العدد الخامسمقالات

نقش أندلسي

نقش أندلسي

د. عامر ممدوح·

نقش أندلسي
نقش أندلسي

تحتل (الأندلس) الأرض والتاريخ والحضارة، في الذاكرة والوجدان العربي والإسلامي عمومًا مكانة متميزة، بل هي ترتبط بكل ما هو جميل، وعريق، وأثير لدى الأمة.

لو فتشتم القلوب لوجدتموها تتربع وسطه، وتحتل شغافه، وتضخ محبتها، وتخالط نبضها، فيتسع المقام ويكبر، وينساب طيفها ويتسامى حتى يبلغ مرتبة العشق الذي لا تخبو أنواره، ولا يقل مقداره!

وتكاد تتوهم للحظة فتسمع لذلك النبض حديثًا مؤنسًا، ومسامرات عاشق، تتأرجح بالنفس بين صعود وهبوط، وآمال وآلام، فتضخ حينًا الفرح، وثانية الحنين، وثالثة تكتم الألم الدفين، ورابعة تحاول مداواة الجرح العتيق الذي يأبى الالتئام، فينساب وجعه بين صفحات الكتب والتراجم والسير!

في الأندلس… يطيب المقام، ويحلو الكلام، ويشخص التاريخ أمامك بهيئته الوقور، يقص على الأجيال، حكاية الفردوس المفقود..

المفقود؟!

(كيف يكون مفقودًا وله كل هذا الوجود؟ إنه موعود لا مفقود.. موعود عند من يعلمون أن الماضي لا يموت إلا بالنسبة إلى الأموات.. وموعود عند كل من يدركون أن التاريخ لا يعرف الأمس أو اليوم أو الغد، وإنما هو نهر الحياة يمضي إلى الأجل المضروب الذي قدره علام الغيوب..) [حسين مؤنس، رحلة الأندلس، ص11 ـ 12].

لملمت أوراقي، واستجمعت أفكاري وشجاعتي، وأمسكت أدواتي ودلفت إلى محراب الفردوس الموعود، بقلب عاشق، يسأل كل حين: لماذا كل هذا العشق للأندلس؟

نعشق الأندلس، لأنها بلاد الجمال وعنوانه، هذا الجمال المنبث في كل الأرجاء اتسعت به الأبصار والخيالات بما حباها الله من صفات، فتجدها دون ترتيب أو إعداد تملك عقلك، وتغزو قلبك، وتحط رحالها في تكوينك وذاكرتك وفؤادك الذي ينبض بعشقها، فلا يملك إلا أن يردد مع مؤرخينا الكبار تلك المقولة الشهيرة: (والأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جناتها، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سواحلها) [الحميري، الروض المعطار، ص33].

ويزيد على العبارة قول آخر: (محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غباره، وأنّى تجارى وهي الحائزة قصب السّبق، في أقطار الغرب والشرق) [المقري، نفح الطيب، جـ1، ص125].

ولأن الله تعالى خصّ بلاد الأندلس (من الرّيع وغدق السّقيا، ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية، وكثرة السلاح، وصحّة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وقبول الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدّن والاعتمار، بما حرمه الكثير من الأقطار ممّا سواها) [ابن الخطيب، نقلًا عن المقري، نفح الطيب، جـ1، ص126].

ونعشق الأندلس، لأنها بلد البطولات، والانتصارات، بلد الفتح الكبير، الذي خط عنوانه طارق بن زياد وموسى بن نصير وطريف بن مالك وإخوانهم، يوم انساحت جموع الفاتحين المؤمنين، لا يوقفهم بحر ولا نهر، فغالبوا الصعاب، وتحدوا الظروف، وقهروا كل العقبات بإيمانهم العظيم، فما أن مضت بضع سنوات حتى كانت شبه الجزيرة الإيبرية ترفع لواء التوحيد، وتدين بدين الإسلام، فكانت العقيدة الربانية والشريعة الإسلامية هي الدافع، وهي الحافز، وهي سبب تحقيق ما رآه البعض أنه ضرب من المعجزات!

وهو درب ظل ممتدًا، ما دامت في النفس حياة على تلك الأرض، فسار فيه من بعدهم الكثير، يقودهم الغافقي والسمح بن مالك والداخل والناصر والمستنصر وابن تاشفين والمنصور الموحدي، ويعاونهم عالِمٌ ثبت، وقاضٍ حكيم، وفارسٌ شجاع.

نعشق الأندلس.. ومدنها، لأنها كانت جواهر مضيئة في جبين شبه الجزيرة الإيبرية، قرطبة (جوهرة العالم) وغرناطة، وطليطلة، وبلنسية، وإشبيلية، ويكفي أن تعلم أن (فضائل أهل قرطبة أشهر من أن تذكر، ومناقبها أظهر من أن تستر، وإليهم الانتهاء في السناء والبهاء، بل هم أعلام البلاد وأعيان العباد، ذكروا بصحة المذهب وطيب المكسب، وحسن الزي في الملابس والمراكب، وعلو الهمة في المجالس والمراتب، وجميل التخصيص في المطاعم والمشارب، مع جميل الخلائق وحميد الطرائق، ولم تخل قرطبة قط من أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وتجارها مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة ولهم مراكب سنية وهمم علية) [الإدريسي، نزهة المشتاق جـ2، ص 574 ـ 576].

و(قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة والإلماع بحضرتي الملك الناصرية الزّهراء، والعامرية الزاهرة، ومنتزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة… ) [أوصاف من مفتتح الباب الرابع لكتاب نفح الطيب للمقري، جـ 1، ص455].

ولأنها بلد المساجد العظيمة، التي كانت وما زالت تثير الانتباه والإعجاب بجمال التصميم وروعة البناء، وجودة التنفيذ وروعة العمارة الشاخصة على الرغم من كل محاولات المحو والطمس والتزييف!!

مسجد قرطبة.. وما أدراك ما مسجد قرطبة، فهو (الذي ليس بمساجد المسلمين مثله بنية وتنميقًا وطولًا وعرضًا… ولهذا المسجد الجامع قبلة تُعجز الواصفين أوصافها وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها) [الإدريسي، نزهة المشتاق جـ2، ص 574 ـ 576].

فكانت مساجد الأندلس عنوان هويتها، ورمز حضارتها، وقصة إنقاذ الأمم من ظلمات البعد عن الله إلى رحاب الإيمان، منذ أن اختط أولها موسى بن نصير بمسجد الرايات أول عبوره للجزيرة الخضراء، ثم أدامها الأمويون والمرابطون والموحدون وبنو نصر الكرام.

ونعشقها كذلك.. لأنها بلد الدعاة والعلم والعلماء، فلم تشهد غيرها من البلاد ما شهدت من دعوة مستمرة إلى فعل الخيرات، وترسيخًا لدولة العدل، بدءًا بقافلة التابعين الذين وطئوا أرضها مع الفاتحين، ونسيم صحبة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، والتي هبت على الأندلس مع المنيذر الأفريقي رضي الله عنه [ابن الأبار، التكملة، جـ2، ص447؛ المقري، نفح الطيب، جـ3،ص5] فجاء بناء النفوس والعقول متوازيًا مع فتح الأراضي والبلدان.

أما مسارات العلم والحضارة في الأندلس، فلا تكفيها كتب ولا مجلدات، طلب حثيث وعشق للعلم، تأليف ونسخ وإنشاء المكتبات، رائدهم قادتهم، ومادتهم كل أبناء الأندلس الذين تشربوا حب العلم والثقافة والإبداع، ويبرز من بينهم بلا منازع الخليفة العالم الحكم المستنصر والذي (كان حسن السيرة، جامعًا للعلوم محبًا لها مكرمًا لأهلها، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك قبله هنالك، وذلك بإرساله عنها إلى الأقطار، واشترائه لها بأغلى الأثمان، ونفق ذلك عليه فحُمِل إليه) [رسائل ابن حزم الأندلسي، جـ2، ص194].

لذلك بلغت هذه المكتبة شأنًا عظيمًا، إذ بلغ عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة خمسون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط!! [جمهرة أنساب العرب، جـ، ص100].

فكان هذا الغرس العظيم المبكر والمتواصل لقرون، ينمو وينساح في كل الأرجاء، ويزداد فاعلية بالرحلات الدائمة بين المشرق والمغرب، إذ لم تمنع تقاطعات السياسة استمرار نبض العالم الإسلامي وتواصل أبنائه.

ثم كانت الثمار الطيبة الحلوة، مثلما هي الأندلس، آلاف العلماء وفي شتى صنوف المعرفة، ومنهم ابن حزم الأندلسي، وابن عبد البر، وابن حيان، وعباس بن فرناس، وابن رشد وغيرهم الكثير الكثير، بل ان المتتبع لكتب التراجم الفذة في الأندلس (تاريخ علماء الأندلس، وبغية الملتمس، والصلة والتكملة لكتاب الصلة، وصلة الصلة، والذيل والتكملة)، ليعجب ويعجز في ذات الوقت، يعجب لهذه الحياة الأندلسية النابضة بالعلم، ويعجز عن إيفاء حقها بالإحصاء والاستقصاء.

وكل ذلك ودروب الأندلس مرصوفة بإتقان، وظلامها يبدد بالمصابيح، فتنير حياة أهلها، وتنعم على قلوب سكانها بالأمن والاطمئنان، دون تمييز أو انحياز، في وقت كانت أوربا تحت ظلام الجهل والتخلف، تخطط وترسم لوحة التنكر لكل لغة وسياسات التسامح والانتقام!!

ونعشق الأندلس، لأنها البلد المسلم الذي أعز نساءه، وفتح لهن كل ميادين الإبداع، ولا غرابة، فإن (البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم، حتى في نسائهم وصبيانهم) كما يقول المقري رحمه الله [نفح الطيب، جـ 4، ص166].

برزت المرأة الأندلسية بسبب ذلك عالمة وشاعرة ومؤرخة، تجيد الخط وتقتن كتابة الرسائل الرسمية والمخاطبات، ومنهن عائشة الأندلسية، وحفصة بنت حمدون، وأميمة الكاتبة، ونظام الكاتبة التي يذكرها ابن الأبار في التكملة فيقول بأنها (كانت بقصر الخلافة بقرطبة في أيام هشام المؤيد، بليغة مدركة محبرة للرسائل، ومن إنشائها كان الخطاب الذي عزى فيه المظفر عبد الملك المنصور بن محمد بن أبي عامر عن أبيه وجدد له العهد بولايته) [جـ4، ص230].

ومنهن العروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب، (سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة، لكنها فاقته في ذلك، وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحهما، قال أبو داود سليمان بن نجاح: قرأت عليها الكتابين، وأخذت عنها العروض) [المقري، نفح الطيب، جـ 4، ص171].

ونعشقها خصوصًا لأنها بلد الزهاد، والتقاة ، الذين كانوا منبعًا طيبًا للخير والإيمان، ومؤشرًا لهوية المجتمع الأندلسي المسلم الذي نهل من منابع الإيمان والتوحيد الخالص، فظل وفيًا له مخلصًا لهويته التي تبعث فيه الروح مهما مرت عليه من خطوب ومحن، ومن أولئك (أبو عمر الحصَّار، الإمام الزاهد، كان شديد الورع، كثير الانقباض، عظيم الصبر) [ابن بشكوال، الصلة،جـ2، ص17]، وسليمان بن عبد الغافر الأموي القرشي الزاهد، ويكنى أبا أيوب، (كان من أهل الزهد والتقلل في الدنيا، وخاتمة الزهاد والصلحاء، وكان من أهل الاجتهاد والورع، وكان يلبس الصوف ويستشعره ويمشي حافيًا، ولا يقبل من أحد شيئًا، وكان معروفًا بإجابة الدعوة، وبكى من خشية الله حتى كف بصره، وكان كثير الذكر للموت، وكثيرًا ما كان يقول إذا سئل عن حاله: كيف تكون حالة من الدنيا داره، وإبليس جاره، ومن تكتب أعماله واخباره. وكان يحمل هذا الكلام عن بعض من لقيه من الصالحين. وكان كثير الدعاء لخاصة المسلمين وعامتهم، مجتهدًا في ذلك.. قال ابن حيان: توفي أبو أيوب يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة أربع مئة، ودفن يوم الاثنين بعده بمقبرة الربض بعد صلاة العصر وشهده جمع عظيم لم ير بعده مثله إذ كان آخر العباد بقرطبة). [الصلة، جـ 1، ص271].

ونعشقها.. لأنها بلد الصبر على التحديات… لأنها تاريخ لوحدها، قصة تختصر كل الأزمان، إذ تقلبت البلاد في مسارات الامتداد، والتعثر، والضعف والتراجع، ثم الانتعاش، فالانحسار، علت بها الأمواج حتى ارتقت وغدت قبلة العالم، وكل ذلك مرتبط بوحدة الموقف والالتزام برسالة الإسلام، ثم هوت وهبطت يوم تشتت الكلمة، وهانت البلاد على أوهن الزعامات، فتنازلوا عن كثير منها، وأضاعوها بثمن بخس، فبادر اهل الرباط والتوحيد فأمدوا في عمرها، حتى قاد بنو الأحمر آخر القرون قبل الانحسار التام.

وقصة الأندلس العظيمة ستبقى شاخصة كل حين تمدنا بالدروس، وتمنحنا العبرة من أرض الحكمة والإنجاز، تبلغنا ألا نصر لهذه الأمة إلا بإسلامها، ووحدتها، وتماسك أبنائها، وأن الإخلال بكل تلك الشروط وتغليب عصبية تجاوزها الإسلام، أو ترسيخ لغة الخلاف والشقاق، أن كل ذلك مؤذن بنهاية العمران، كما يقول العلامة الكبير ابن خلدون في مقدمته.

مثلما أنها شاهد عظيم على تسامح المسلمين وإنسانيتهم، قبالة انتقام الأعداء وقسوتهم، منذ أن عقد عبد العزيز بن موسى بن نصير معاهدة تدمير، ضامنًا لسكان البلاد المفتوحة حريتهم الدينية، فاحتفظوا بمساجدهم ومعابدهم وعملهم دون إكراه، في وقت عمد الخصوم على محو كل ما هو إسلامي، بشرًا وتراثًا ومباني وحتى نفسًا وحياة؟!!

وكيف لا نعشقها.. ونحن دومًا نعيش محنتها، التي تدمي القلب، وسطرها الكتاب بحروف حزينة، من ذلك رسالة لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى حول ضيق حال المسلمين بالأندلس ما صورته:

(وإن تشوفتم إلى أحوال هذا القطر ومن به من المسلمين، بمقتضى الدين المتين والفضل المبين، فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدو تيارًا، ونكابر بحرًا زخارًا، ونتوقع – إلا إن وقى الله تعالى – خطوبًا كبارًا، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصارًا، ونلجأ إليه اضطرارًا، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر استعدادًا به واستظهارًا، ونستشير من خواطر الفضلاء ما يحفظ أخطارًا، وينشئ ريح روح الله طيبة معطارًا، فإن القومس الأعظم قيوم دين النصرانية الذي يأمرها فتطيع، ومخالفته لا تستطيع، رمى هذه الأمة الغريبة المنقطعة منهم بجراد لا يسد طريقها، ولا يحصى فريقها، التفت على أخي صاحب قشتالة وعزمها أن تملكه بدله، وتبلغه أمله، ويكون الكل يدًا واحدة على المسلمين، ومناصبة هذا الدين، واستئصال شأفة المؤمنين، وهي شدة ليس لأهل هذا الوطن بها عهد، ولا عرفها نجد ولا وهد، وقد اقتحموا الحدود القريبة، والله تعالى ولي هذه الأمة الغريبة، وقد جعلنا مقاليد أمورنا بيد من يقوي الضعيف، ويدرأ الخطب المخيف، ورجونا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل}) [نقلًا عن المقري، نفح الطيب، جـ4، ص444].

كما نتأمل بألم وحسرة ما قاله صاحب “مناهج الفكر” بعد وصفه لجزيرة الأندلس وأقطارها، ما صورته: (ولم تزل هذه الجزيرة منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق، إلى أن طما بمترفيها سيل العناد والنفاق، فامتاز كل رئيس منهم بصقع كان مسقط راسه، وجعله معقلًا يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه، فصار كل منهم يشن الغارة على جاره، ويحاربه في عقر داره، إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين يعادي، ويراوح معاقلهم بالعيث ويغادي، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمان هدنة مقدرة، وإتاوة في كل عام على الكبير والصغير مقررة، كان ذلك في الكتاب مسطورًا، وقدرًا في سابق علم الله مقدورًا، انتهى. وهذا قاله قبل أن يستولي العدو على جميعها، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين) [المقري، نفح الطيب، جـ4، ص446].

ثم لما حانت لحظة الحقيقة التي تأجلت طويلًا، كان الحال يرقى ليكون صورة مبكية، لشعب يسير نحو الفناء، وبلد تنهار أركانها لحظة بلحظة، فلما (تمكن فصل الشتاء، وكلب البرد، ونزل الثلج، فانسد باب المرافق، وقطع الجالب، وقل الطعام، واشتد الغلاء، وعظم البلاء، واستولى العدو على أكثر الأماكن خارج البلد، ومنع المسلمين من الحرث والسبب، وضاق الحال، وبان الاختلال، وعظم الخطب، وذلك أول عام سبعة وتسعين وثمانمائة، وطمع العدو في الاستيلاء على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب، ففر ناس كثيرون من الجوع إلى البشرات، ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة، وقل الطعام، ثم تفاقم الخطب، فاجتمع ناس مع من يشار إليه من أهل العلم، وقالوا: انظروا في أنفسكم وتكلموا مع سلطانكم، فأحضر السلطان أهل الدولة وأرباب المشورة، وتكلموا في هذا المعنى، وأن العدو يزداد مدده كل يوم، ونحن لا مدد لنا، وكان ظننا أنه يقلع عنا في فصل الشتاء، فخاب الظن، وبنى وأسس، وأقام، وقرب منا، فانظروا لأنفسكم وأولادكم، فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين، وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفًا على نفوسهم وعلى الناس، ثم عددوا مطالب وشروطًا أرادوها، وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش: منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود، وتكلم الناس في ذلك، وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر، ثم عقدت بينهم الوثائق على شروط قرئت على أهل غرناطة، فانقادوا إليها، ووافقوا عليها، وكتبوا البيعة لصاحب قشتالة، فقبلها منهم، ونزل سلطان غرناطة من الحمراء.

وفي ثاني ربيع الأول من السنة – أعني سنة سبع وتسعين وثمانمئة – استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها: تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم) [المقري، نفح الطيب، جـ 4، ص525].

حينها علت رايات الحزن والأسى على ضياع الأرض والشعب والتراث والحضارة.. ولا غرابة:

لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ       إن كان في القلب إسلام وإيمانُ

[المقري، جـ4، ص488]

ولكن… لا انقطاع عن الأمل، بل على العكس، فمن وسط المحنة تبرز المنحة، وإن كان الدكتور حسين مؤنس يحثنا لنعد الأندلس الفردوس الموعود، ونبقيها حاضرة بيننا درسًا وعبرة، فإن صدى دعوته تلقفها يومًا فارسها الهمام الدكتور عبد الرحمن الحجي رحمه الله، فقال متطلعًا إلى فجر أندلسي جديد: (إلا يصح أن نستعير أسلوب كتابنا وعلمائنا -رحمهم الله تعالى وأثابهم- من أهل الفطنة والنظر، ونقول ما قالوا حين كان يرد ذكر الأندلس: أعادها الله للإسلام) [التاريخ الأندلس، ص 578].

ولا نملك إلا أن نقول: اللهم آمين.

الهوامش:

  • كاتب ومؤرخ وأكاديمي، من العراق.

اقرأ أيضًا:

عودة الإسلام إلى غرناطة

عبد الرحمن الحجي أستاذي الذي عرفته

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى