العدد الأولمقالات

النقد وأثره في الأدب

 

أينما وُجد الأدبُ وُجد النقدُ، متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخَر، وإن كان الأدبُ أسبق من النقد فلا يكون نقدٌ إلا إذا كان بين يديه أدبٌ يتحرك فيه ويُصدر رأيه.

النقدُ حاكم على الأدب، بل يتبوأ مكانةَ الأستاذية، فلا غرابة أن يكون النقد من أرقى الدراسات الإنسانية بمفهومه العامّ، فالنقدُ في أساسه ونشأةِ مصطلحه أنّه نابع من نقد الصيرفة وتمييز الدراهم غثّها من سَمينها، فالنقدُ مفهومٌ عام لا يقيَّد بالأدب شعرًا ونثرًا، فنقد الأدب ونقد الاجتماع، ونقد الحديث ونقد الرجال، وغيرها، وفي مجمل معانيها تَرجع إلى الأصل اللُّغوي: التمييز وتخليص الأصيل من الزائف.

لذا كان أثر النقد على الأدب بالغ الأهمية، إذ إنه رافقه من بدايته وسايره إلى العصور الحديثة، فلا يستغني أدب عن نقد، ومن جرّاء ما وصل إلينا من لمحات نقدية، ولطائف إشارية على الأدب، نلمح أنه كان يتخذ كرسيًا يجلس عليه فيصدر أحكامه، ويوجه آراءه إلى الشعراء والأدباء منذ فجر التاريخ، وما قصة النابغة الذبياني إلا شاهد على ما نقول، ودليل على ما نذهب إليه، قال الأصمعيُّ: “كان النابغة يُضرب له قبّة حمراء من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها”.

ونستطيع القول: لولا النقد لبقي الأدب يراوح مكانه، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، فالأدب أقلقَ النقدَ وأقضَّ مضجعَه، وفي الوقت نفسه النقدُ صوَّب الأدب وصحَّح مسارَه ونفَى عيوبَه، ولم يستطع الأدب الإفلات من قيد النقد على الرغم من محاولات الشعراء والأدباء التخلص منه وتهميشه أحيانًا، فترى كأنَّ خصومةً ما بين الأدب والنقد، ونحن نرى أنها خصومة، غير أنها خصومة شريفة؛ فلا الناقد يكتفي بالنظر والتدقيق، ولا الشاعر يتغافل عما يقوله النقد والنقاد، بل إنه ليرهب قول الناقد فيه، وربما تجرأ فرفض قولهم، وما قصة الفرزدق عنا ببعيد؛ سأله أحدهم على ماذا رفعت “مُجلّفُ” من قوله:

وَعَضُّ زَمانٍ با ابنَ مَروانَ لمْ يَدَعْ           مِن المَالِ إلّا مُسْحـةً أو مُـجَـلَّفُ

 فشتمه، وقال: علينا أن نقول وعليكم أن تحتجُّوا.

فالناقد يطلب من الشاعر المزيد، بينما الشاعر مقيد ببحر، وقافية، وشعور، وخيال، وقيود اجتماعية، وأزمات نفسية تختلج في صدره، وواقع يصطدم به؛ بل لعله لا يستطيع الإفلات منه، غير أن الناقد لا يعفيه ولا يلتمس له عذرًا.

فلقد أنشد ابن قيس الرقيات عبدَ الملك بن مروان:

إنَّ الحَوادِثَ بالمدينة قَدْ               أَوْجَعْنَني وقَرَعْن مَرْوتيهْ

فعلى الرغم من طرب عبد الملك لقوله إلا أنه لم يمنعه من نقده وتناوله بقوله: “أحسنت لولا أنك خنثت في قوافيه”، فقال ابن قيس: “ما عدوت كتاب الله {ما أَغْنى عنّي ماليهْ هَلكَ عنِّي سُلْطانِيهْ}”.

على أننا نعودُ إلى القول بدايةً، إلى تَرافُق النقدِ والأدبِ -والعَوْد أَحْمَدُ- من أنّ النقد يصوِّب الأدب ويرأف عليه، على الرغم من القَسوة حينما نراها، ونرى معها ما يطلبه النقد من الأدب والشعر ومن الأدباء والشعراء على السواء، متناسيًا كل همومهم وآلامهم، وكأنه يطلب الكمال والتمام، تمامًا كما يطلب الأب من ولده المزيد من التقدم والرقيّ.

فحتّى في الجاهلية كان النقد -على الرغم من بساطته- يتخذ دور الأستاذ المعلم المصوب، فعندما نقد طرَفةُ المتلمِّسَ في صفة “الصيعرية”، وقال: “استنوق الجمل”، لم يعد المتلمّس إلى ذلك، لأنه أحسَّ أنه خرج عن مألوف الصفة ما بين المذكّر والمؤنّث ، والنابغة يقول شعرًا فيه إقواء، وتغيّر في حركة القافية، ولا يتنبّه لذلك ولم يشعر، حتى دخل يثرب، فأسمعوه غناءً من شعره، وهو قوله:

أمِن آل ميَّة رائحٌ أو مغتدي    عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّدِ

زعمَ البوارح أنَّ رحلتنا غدًا     وبذاك حدَّثنا الغداف الأسْوَدُ

ففي البيت الأول “مزودِ” بكسر الدال،  وفي الثاني “الأسودُ” بضم الدال، ولم يفطن لذلك حتى دخل يثرب، فغنّته الجارية، فتغيّر الإيقاع وجاء نشازًا على الأذن، ففطن لذلك، فلم يعد إلى الإقواء مطلقًا.

إنّ النقد هنا يقوم بدور التصويب والتصحيح، بل إنه لا يجامل، ولا يداهن إلى درجة القسوة والغلظة، فعلى الرغم من أنه نقدٌ فطريٌّ يتّسم بالسذاجة، إلا أنه يتخذ من التصويب والحاكمية سوطًا يُلهب به ظهر من يخرج عن سياقِ مألوف الجماعة وعُرفها.

ومما يؤكِّد أنّ النقدَ حاكمٌ لا يجامِل، ما روي أنه: “تحاكم الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وعبدة بن الطبيب، والمخبل السعدي، إلى ربيعة بن خدار الأسدي، في الشعر، أيهم أشعر؟ فقال للزربقان: أما أنت فشعرك كلحم أسخن لا هو أنضج فأكل ولا ترك نيئًا فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فإن شعرك قصّر عن شعرهم وارتفع على شعر غيرهم، وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر”.

إن هذه الرواية تؤكد أن النقد لا يعرف المجاملة، ولم يقف عندها بل تعداها إلى الصرامة والقسوة، على ما فيها من تفصيل في الحكم، وإقرار الرأي واستقراره على ما بين يديه، مواجهة غير مواربة أو تورية!

فلا غرابة إذن، أن تجد كبار النقاد فيما بعد اعتصموا بالمقولة، أو الرأي الذي يعدُّ فيه رأي الناقد حكمًا لا مجال للمجادلة، أو المراجعة فيه، كما نلمح عند الآمدي، حين كان يرى أن رأي الناقد كحكم العالم بالصناعة؛ مثل الصائغ صاحب الجواهر ومثل العالم بالخيول وتميز عيوبها من سماتها، كذلك الناقد لا يراجَع في حكمه ولا يعترَض عليه.

وحينما كان القاضي، والعالم بالجواهر وصياغتها، والعالم بالخيول وصفاتها، يتحاكم الناس لديهم لفض الخصومة أو بيان قيمة الأشياء، فإن الناقد لا يقل عنهما، إن لم يكن يربو على ما عندهم، لأنه يَفصل في الأدب وجمال القَول بل يصحِّح الفكر الإنساني ويصوب التفكير، وهو أرقى علمٍ لمخاطبته الإنسان وعقله، وينقي الأدب من شوائبه، ويخلصه مما يحطّ من قدره، وآيةُ ذلك أن ابن قتيبة، وهو ناقدٌ مشهور، في كتابه “الشعر والشعراء”، حينما صنَّف الشعرَ أربعة أضربٍ كان يطمح أن يلتزم الشعراء ما وجَّههم إليه ليعلو أدبهم ويستقيم، على الرغم من تشدده واعتراض بعض النقاد ممن جاء بعده على حكمه على بعض الأبيات، مثل أبيات كثيّر عزّة، حيث عدَّها ممن حسُن لفظه وساء معناه، في الوقت الذي عدَّها ابنُ جنّي فيما بعدُ أنها أبيات جميلة تحمل معانيَ عظيمة، وألفاظًا شريفة، ربما تظنّ أيها القارئ الكريم، أنّ ذلك تناقض في قولي وفكري، ولك الحقُّ في ذلك، لكنَّني سأقول لك قولًا مهمًّا جدًا لنقف عليه ونَعيه: إنّ أيَّ نظرية نقدية تكون راقية في زمانها وعصر منتجها، تتلقى بالقبول وإن وُجد بعضُ الاعتراض! فإذا مضى عليها الزمن أخذت في السآمة والملل، أو بَهت بريقها، وربما أصابها الوهن والشيخوخة والهرم وربما اندثرت! وحينها لا بد من ترميم، أو تجديد، لإعادة الحيوية إليها.

لا أقول ذلك جزافًا أو ضربًا من الخيال، لكنني أُلْفت النظرَ إلى التأمل في نظريات عديدة وكثيرة ظهرت في الأدب العربي، كل واحدة كانت رائدة في زمانها، ثم تأتي بعدها أخرى فتدحرها أو تؤكدها أو تجددها أو تعيد صياغتها وعرضها للدارسين، وذلك محسوس مشاهَد من عصر الأصمعي، والجاحظ، والآمدي، وحتى الجرجاني، لكن بعض تلك النظريات كُتب لها القبول، ولاقت استحسانًا من الدارسين، فأجروا عليها دراسات وتجديدًا وصياغةً أحيَتْها وبَلورتها بلُغة العصر.

إنّ ذلك يقودنا إلى ما بدأنا به الحديث، من أنّ الأدب والنقد مترافقان لا يفترقان على ما بينهما من خصومة شريفة! وحين كان الأدب -كل الأدب- إنسانيّ، فإنّ النظرة الإنسانية متجددة متغيرة بل متقلبة على مرِّ الزمان؛ ومن هنا نرَى تأثير النقد على الأدب، ونُدرك كذلك في العصر الحديث كثرة النظريات الأدبية الحديثة الغربية وغيرها، وظهور إحداها تلو الأخرى من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى البنيوية إلى السياقية إلى السيميائية إلى التناص ثمّ الحِجاج وعلْم النصّ وغيرها.

لنقول في النهاية ليس هناك نظرية أدبية جامعة مانعة على مرِّ التاريخ والزمان، فكما كان الأدب متجدِّدًا والنظرة الإنسانية متجدِّدة متقلِّبة، فكذلك النقد يواكب ذلك بتجدُّد وتقلُّب!

فالأدب نابع من انعكاس الواقع، ممتع أحيانًا، ومؤلم أخرى، وناقم تارة، وساخط في أكثر أحيانه، كذلك نلحظ النقد يتبع ذلك، ويتتبَّعه، بالقسوة تارة وبالخصومة أخرى، وقلَّما يكون راضيًا!

 


 

اقرأ أيضًا:

في ظلال رسالة الإمام الخطابي: بيان إعجاز القرآن

سيميائية الإيقاع الشعري

في الإعجاز البلاغي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى