العدد الخامسمقالات

في ذكرى سقوط الأندلس

في ذكرى سقوط الأندلس

محمد الصاوي·

في ذكرى سقوط الأندلس
في ذكرى سقوط الأندلس

في يوم 2 يناير كانت ذكرى سقوط الدولة العظيمة، والفتاة المدللة، والمثال الذي تطلعت إليه العيون والأفئدة، حاضنة العلماء، وجامعة الأولياء، ومهوى العشاق والشعراء، وزينة مجالس الأمراء والأدباء: الأندلس (٩٢ه‍ – ٨٩٨ه‍).

وهذه الذكرى ربما أحياها بعض الناس بذكر مآثر الأندلس، وشعرها وموشحها، ومذاهبها وعلومها وعلمائها، وبعض الناس يكتب عنها لاطمًا متحسرًا نادبًا حظها ومآلها، وكلاهما على حق فيما كتب وقال وفعل، فهي الأثيرة الحبيبة، وهي من أجمل الحاضرات، ومن أعز المفقودات.

ولكني مع ذلك أجد في هذه الذكرى شيئًا آخر غير هذين السابقين، ولي في إحيائها مذهب غير هذين المذهبين.

إن سقوط الأندلس لم يكن بين عشية وضحاها، بل قامت دول وسقطت دول، وجاءت سياسات وذهبت سياسات، وتوالى على الحكم فيها صالحون وطالحون، وكثر فيها الذهَب الخالِص حينًا والخَبَثُ حينًا، وكان العدو القريب متربص في كل هذا، منتظر فرصةً يستعيد فيها ملكه الضائع وبلاده المسلوبة، لم ينم عما يراه حقًا له -وإن تناوم-، ولكن بعض أمراء الأندلس وملوكها ناموا وسكروا وغرقوا في سكرتهم حتى صَبَّحَهُم ما لم يعدّوا له عدته ولم يحسبوا حسابه.

إن سقوط الأندلس كان نهاية سلسلة طويلة من الانتكاسات والغفلة على مستوى الحكام والمحكومين، والخاصة والعامة، والعلماء والعوام. صاحبَ ذلك تيّقُظٌ وتنبُّهٌ من العدو القريب، يحيك الحيل، ويتربص الدوائر، وينتظر الفرصة الملائمة.

لم تُفتح الأندلس حين فُتِحت بملازمة الفِراش، وملاعبة الفَراش، وإنما فُتِحَتْ بالعزم والمثابرة، والجد والاجتهاد، والمغامرة والشجاعة، فتحول الحلم إلى حقيقة، وقامت الحضارة العريقة التي ما زلنا نتغنى بها فخرًا وتيهًا حينًا، ونرثيها ونندبها حينًا.

إن من حق الأندلس علينا، ومن حق الإسلام علينا، أن نعرف من أين نُؤتى، ومن الذي يكيد لنا، وكيف يكيد لنا، وأن يعيش الواحد منا هذه القضية ويموت بها، يموت وهو متشبث بأصله الذي ما انفرط عقد دول الإسلام إلا بالتفريط فيه.

إن سقوط الأندلس ليس مجرد حدث تاريخي مر وانتهى، بل كل يوم تسقط أندلس جديدة، كل يوم يُغَيَّبُ فيه المسلم عن الحق هو سقوطُ أندلس، وكل يوم يرتفع فيه سفيه وينزل حليم هو سقوطُ أندلس، وكل يوم نعيشه بأخلاق فاسدة وأدب فاسد ودينٍ منتحَل وصفوةٍ فاسقة هو سقوطُ أندلس.

والواجب الآن أن ينحت كل واحد منا في الصخر مستجلبًا تلك الحقيقة التي يراد لها أن تختفي، وأن يصل إلى ذلك الكنز الذي أريد له أن يظل مدفونًا، وألا نخضع لمناهج فاسدة لوثت هواء العلم والأدب والثقافة والدين بسموم يسمُّونها علمًا (زعموا) ويسمونها تجديدًا (زعموا) ويسمونها تنويرًا (زعموا) ويسمونها حداثةً (زعموا).

ذكرى سقوط الأندلس عندي فرصة لبدء استعادة الأندلس وكل أندلس أخرى سقطت، وليست ذكرى للندب والعويل، أو التفاخر والمباهاة المجردة عن كل معنى، إلا ما يريده الضعيف بقوله: (كان أبي وكان).

الهوامش

  • كاتب وباحث في الدراسات العربية والإسلامية، من مصر.

اقرأ أيضًا:

نقائش الحمراء وإشاراتها

نقش أندلسي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى