العدد الرابععالم الكتب

مَن صنَّف “مسند” أبي داود الطيالسي؟

مَن صنَّف “مسند” أبي داود الطيالسي؟

خليل بن محمد المطيري

 

مَن صنَّف "مسند" أبي داود الطيالسي؟
مَن صنَّف “مسند” أبي داود الطيالسي؟

 

لا يخفى على الباحثين مدى أهمية إثبات نسبة كل كتاب إلى مصنفه، حتى لا يتم عزو قولٍ ما إلى غير قائله، أو نسبة وهمٍ إلى غير صاحبه، أو معرفة منهج صاحب هذا المصنف من خلال دراسة مصنفه… إلى آخره.

ومما استرعى انتباهي: “مسند” الإمام أبي داود الطيالسي -رحمه الله تعالى- حيث اختلفت آراء العلماء فيمن صنفه؛ فوقفت على أربعة أقوال:

القول الأول: أنه من تصنيف يونس بن حبيب.

القول الثاني: أنه من تصنيف أبي داود الطيالسي نفسه.

القول الثالث: أنه من تصنيف أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي.

القول الرابع: أنه من جمع بعض المتأخّرين من حفّاظ خراسان.

وسنذكر -بحول الله وقوته- بيان كل قول على حدة، مع ذكر القائلين به، مشفوعًا بأدلته، مع ذكر الراجح منه:

القول الأول: أنه من تصنيف يونس بن حبيب:

وممن قال بذلك:

1- ابن أبي حاتم الرازي: صرح بذلك في موضعين من تصانيفه وهما:

أ- الجرح والتعديل، فقد قال -رحمه الله تعالى- لما ترجم لعبد الرحمن بن علقمة الثقفي (5/273): “أدخله يونس بن حبيب في كتاب -وفي نسخة من الجرح: مسند، وكذا جاء في الإصابة (4/173)- الوحدان، فأخبرت أبي بذلك فقال: هو تابعي، ليست له صحبة”.

فهذا تصريح بيِّن من ابن أبي حاتم بأن يونس بن حبيب هو الذي أنشأ “مسند” الطيالسي، وجعله على مسانيد الصحابة رضي الله عنهم بدليل أنه هو الذي أدخل عبد الرحمن الثقفي في مسانيد الصحابة من الوحدان -يعني ممن لم يرو إلا حديثًا واحدًا-.

وإن قال قائل: بأن هذا القول يُعد أيضًا من قول أبي حاتم الرازي نفسه لإقراره لابنه على ذلك لَما أبعد.

تنبيه:

جاء في ترجمة عبد الرحمن بن علقمة الثقفي المشار إليه آنفًا إسناد حديثه من “مسند” الطيالسي محرفًا، وقد جاء على الصواب عند النسائي في الصغرى، فليصحح.

ب-كتاب “علل الحديث” (2/288)، فقد قال -رحمه الله تعالى- لما ذكر حديثًا رواه أبو داود الطيالسي من طريق أبي أيوب الأزدي: “ولم يفهم يونس بن حبيب أن أبا أيوب الأزدي هو العتكي، فأدخله في مسند أبي أيوب الأنصاري”.

قلت: وهذه الرواية في “مسند” الطيالسي رقم: (259).

وفي هذين القولين من ابن أبي حاتم دليل واضح على أن “مسند” الطيالسي هو من تصنيف يونس بن حبيب.

وحسبك بذلك حجةً من ابن أبي حاتم، فهو من أعلم الناس بيونس بن حبيب، وأكثر الناس رواية عنه.

2- ابن حبان البستي:

فقد ذكر يونس بن حبيب في “الثقات” (9/291-292) وقال “صاحب مسند أبي داود الطيالسي”.

وكلمة “صاحب” هذه لا تقال إلا على من صنف الكتاب لا من رواه عن مصنفه.

ولو أن ابن حبان يرى أن هذا “المسند” هو من تصنيف أبي داود الطيالسي لقال في يونس بن حبيب: “راوي مسند أبي داود الطيالسي” وهذا أمر معلوم.

3- شمس الدين الذهبي:

قال -رحمه الله تعالى- في السير (9/382) في ترجمة أبي داود الطيالسي: “سمع يونس بن حبيب عدة مجالس مفرقة، فهي المسند الذي وقع لنا”.

ويعني الذهبي بذلك: أن ما وصل إلينا من “مسند” الطيالسي هي عدة مجالس أملاها أبو داود، فجمعها يونس بن حبيب، وجعلها على ترتيب “المسند”.

قلت: وثمة دليل آخر -قطعي- يثبت أن “المسند” هو من تصنيف يونس بن حبيب:

وهو ما جاء في المسند ص (174-175): “…حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، حدثنا يونس بن حبيب قال: أحاديث حارثة بن وهب رضي الله عنه حدثنا أبو داود الطيالسي…”.

وكذلك في ص (363-364): “…ثنا أبو بشر يونس بن حبيب قال: أبو العالية الريحاني عن ابن عباس -رضي الله عنهم- حدثنا أبو داود…”.

ففي هذين الموضعين ترى أن يونس بن حبيب هو الذي صرح بأسماء الصحابة الذين سيورد لهم أحاديثهم فيما رواه عن شيخه أبي داود الطيالسي.

ولو أن أبا داود الطيالسي هو الذي صنف “المسند” لنُسبت هاتان العبارتان إليه.

وفي كل ما أوردناه من أدلة تثبت لنا أن هذا “المسند” هو من تصنيف يونس بن حبيب -رحمه الله تعالى-.

القول الثاني: أنه من تصنيف أبي داود الطيالسي

وممن قال بذلك:

1- الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك، كما في المدخل له ص (30) قال: “أبو داود الطيالسي هو أول من صنف المسند على تراجم الرجال في الإسلام”.

2- أبو يعلى الخليلي: قال: “أول من صنف المسند على ترتيب الصحابة بالبصرة: أبو داود الطيالسي”. انظر: الإرشاد (2/512).

3- ابن خير الأشبيلي: قال في فهرسته ص (141): “مسند أبي داود الطيالسي وهو أول مسند صنف في الإسلام”.

4- القرطبي: قال في تفسيره (1/9): “مسند أبي داود الطيالسي هو أول مسند صنف في الإسلام”.

5- الحافظ العراقي: قال في فتح المغيث (1/50): “مسند أبي داود الطيالسي، ويقال إنه أول مسند صنف”.

والجواب عن هذا القول بما يأتي:

1- ما أوردناه من أدلة صريحة في القول الأول تثبت أن هذا “المسند” ليس من تصنيف أبي داود الطيالسي.

2- القائل بأن أبا داود الطيالسي هو الذي صنف “المسند” إمام واحد فقط وهو: الحاكم النيسابوري، ومن ذُكر دونه فهو تبع له، فإن أبا يعلى الخليلي تلميذ للحاكم، وهو كثير ما يتبع شيخه في كتابه الإرشاد، وهذا أمر يعلمه من له اطلاع عليه.

3- وأما ما ذكر عن ابن خير الأشبيلي، والقرطبي، والعراقي بأن “المسند هو أول مسند صنف في الإسلام” ليس بلازم منه أن الطيالسي هو الذي صنفه.

4- على أنا لا نسلم بصحة هذه المقولة -أعني القول بأن أبا داود هو أول من صنف المسند- فقد قال ابن عدي -رحمه الله تعالى- في كتابه الكامل في ترجمة يحيى الحماني: “أول من صنف المسند بالبصرة مُسَدَّد” (7/239) ومعلوم أن الطيالسي أعلى طبقة من مسدد، ثم إن قول ابن عدي هذا هو أولى بالقبول ممن سواه ممن كان دونه في الرتبة والطبقة.

وقال الحافظ ابن حجر في “التقريب”: “مسدد بن مسرهد… يقال إنه أول من صنف المسند بالبصرة”.

وقال الحافظ الكتاني في “الرسالة المستطرفة” ص (61): “مسند أبي داود الطيالسي… قيل: وهو أول مسند مصنف، ورُدّ بأن هذا صحيح لو كان الجامع له، لتقدُّمه، لكن الجامع له غيرُه…”.

القول الثالث: أنه من تصنيف أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي:

قال بذلك: الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، قال الذهبي في السير (9/382): “وقال أبو بكر الخطيب: قال لنا أبو نعيم: صنف أبو مسعود الرازي ليونس بن حبيب مسند أبي داود الطيالسي”

جوابه:

غاية ما في هذا القول أن أبا مسعود الرازي قد أعان يونس بن حبيب في تصنيفه للمسند، أو أنه انتخب له بعض مروياته عن أبي داود الطيالسي.

على أنا لا نسلم بذلك كله، فقد تبين لنا من خلال دراستنا للمسند أن يونس بن حبيب هو وحده الذي صنف هذا المسند وذلك بما يأتي:

1- ما أوردناه سلفًا في القول الأول بما لا مزيد عليه في الاستدلال بأن يونس بن حبيب هو صاحب المسند.

2- وجدت في “المسند” كثيرًا من الزوائد التي زادها يونس بن حبيب على مرويات شيخه أبي داود الطيالسي، ومن هذه الزوائد: روايته عن حماد بن زيد رقم (622)، وعن حماد بن سلمة رقم (911)، وعن عبد الله بن المبارك رقم (1010)، وعن سفيان الثوري رقم (1720)، وعن عبد الحكم القسملي رقم (2212). كذا جاء في المطبوع من المسند، وأخشى أن يكون اسم أبي داود سقط من هذه المواضع حيث لم أجد أحدًا ممن ترجم ليونس بن حبيب ذكر هؤلاء الأئمة في شيوخه.

وكذلك ما زاده يونس بن حبيب من مرويات على سبيل المتابعات والشواهد كما في رقم (364، 992).

فلو أن أبا مسعود الرازي هو الذي صنف المسند ليونس بن حبيب -كما ادعاه أبو نعيم- لما كانت هناك حاجة في إيراد هذه الزوائد في المسند.

ولكننا نستفيد من قول أبي نعيم هذا: أن “المسند” ليس من تصنيف أبي داود الطيالسي، وفي هذا ترجيح قوي آخر لإثبات “المسند” ليونس بن حبيب.

القول الرابع: أنه من جمع بعض المتأخرين من حفاظ خراسان:

وممن قال بذلك:

1- الحافظ ابن نقطة: قال في التقييد (489): “ويقال أن هذا المسند جمع له -يعنى ليونس بن حبيب- مما وجد سماعه من أبي داود جمعه له بعض حفاظ الأصبهانيين”.

2- الحافظ السيوطي: قال في التدريب (1/157) متعقبًا العراقي: “وظن أنه هو صنفه، وليس كذلك، فإنما هو من جمع بعض الحفاظ الخرسانيين، جمع فيه ما رواه يونس بن حبيب خاصة عنه، وشذ عنه كثير منه”.

3- الحافظ الكتاني: قال في الرسالة المستطرفة ص (61): “وهو [جمع] بعض حفاظ خراسان، جمع فيه ما رواه يونس بن حبيب عنه خاصة”.

جوابه:

1- أن هذا القول ظاهر البطلان، فأقدم من قال بذلك -فيما وقفت عليه- هو الحافظ ابن نقطة، ولا يمكن أن ننسب هذا القول إليه، حيث نقله بصيغة التمريض، ثم إنه قال بعد ذلك مباشرة: “حدث عنه -يعني يونس بن حبيب- بالمسند عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس”. هذا إقرار من ابن نقطة أن المسند كان بين يدي يونس بن حبيب.

2- لم يعرج أحد ممن نقل هذا القول على اسم ذاك الحافظ الخراساني المتأخر والذي نسب إليه بتجميعه “مسند” الطيالسي.

3- مَن تتبع أقوال العلماء ممن تكلموا على “مسند” الطيالسي عَلِمَ عِلْم اليقين أن “المسند” كان بين يدي يونس بن حبيب وأنه كان مصنفًا في حياته، ومن هذه الأقوال:

أ- قال ابن مردويه في “تاريخ أصبهان”: “محمد بن علي بن محمد الجارود أبو بكر… روى “المسند” عن يونس بن حبيب يعني مسند أبي داود الطيالسي” التقييد (ص88).

ب- وكذلك قال أبو الشيخ في طبقاته (3/579) في ترجمته ابن الجارود “سمع المسند من يونس بن حبيب”.

ج- وقال أبو الشيخ في طبقاته (4/299) في ترجمته محمد بن إسماعيل بن سمويه: “وعنده عن يونس بن حبيب المسند”.

د-وقال ابن نقطة في التقييد (ص314) لما ترجم لابن فارس: “حدث عن يونس بن حبيب بمسند أبي داود الطيالسي”.

ففي هذا الأقوال كلها دليل -لا شك فيه ولا ريب- على أن المسند كان بين يدي يونس بن حبيب، وأنه كان يحدث به، وسمعه منه الكثيرون.

وإذا انضاف إلى هذا الدليل ما سبق بيانه في الأقوال الثلاثة -سالفة الذكر- تبين لنا -حقيقة- أن “مسند” الطيالسي هو من تصنيف يونس بن حبيب راوية أبي داود الطيالسي.

 

اقرأ أيضًا:

مراجعة كتاب “القراءة الماركسية للتراث الإسلامي” ليوسف سمرين

مراجعة كتاب “الفن وتطور الثقافة الإنسانية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى