأمارات

قد يأتي أناس يقولون: إنّ الشريعة قد حدّدت كل ما أنكرَه ولد الددو، ثم يأتون ببعض الروايات التي تحمل بعض الدلالات المؤيدة لرأيهم، في معزل عن الروايات الأخرى التي قد تخالفها في الظاهر، وتحتاج إلى مَن يُعمِل فيها اجتهاده في الجمع أو الترجيح.

ولا بدّ من معالجةِ أهمّ الشواهدِ النصيةِ التي أُخِذتْ أحيانًا لتثبيتِ نظامٍ سياسيٍّ بعينه، منها:

  • «إنَّ هذا الأمْرَ في قُرَيْشٍ، لا يُعَادِيهِمْ أحَدٌ إلَّا كَبَّهُ اللَّهُ في النَّارِ علَى وجْهِهِ، ما أقَامُوا الدِّينَ»: وهي من الرواياتِ الصحيحة التي أخرجها البخاري وغيره، وتُفهمُ غالبًا كإشارةٍ للمركزيةِ الاجتماعيةِ والتاريخيةِ لِقريش، لا كنصٍ يَفرضُ بندًا دستوريًا لا يقبل المراجعة والاجتهاد. فالرواياتُ التاريخيةُ عن اجتماعِ السقيفة تُظهرُ أنّ القولَ بقرشيةٍ في المنعطفِ لا تَعني استبعادَ غيرهم، إنما هذا ما كان يقتضيه سياق الواقع آنذاك، وأنّهم أولى الناس بالحكم لمكانتهم وشأنهم بين العرب.
  • وفي مقابل الرواية السابقة تأتي الرواية الأخرى: «إنْ أُمِّر عليكم عبدٌ حبشيّ مجدّع يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا»، وهو من أحاديث الصحيحين وغيرهما، وهو يخاطب العرب، ومن دلالاته أن معيارَ الطاعةِ لا يقضي بنسبٍ خاصٍّ بقدرِ ما يقضي بحفظِ النظامِ العامّ واستقامةِ المصلحةِ ما لم تُخالف الشرع.

إنّ تفسير هذا الحديثِ لدى المحدثين والفقهاء يُوظَّفُ في بابِ أحكامِ الطاعةِ وبيانِ حدودِ العصيانِ والولاء، لكنه لا يفرضُ نموذجًا قبليًّا مُقفلًا.

المنهجُ الفقهيُّ هنا يقضي بقراءة الحديثِ في سياقهِ، وتحجيم التطبيقِ إلى ضوابطِ المقاصدِ والشرعِ العام، لا إخراجه من دَائِرتهِ واعتباره نصًا دستوريًّا مفصَّلًا.

ولو كانّ ثمة دستور معيَّن لنظام الحكم في الإسلام، لَرأينا تطبيقه في عصر النبي ﷺ وهو يرى أخاه النجاشي ملك الحبشة ما زال بعد إسلامه على سدّة الحكم في بلاده.

 

الإطارُ النظريُّ:
المقاصدُ والمصالحُ المرسلةُ، وآفاقُ الاجتهادِ السياسيّ

الفقهُ المقاصديّ عند علماء الشريعة يُقدّمُ لنا مفتاحًا منهجيًا وهو أن الشريعةَ قد وضعتْ مقاصدَ كليةً (حفظُ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) وهي التي تُقاسُ بها صورُ التشريعِ وتطبيقاته. فما يدخلُ في دائرةِ تنظيمِ الحكم يُقاسُ بمدى خدمتهِ تلك الضرورياتِ.

فالشاطبيُّ وهو من الفقهاء المعتنين بالمقاصد، بيّنَ في كتابه «الموافقات»، أن للمصالحِ أحكامًا وآلياتٍ تُستنبَطُ من النصّ العامّ وتُؤطَّرُ بضوابطِ الشرع. وهذا يكشف عن حكمة ترك الشريعة بعضَ المسائلِ التطبيقيةِ لِاجتهادِ أهل الحلّ واجتماع أهل العقد؛ لأنّ ثَباتَ المقاصدِ أهمّ من ثبوتِ صيغةٍ إجرائيةٍ واحدة.

ويمكن أن نضيف إلى جانب ذلك: قراءةَ ابنِ خلدون في «مقدّمته» التي تُذكّرنا بأنّ الدولةَ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تتشكّلُ من عواملَ بشريةٍ (العصبيّةُ، الاقتصادية، الجغرافية)، وأنّ إملاءَ صيغةٍ ثابتةٍ عليها بلا مراعاةِ هذه العواملِ يؤدّي إلى فشلٍ عمَليٍّ. فهذا عِلمٌ واقعيٌّ لا يتعارضُ مع نصٍّ دينيٍّ، إنما يضعُ حدودَ التطبيقِ الواقعيّ.

 

قراءة التداعيات:
كيف أفضى غيابُ التفصيلِ إلى نكبة الأمّة؟

الاعترافُ بحدوث نازلة بوفاة النبي ﷺ من غير وضع دستور، هو أمر لا يلغي أنّ اجتهاد الصحابةِ أنتجَ نظامًا هو أنجح وأنجع نُظُم الحُكم البشَرية، ألا وهو المسمّى تاريخيًّا بالخلافة الراشدة، فكان اجتهادهم هذا مثالًا عمليًّا للمحافظةِ على مقاصدِ الشريعة في ظلِّ غيابِ نصٍّ تفصيليّ.

لكنّ التحوّلَ إلى أنظمة أخرى (كالتوريث، والدويلات، والدول الخارجية، وصعود المماليك، وسلطة العجم) كان من أسبابه: التحولاتُ الاجتماعية، والضغوطُ الجغرافية، وتغيّرُ الموازينِ الاقتصاديةِ، واستغلالُ نزعاتٍ بشريةٍ. فإن قراءة هذه المراحلِ بعينٍ تاريخيةٍ تُبيّنُ أنّ المشكلة ليست «نقصًا في الوحيِ»، بل المشكلة في الفهمِ الإنسانيّ المغلوط، أو التطبيق البشري الذي ينزع نحو أطماع النفوس، فينتج أنظمة تنطوي على خطأٍ وصوابٍ معًا، ثم أنتجَت ضعفًا وهوانًا حتى لقيَت الأمّة مصيرها الذي تعيشه اليوم من تسلّط الأعداء وتكالبهم عليها ومحاربتهم لها في دينها ودنياها، وتضييق الخناق عليها من كل جانب.

 

تفنيدُ الشبهاتِ:
برهان البراءة من إتيان الإساءة

أعرِضُ هنا بعض الشبهات والطعونات التي أثيرت على كلام الشيخِ ولد الددو، وأردُّ عليها بمنهج التوثيق:

  1. شبهةُ الطعنِ في النبي ﷺ بنسبة التقصير والفشل إليه:

ادّعى بعضُهم أنّ إطلاق «النكبة» على حدث وفاةِ النبي ﷺ قبل وضع دستورٍ سياسيٍّ، يعني اتهامًا لنبيّنا ﷺ بالتقصير في التبليغ، أو الفشل في الدعوة.

والجواب على هذه الشبهة: أنّ هذا القول لا يمكن أن يصدر من مسلمٍ فضلًا عن أحد أعلام علماء الإسلام المعاصرين المعروفين بنصرة الدين ومحاربة الأفكار المعارضة له والطاعنة فيه وفي نبيه.

لذلك فإنّ أيّ عاقل منصف سيفهَم من لفظ «النكبة» هنا أنّه جاء في سياق وصفٍ لحدثٍ تاريخيٍّ (وهو غيابُ المرجعيةِ النبويةِ)، وليس فيه تعرُّض لكمالِ الرسالةِ.

وتفسيرُ آيةِ {اليوم أكملت لكم دينكم} يؤكدُ أنّ الكمالَ الذي عناه اللهُ يتعلقُ بالأصول والأحكام لا بتفصيلاتِ نُظُمٍ عرَضيةٍ؛ فادّعاءُ العكسِ يستلزمُ قراءةً حرفيةً جامدةً للنصوصِ وتجاهلًا لمنهجِ الموازناتِ الشرعية وتغافلًا عن السياقات اللغوية.

ومما يؤكّد هذا: ما عُرف عن الشيخ في مَواطن متعددة، كقوله في محاضرة له بعنوان «المستقبل لهذا الدين»: «قد ارتضى الله هذا الدين دِينًا للبشرية كلها، وخاطبها بذلك، وقد جاء في الصحيح أن حبرًا من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! آيةٌ في كتابكم لو فينا -معاشر اليهود- أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: وما هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] قال: أما إني لأعلم أين أُنزلت، ومتى أُنزلت، لقد نزلت على رسول الله ﷺ وهو واقفٌ بعرفة يوم جمعة. ولم يعش النبي ﷺ بعد نزول هذه الآية إلا اثنين وتسعين يوماً، … وقد أنزل الله عليه هذه الآية إيذانًا بأن الوحي قد انقطع، وبأنّ الدين الذي ارتضاه الله للبشرية هو هذا الإسلام الذي أُنزل على محمد ﷺ».

  1. شبهة الطعن في النبي بالقول بأنه السبب في فتنة الأمّة.

ادّعى قومٌ أنّ كلام ولد الددو فيه تصريح بأنّ النبي ﷺ تسببَ بفتنة الأمة وارتدادها واختلافها وتفرّقها من بعده حين لم يكتب لها وصية أو دستورًا!

والجواب على هذه الدعوى: أنّ كلامه ليس فيه شيء من ذلك، إنما هو توصيف لحال الأمة من بعده. ولم يكن الشيخ بدعًا في هذا القول، فها هو حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: “ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده”. قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: “قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع”. فخرج ابن ‌عباس يقول: إن ‌الرزية كل ‌الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه» رواه البخاري.

فانظر إلى وصف ابن عباس لهذه الحادثة بالرزية -وهي النكبة والمصيبة-، وهو توصيف لما جرى بَعدُ، ولم يقل أحد من السلف والخلف: إنّ ابن عباس طعن في رسول الله!

وليس في هذا الوصف لوم لرسول الله، ولا إعابة على قدَر الله، بل كل ذلك كان بحكمة الله سبحانه، ولا يمكن أن يكون ابن عباس ولا ولد الددو ولا أي مسلم مؤمن عاقل يقصد ذلك الطعن.

  1. دعوى أنّ قول الددو بتتابع الوحي قبل وفاة النبي وأنّ موته كان فجأة، هو قولُ مَن يجهل التاريخ والسيرة.

أقول: بل إنّ صاحب هذه الدعوى هو الجاهل بعينه، لأنّ وصف الوحي بالتتابع والكثرة معلوم عند علماء الأمّة، ولا سيما أهل التاريخ والسير، فهذا ابن جرير الطبري يقول في تفسير قوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم}: «ولا يَدفعُ ذو عِلمٍ أنَّ ‌الوحيَ لمْ يَنقطع عن رسول الله ﷺ إلى أن قُبض، بل كان ‌الوحي قبل وفاته أكثر ما كان ‌تتابُعًا». وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد ثبت في الصحيحين عن ‌أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ قَبْلَ وَفَاتِهِ، حَتَّى تَوَفَّاهُ ‌أَكْثَرَ ما كَانَ ‌الْوَحْيُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعْدُ».

وهذا من العلامات التي تدل على أنّ موته ﷺ كان أمرًا مفاجئًا لأهله وأصحابه، فهذا واقع لا يماري فيه من عنده أدنى اطلاع ومسكة عقل؛ فلو كان خلاف ذلك ما كان حال الصحابة بعده بين معتقَل وبين منكِر من هول الأمر -كما وردَ وصفهم في السيرة-، ولكن أبا بكر كان أشدهم عقلًا وإدراكًا واتّزانًا، فقد هيّأ نفسه لهذا الموقف من فهمه تلك الإشارات التي كانت قبل وفاته ﷺ.

بل لو فرضنا أن الأمر لم يكن فجأة، فهل سيتغيّر وصف موته ﷺ بأنّه مصيبة؟! كلا، بل هو أعظم المصائب. وليس الأمر عاطفيًا كما يتخيّل البعضُ أنّ عِظَمَ هذه المصيبة مِن عِظَم المحبة لرسول الله، بل الأمر أكبر مِن ذلك، وحاشى أن يوصف رجالُ خير القرون بالعاطفة العمياء التي تدفعهم إلى إنكار عقولهم واحتباس نفوسهم، إنما الأمر في هذه المصيبة هو انقطاع الوحي الذي كانوا يستظلون به في حياة رسول الله، فلمّا غاب أُسلِموا إلى عقولهم واجتهادهم، فعلموا أنه سيحدث ما لا يمكن حدوثه في ظل النبوّة.

ومن مظاهر هذه المصيبة حدوث الردّة العامّة، وقد زعمَ عبد الحق التركماني –صاحب «مركز تفسير الإسلام!»– أنّ ذِكر الشيخ ولد الددو هذا السبب هو ((ادِّعاء باطل، لا يمتُّ إلى الحقيقة التاريخية بصلة، وإنما دلَّت الروايات والأخبار وأقوال المؤرخين على أن سبب «الردة» راجع إلى أمرين لا ثالث لهما، الأول: الردة الصريحة بترك الإسلام من قبل الذين تأخر إسلامهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم. الثاني: الامتناع عن أداء الزكاة)). والتركماني رجل أعجمي العقل، فلو كان عربيًا فصيحًا لعرفَ الفرق بين السبب والنوع. فها هو ينقل كلام ابن كثير الدمشقي، ولا يفهمه، إذْ فيه ما يؤيّد كلامَ ولد الددو، فقد قال ابن كثير: «إنَّ رسول الله ﷺ لما توفي ارتدَّت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجَمَ النفاق بالمدينة»، فلو سأل التركماني نفسه: لو لم يتوفَّ اللهُ نبيَّه هل كان الأعراب سيرتدّون هذه الردّة العامة؟ وهل كان النفاق سينجم في المدينة ويُبرِز قرنه؟! فإن قال: لا، فقد أجاب نفسه بأنّ السبب في ذلك هو وفاة رسول الله. وإن قال عكس ذلك فقد رجم بالغيب وادّعى ما لا يُتوقَّع حصوله عقلًا.

بل إنّ التركماني لو لم يدلّس النقل عن ابن كثير، ويبتر نصَّه لَأدرَكَ –إنْ أدرَكَ!- أنّ فيه ما يؤكّد سبب ردّة بعض العرب، فقد قال شاعرهم كما نقل ابن كثير في السياق نفسه:

أطعَنْا رسولَ الله ما كانَ وَسطَنا … فَيا لعبادِ الله ما لأبي بكرِ

أيورثنا بَكْرًا إذا ماتَ بعدَه … وتِلكَ لَعمرُ الله قاصِمَةُ الظَّهرِ

فَهلّا رَدَدتُم وَفْدنا بِزَمانِهِ؟ … وَهلَّا خَشِيتُم حِسَّ راغيةِ البكرِ؟

وإنَّ الّتي سألوكمُ فمَنَعْتُمُ … لَكَالتَّمرِ أو أحلَى إليَّ منَ التَّمرِ

بل ها هو ابن كثير أيضًا يقول في مَوضِع آخَر: «قال محمد بن إسحاق: ولما تُوفِّي رسولُ اللَّه ﷺ ارتدَّتِ العَرب، واشْرأبَّتِ اليَهوديةُ والنَّصْرانيّةُ، ونَجَمَ النّفاقُ، وصارَ المُسْلِمون كالغنم المَطيرةِ في اللَّيلة الشّاتية، لفقدِ نَبيّهم ﷺ، حتى جَمَعَهم اللَّهُ على أبي بكر رضي الله عنه. قال ابن هشام: وحدّثني أبو عبيدة وغيرُه من أهل العلم: أنَّ أكثرَ أهلِ مَكة لمّا تُوفِّي رسولُ اللَّه ﷺ هَمُّوا بالرُّجوعِ عن الإسلام وأرادوا ذلك، فقام سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، رضي الله عنه، فحَمِدَ اللَّهَ، وأثْنَى عليه، ثم ذكَرَ وفاةَ رسول اللَّه ﷺ، وقال: إن ذلك لم يَزِدِ الإسلامَ إلا قوة، فمَنْ رابَنا ضَرَبْنا عنقَه. فتراجَعَ النّاسُ وكفُّوا عمّا هَمُّوا به».

وبعدُ: أَيُمكِنُ أن يفهَم القارئ من كذلك هذا سوى أنّه حصل بسبب وفاة رسول الله ﷺ؟

وأما الأمران اللذان ذكرَهما التركماني، فليسا من الأسباب، بل هما نوعان وشكلان من أشكال الردّة التي حصلت بعد رسول الله ﷺ.

  1. شبهةُ القولِ بأنّ الحركات الإسلامية المعاصرة عوّضَت نقص الرسالة المحمّدية!

زعم عبد الحق التركماني -أيضًا-: أنّ ولد الددو انطلق في تصريحه هذا من نظرية حركية تَرى أنّ الحاكمية هي أصل الأصول، فقال التركماني: ((لكنّ الددو قصد بـ«النكبة» موت رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يكتب لأمته دستورًا ويؤسس لهم نظامًا سياسيًّا. ثم زعم أن هذه «النكبة» تسببت في «أزمة» بدأت بالردَّة واستمرت كل هذه العصور، إلى أن «اضطرت» الحركات الإسلامية في العصر الحديث إلى العمل من أجل تدارك النَّقص الذي تركنا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يضع لنا دستورًا ولا نظامًا سياسيًّا. هذا مَنطُوقُه صراحةً… هذا هو كلام الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي الصريح الواضح، ومَن عنده شكٌّ فليرجع إلى التسجيل الأصلي لمقابلته، وليفهم كلامه بسياقه وتمامه، وسيجد أننا لم نفترِ على الرجل، ولم نقوِّله ما لم يقل… لقد اخترع الدَّدو هذا السبب العجيب ـ وهو موته صلى الله عليه وسلم المفاجئ ـ ولولاه لما تركنا رسول الله ﷺ بدون نظام سياسي ودستور محكم، كيف وهو لم تكن دعوته ودينه إلا لأجل الحكومة الإلهية!)).

قلتُ: بل هذا افتراء صريح، وهذا الافتراء قد يكون عن عمدٍ أو عن جهلٍ وسوءِ فَهْم.

ذلك أنّ الشيخ ولد الددو بدأ كلامه جوابًا عن سؤال المحاوِر: ((هل تصلح المفاهيم -التي بدأنا نتقدم فيها شيئًا فشيئًا- لتقويم دَور الحركات الإسلامية))؛ فأجابه الشيخ بقوله: ((لا شك أنّها تصلح لذلك، لكن لا بد أن ندرك أنّ هذه الحركات لم تنشأ عن اختيار وعن اجتهاد فقط، وإنما نشأت عن ضرورة حصلت. لأن هذه الأمة المحمدية نُكبت نكباتٍ، وهذه النكبات أنا أُقدِّر أنها إلى وقتنا هذا ستُّ نكبات كبرى، حرفتها عن مدارها…))، ثُمّ بدأ بذِكر هذه النكبات وذِكر رجالها الذين كانوا حائط الصدّ فيها، وقد ابتدأ بالنكبة الأولى التي هي محور الكلام في هذا المقال، ولعل التركماني لم يُدرِك -أو أدركَ وأخفى- أنّ هذه النكبات ليست لها علاقة بالحركات الإسلامية، إلا النكبة الخامسة التي ذكرَها الشيخ، فهي محلّ الشاهد مِن كلامه جوابًا عن سؤال المحاوِر، ولا يمكنه أن يقفزَ إلى الخامسة دون أن يسرد مكانها في تاريخ النكبات الإسلامية، فبيَّن أنّ النكبة الخامسة هي سقوط الخلافة العثمانية والملك العاض، وتغلغل الاحتلال في البلاد الإسلامية، ونشوء الملك الجبري -الذي نحن فيه-، وهذا هو السبب في قيام الحركات الإسلامية، فهي نتاج الحاجة لحفظ الدين، وهي حائط الصد في تلك المرحلة، وقد خاضت في عدّة مجالات، نجحت في بعضها نجاحًا محدودًا، وفي بعضها نجاحًا كبيرًا، وفشلت في بعضها، وهي تجارب بشرية اجتهادية قابلة للتقويم. هذا هو نصّ كلام الشيخ عن هذه النكبة التي لا علاقة لها بالنكبة الأولى من قريب ولا من بعيد.

بل إنّ هذه النكبات التي ساقَها الشيخ ليست متصلة فيما بينها، ولا مرتبطة بقضية مشتركة، بل هي منفصلة ومتباينة غالبًا، ولعل أدلّ دليل على هذا هي النكبة السادسة التي ركّز عليها الشيخ، وهو النكبة الجارية في عصرنا الحاضر، وهي السعي لتبديل الدين أصلًا، بشكل صريح مباشر، بخلاف ما كان عليه العدو سابقًا من سلوك طرق ملتوية لهذه الغاية؛ فهل لهذه النكبة الأخيرة علاقة بالنكبة الأولى؟! بل هل لها علاقة بالنكبة التي قبلها المتصلة بالحركات الإسلامية؟! اللهم كلا، إلا في عقولٍ تعفّنَت بالجهلِ والهوى، وفي قلوبٍ تشرّبَت الغلوَّ والتطرُّف، ونفوسٍ تربّت على أن تبغي للبرآء العنَت.

 

قولٌ أخير:
من البحثِ في «النكبةِ» إلى بناءِ مشروع الإصلاح

إنّ قراءةَ ما قاله ولد الددو بأنّه توصيف لحادثة، هي قراءةٌ تُخرِجُنا من دائرةِ الاتهامِ إلى ميدانِ العملِ؛ فالنقاشُ العِلميُّ في «لماذا لم يضع النبي ﷺ آلياتٍ تفصيلية؟»، و«كيف نبني اليوم آلياتٍ تحفظُ المقاصدَ؟» هو نقاشٌ واجبٌ على الفقهاءِ والسياسيينَ والمفكّرينَ والأدباءِ معًا. فالفقيهُ يجلبُ الضوابطَ، والمفسّرُ يحددُ حدودَ النصّ، والمؤرّخُ يقرأُ الوقائعَ، والأديبُ يذكّرنا بإنسانيّةِ التجربةِ، وكلٌّ بدورهِ يصوغ مشروعًا يقيمُ العدالةَ والحقّ والحريةَ والمصلحة.

وفي الخِتام أقول تأكيدًا: إنّ القول بأنّ وفاةَ النبي ﷺ كانت «أول نكبةٍ» إنّما هو دعوةٌ لقراءةِ التاريخِ بفهمٍ هادئٍ؛ لا إنكارٌ للوحي ولا طعنٌ في الرسول الكريم أو الدين الحنيف أو الحكمة الإلهية؛ فالواجبُ أن يتحوّلَ الاستنكارُ إلى عملٍ بنّاءٍ، لوضع آلياتٍ محقِّقةٍ للمقاصدِ، تُجنّبُ الناسَ نكباتٍ جديدةً، ومنها النكبة التي نحن فيها من حرب مباشرة لاستئصال الدين واستبداله. واللهُ الناصر والمعين.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الدين النصيحة
    وهذا الدفاع غير موفق
    فعبارة الشيخ محتملة
    وواضح أن المقصود بالنكبة عدم وضع النبي دستورًا تفصيليًّا لنظام الحكم
    فإن كان قصد أن الأولى كان أن يضع دستورا فقد أخطأ
    وإن قصد أن النبي ترك الأمة للوحي الذي ورثه لها ليستنبطوا دستورهم فقد أصاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى