العدد الخامسمقالات

عبد الرحمن الحجي أستاذي الذي عرفته

عبد الرحمن الحجي: أستاذي الذي عرفته

نادر بن وثير·

عبدالرحمن الحجي: أستاذي الذي عرفته
عبدالرحمن الحجي: أستاذي الذي عرفته

لا أنسى موجة الفرح التي انتابتني في ربيع عام ٢٠١٥م حين أخبرني أحد أصدقائي أن المؤرخ الشهير الدكتور عبد الرحمن الحجي صاحب كتاب “التاريخ الأندلسي” قد حل ضيفًا على بلادي الكويت، وزاد الفرح عندما أخبرني صديقي بأن الدكتور يستقبل الجميع بصدر رحب حتى لو لم يكن لك سابق معرفة به، وكنت قد عرفت الدكتور عبد الرحمن عن طريق مؤلفاته الشهيرة ومقابلاته التلفزيونية الماتعة والنافعة في آن واحد، اتصلت بالدكتور فكان كما قيل لي، يهلل ويرحب فحددت معه موعدًا في اليوم التالي.

زرت الحجي في داره المكتضة بالكتب، كان بشوشًا عطوفًا، صاحب شخصية عظيمة جمعت بين هيبة العلماء وتواضع الزهاد، في البداية كنت أسأله بشيء من الحذر خوفًا من إزعاجه وإذا بي أرى رجلًا لا يكلّ ولا يملّ من الحديث عن التاريخ والكتب والعلماء والكُتاب، جلستُ معه ساعات طويلة، وأنا أسأل وأسأل وهو يجيبني بتفاصيل دقيقة، ولا أزال أذكر صورته -رحمه الله- كما رأيته في ذلك اليوم؛ رجلًا بسيَط المظهر بعيدًا عن كل تكلّف في زيه وجلسته وحديثه؛ يتكلم عن التاريخ والأدب والمؤلفات، كان جُلّ حديثنا عن الأندلس، كان يتكلم بأناة العالم المحقق، ولكن بسهولة المتحدث المفيد.

ومما حفرته في ذاكرتي قوله: إن المستشرقين قد ركزوا على التاريخ لأن التاريخ هو التطبيق العملي لتعاليم الإسلام، وبسقوطه يسقط الإسلام، وأن كل الشبهات التي روجوا لها تسقط مع التحقيق العلمي. كما أخبرني بأن أفضل مؤرخ مشرقي كتب عن الأندلس هو الإمام الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام)، وأفضل من دوّن تاريخ الأندلس من المعاصرين العلامة محمد عبد الله عنان، وأسهب الدكتور الحجي بالقول عن مشروعه التاريخي (مركز ابن حزم) الذي يعنى بتدوين التاريخ الإسلامي من جديد لكنه مع كامل الأسف لم يتم، ولعل طلبة الحجي ومحبيه يقومون بإنجاز ذلك المشروع.

ولم أخرج من داره إلا بعد ساعات طويلة مرت كأنها لحظات خاطفة، كان هذا أول لقاء جمعي بذلك المؤرخ الكبير، الذي كان يجاهر بعطفه وغيرته الشديدتين على أمته ودينه، وكان لا يخفي حزنه على ما أصاب الأمة من ركود وجمود في الفكر والسياسة، لكنه كان متفائلًا شديد التفائل في شباب الأمة، ولم أسمع منه تذمرًا ولا تجريحًا لأحد من الأموات والأحياء على السواء، لا في مقابلتي الأولى ولا حتى في المقبالات اللاحقة -غفر الله له-.

 

الحجي في سطور:

ولمن لا يعرف الحجي أقول: إنه عبد الرحمن بن علي الحجي، عراقي المولد والنشأة، إسلامي النزعة والميول، أندلسي الهوى والتخصص، حصل على الدكتوراه من جامعة كامبريدج سنة ١٩٦٦م، ودرَّس في العديد من الجامعات العربية مثل جامعة بغداد، والملك سعود، والكويت، وصنعاء، والإمارات، كان عالمًا متبحرًا كثير القراءة والاطلاع، يُمضي جُل يومه في القراءة، قال ذات مرة أنه قد قرأ كل مؤلفات العقاد وطه حسين وأحمد أمين وسيد قطب ومحمد عبد الله عنان وغيرهم الكثير ممن لا تحضرني أسماؤهم، ومما هو جدير بالذكر أن الحجي قد عاش آخر حياته في مدريد عاصمة إسبانيا، فكان يتردد على الصروح الإسلامية الخالدة في تلك البلاد التي سحرت فؤاد الحجي وأخذت بلبّه.

وله مؤلفات علمية وأدبية وتحقيقات وأبحاث سارت بذكرها الركبان، وانتفع منها خلق كثير، أشهرها كتاب (التاريخ الأندلسي) الذي يقع في ستمئة صفحة، قال لي أنه قد ألفه في ست سنوات، ويصل عدد المصادر التي استند إليها حوالي مئتي مصدر من ست لغات مختلفة، وقد اختصر الحجي في كتابه هذا تاريخ المسلمين في الأندلس من عصر الفتح إلى عصر الانهيار والضياع، وهو في نظري خير ما كتبه المؤرّخون المعاصرون عن ذلك التاريخ العظيم، وله كتاب (شعراء الأندلس) الذي كتب فيه عن كل الشعراء الكبار الذين عرفتهم الأندلس خلال ثمانية قرون، وله كتاب (العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوربا الغربية خلال المدة الأموية) وهذه الدراسة تعد من خيرة مؤلفات الحجي، إذ هي رسالته للدكتوراه التي قدمها في جامعة كامبريدج، ومصادرها باثنتي عشرة لغة، منشورة كتابًا بالإنجليزية -كما ذكر لي- وتُرجمت إلى اللغة العربية وتم نشرها، كما ألف الحجي وأبدع التأليف في السيرة النبوية، وله محاضرات مصورة ولقاءات تلفزيونية لا حصر لها غالبها نُشرت في الإنترنت.

رحم الله الدكتور عبد الرحمن الحجي الذي وفاته المنية في ١٨ يناير ٢٠٢١م بعد أن أدى واجبه على أكمل وجه للحقيقة والتاريخ، رحل ولم ترحل آثاره الأدبية والعلمية وهو ممن يصدق فيهم قول الإمام الشافعي:

قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم *** وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ

 

____________

  • كاتب وباحث في التاريخ والأدب، من الكويت.

____________

اقرأ أيضًا:

الدكتور الحجي: خاتمة جيل الفاتحين

عبد الرحمن الحجي: الأستاذ والإنسان

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى