العدد الخامسمقالات

الدكتور الحجي خاتمة جيل الفاتحين

الدكتور الحجي: خاتمة جيل الفاتحين

د. عامر ممدوح·

 

الدكتور الحجي: خاتمة جيل الفاتحين
الدكتور الحجي: خاتمة جيل الفاتحين

يُطلَق عليه: الدكتور (عبد الرحمن علي الحجي)، وأسمّيه: الوالد، والأستاذ، وعاشق الأندلس وفارسها، وشيخ مؤرخي الأندلس الأفذاذ، وخاتمة جيل الفاتحين.

فماذا أريد أن أدوّن في وصفه، وبيان مكانته، ودوره، وإسهاماته، وجهده لم يكن لينهض به جيل كامل من طلاب العلم، تحقيقًا وتأليفًا، دفاعًا ونشرًا لرسالة الإسلام، وإعلاءً لشأن تاريخنا الإسلامي الزاهر المجيد؟!

مع أن المشاعر تجاه الوالد الحبيب الحجي كانت دومًا غريبة، فأنا أكتب اللحظة وكأنه بيننا، لم يغب عنّا، ليس إفراطًا في التخيل، وإنما لأن الرجل الكبير استطاع أن يملأ علينا جانبًا مهمًّا وحيويًّا بزادٍ وفير، فمتى احتجت إلى رأيه وفتواه كان في كتابه الأثير (التاريخ الأندلسي) الإجابة، ومتى اشتقت إلى رؤياه طالعتُ قناته على اليوتيوب فإذا به ما زال يغمرك بمحبته وعلمه وإيمانه وتقواه وإنسانيته، دون مبالغة.

(1)
أوليات ضرورية

ابتدأت الحكاية في تسعينات القرن الماضي، وأنا ما زلت في نهاية المرحلة الإعدادية، وقتها كان حب القراءة يملأ عليَّ كل تفاصيل الحياة، عندما وقع بصري على اسم الدكتور الحجي -رحمه الله- ضمن كتابه (نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي)، يومها وجدت نفسي إزاء شخصية فريدة، تجذب القارئ والطالب على نحو غريب، وقلمه الممتلئ غيرة وحماسة على الدين والتاريخ الإسلامي.

ومنذ ذلك الحين، غدا هو ومعه أستاذي الكبير الدكتور عماد الدين خليل -رعاه الله-، يشكّلان ركنًا أساسيًا في الجانب المعرفي، ويشدّاني بقوة إلى حقل التاريخ، فكان الاختيار طواعية بالانضمام إلى هذا العالَم الفسيح الذي ما زالت أعيش عبقه ونسيمه مع أساتذتي الأكارم.

وسبحان الله، فإن كنتُ قد تشرفت بلقاء أستاذي د. عماد الدين خليل مرتين، فإن الفرصة لم تتح لي لقاء أستاذنا الحجي وجهًا لوجه، على الرغم من أني كنت أبعد عنه في إحدى المرات عدة أمتار!! يومها سمعت عددًا من الزملاء يتحدثون عن مقدم شخصية أكاديمية مرموقة كلها عنفوان وحماسة تلقي محاضرات متعددة عن الأندلس في مساجد بغداد.

ومضت الأيام، وازداد الارتباط بما يكتبه الدكتور الحجي، مع أن جمع مؤلفاته كانت مهمة شاقة ولكن كان كل مؤلف أعثر عليه بمثابة الكنز الذي أضمه بشدة وأحرص عليه وأخاف فقدانه!

ووسط ذلك كله، لا حيلة للتواصل معه وهو البعيد عن بلاده، مثله مثل أي مثقف أصيل الفكر والرأي، فهو المسافر دومًا من أجل قضيته، الأندلسي الفاتح الذي أبى إلا أن يحط رحاله في أرض أجداده ليقول كلمته من منبع التاريخ، فهو من نسل طارق وموسى وابن تاتشفين.

وكانت الانتقالة المهمة، يوم تعرفت على حسابه في تويتر، فكان التواصل المباشر، الذي ملأني بسعادة غامرة، وبالمعلومة المفيدة النافعة، والصحبة الطيبة، والإحساس الذي قل أن يشعر به المرء.. وأسميه دومًا (شعور التعامل مع الكبار).

فكيف وجدتُ الحجي؟

بل قل كيف سيكون: رقيقًا حنونًا، عالمًا ثبتًا، فارسًا مغوارًا، شجاعًا أصيلًا، إنسانًا فريدًا، والدًا للجميع بكل ما تعنيه الكلمة..

لا تجده يكل أو يمل من التواصل مع أبنائه وطلبته، يقدم لك الإجابة بإتقان، ويغالب صعوبات حياته ووقته ليحقق التواصل، ويفيض عليك تفاؤلًا وودادًا، يفاجئك وسط الحديث فيسأل عن أحوالك وعائلتك ووظيفتك، بل ويسأل عن الكثير ممن تواصلوا معه سابقًا وأين وصل بحثهم وعملهم الدراسي!!

ووقتها كنت قد عاهدت نفسي وأستاذي الكبير أن أوفيه ولو القدر القليل من حقه، بأن أكتب عنه ولأول مرة بشكل أكاديمي، فذلك شرف كبير، على الرغم من ممانعته أولًا، حينها قلت له هذا الأمر حق وواجب علينا، فكان الإنجاز الذي ما زال يحظى بمكانة خاصة في نفسي بعد سنوات من الصبر ومغالبة الانشغالات، ويكفيني فخرًا أنني حصلت على 15 إجابة أساسية تمثل ملخص فكر ورؤية الدكتور الحجي، كتبها بنفسه، وظل يعدني بإكمالها -رحمه الله-، فيرسل إلي المجموعة تلو الأخرى، عبر مراسلات ما زلت احتفظ بها، حتى اكتملت، فكان بحثي المتواضع (الدكتور عبد الرحمن الحجي والمنظور الإسلامي لتاريخ الأندلس) والمنشور في عام 2017.

وبقي التواصل مع الدكتور عبر رسائل تويتر، أو الهاتف على قلته، مع زيارات حنونة في المنام كانت تثير قلقي على صحته، فأبادر لأطمئن عليه، حتى كان آخر تواصل معه يوم ألقى محاضرته عن انتشار الإسلام في الأندلس في أيام الحجر الصحي، يومها باركت له جهده، واستفسرت منه عن عدة أمور أجابني عليها بشكل دقيق كعادته، وسأرفق في ختام هذه الورقة بعضًا منها.

وأقول بصدق: إن ما جمعني بأستاذي ووالدي الكريم الدكتور الحجي هو أكبر وأرق من أي علاقة بين أستاذ وتلميذ.. هي صلة روحية لا تفسرها الكلمات، ونبضات قلب لا تترجمها العبارات..

لذلك كان يوم وفاته الحزين غريبًا عليَّ، قد تركني لساعات دون تركيز، والتعازي تتوالى علي وأنا العاجز عن تفسير الحدث المؤلم، ولكن هو قدر الله وقضائه، فإن كانت الدعوات له لا تنقطع بالرحمة والمغفرة، فإن العهد باستكمال مسيرته، والتنويه بجهده ومكانته ومآثره، سيبقى منهجًا لنا، وهدفًا نسعى ونبذل جهدنا فيه.. لعلنا نصل يومًا إليه.

(2)
إضاءات منهجية

يُعدّ الدكتور عبد الرحمن الحجي -رحمه الله-، أحد فرسان التاريخ الإسلامي عامة، والأندلس خاصة، وذلك بما قدمه من نتاج مهم ومؤثر، طيلة مسيرته الرائعة.

ويمكن لنا أن نسجل هنا على سبيل الإيجاز والتركيز، وبعد مصاحبةٍ لتراث الدكتور الحجي امتدت أكثر من عقد من الزمان، أنَ نتاجه امتاز بـ:

* الريادة: فهو من رواد التاريخ الإسلامي الأندلسي، والذين تخصصوا منذ وقت مبكر وبذلوا جهدهم بشكل متواصل ليقدموا نتاجهم العميق والمؤثر في هذا الميدان.

* التميز: فالدكتور الحجي له خصوصيته، اهتمامًا، وأسلوبًا ومنهجًا، والتي منحته المكانة المهمة في هذا المجال.

* الأصالة: فجهده أصيل، وكل حرف كتبه وقدمه للمكتبة التاريخية هو خاص به وحده.

* التوثيق الصارم: فالدليل أولًا، ولا قول ولا ادعاء دون نص أو رواية موثقة.

* الأسلوب المؤثر: فقلمه أدبي رفيع ممزوج بعاطفة جياشة وشاعرية متمكنة، وتكاد تشعر بالأحرف والكلمات تنطق بدواخله.

* إسلامية المنهج: فمنظوره التاريخي يحكمه التوجه الإسلامي، والذي يؤمن بأن المستقبل لهذا الدين.

ولعل حجر الزاوية في كل ذلك، حالة الترابط التي قدمها الحجي رحمه الله بين الإسلام والتاريخ، أو ما يعبر عنه دومًا بـ: (المنهج والتطبيق)، فالتاريخ الإسلامي في منظوره ليس تاريخ فكر وأحداث وظواهر اجتماعية وأوضاع سياسية ودول سادت، بل أيضًا -وقبل ذلك- هو تاريخ عقيدة شاملة، لها سماتها وخصائصها ومقوماتها المميزة. (الحجي، نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، ص13).

وانطلاقًا من هذا التصور، تغدو معرفة التاريخ الإسلامي ضرورة للأمة الإسلامية وحتى لغيرها من الأمم، فتقديم التاريخ يجب أن يكون بأمر محقق وبروح متناسبة مع طبيعة الإسلام لأنه أحد أهم الروافد في تغذية الوعي الإسلامي الحاضر. (حوار مع مجلة المجتمع الكويتية، العدد 1712، 29 / 7 / 2006، ص46).

ولذلك كله يجد الدكتور الحجي أنه لمن الصعوبة أن يكتب التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية غير مسلم، وإن اكتست بعض كتاباتهم بجمال الإنصاف وأزالت بعض الإجحاف وقدمت شهادات علمية مهمة، ذلك جانب إيجابي لا يهمل ولا يبعد، لكن من الناحية الأخرى، لا بد من القول، إنه حتى المسلم -الذي لا ولاء كبيرًا له، ولا يغار بوضوح على إسلامه أو يرتبط به قويًا- لا يجيد كتابته. (الحجي، كتابة التاريخ الإسلامي لمن؟، مجلة المجتمع، العدد 1972، 8 / 10 / 2011، ص44-45).

إن المنظور الإسلامي الواضح الذي تعامل به الحجي مع التاريخ، كان هو الأساس الذي انطلق منه لرسم صورته وتدوين مراحله، وذلك وفق رؤية واضحة تربط أوله بآخره، مهما ابتعدت المسافات، وتعددت الكيانات والأشكال السياسية التي عبر عنها.

ولم يكن هذا المنهج نظريًا فحسب، فمن يتابع كتابات الحجي يلمس بشكل واضح وجلي أنه عمل على تقديمه بشكل تطبيقي بارز، وكان كتابه المهم (التاريخ الأندلسي) خير شاهد على هذا الأمر، إذ نتلمس التأني في قبول الروايات التاريخية وعدم اعتمادها إلا بعد التوثق منها، كما نلمس الدقة في تعريفات المصطلحات الأندلسية وحدودها وألفاظها، مع التميز في الأسلوب الأخاذ، والدقة المتناهية في البحث، والمنهج الإسلامي الذي اعتمده في التعامل مع الروايات التاريخية.

ويلفت الحجي الانتباه إلى جزئية نجد من المهم ذكرها، وهي مدى الدقة في تدوين مؤلفاته والتي تصل حدًا من الصرامة ألا تحدث تغييرًا على ما كتب ولو مضت عليها السنوات لشدة ما تثبت في تدوين معلوماته، ويقول: (إن طريقتي ألا أغير فيما سبقت كتابته إلا الضروري جدًا أو إضافة مصادر جديدة أو ظهور أمور كانت مجهولة أو تقديم معلومات ذات أهمية في الموضوع نفسه تقتضي الإشارة إليها أو التنويه بها خدمة للموضوع وتوضيحًا له)، (الحجي، الكتب والمكتبات في الأندلس، ص14).

لقد جاء منهج الدكتور عبد الرحمن الحجي مبنيًا على قاعدة التوثيق التاريخي، واعتمادها أساسًا للبحث والدراسة، مثلما إن رؤيته الإسلامية لحوادثه ومجرياته ومنحنياته بقيت حاضرة على الدوام في تناوله لها.

(3)
الأندلس في عيون عاشقها

يدرك الجميع مدى تملّك حب الأندلس من شخصية وفكر الدكتور الحجي -رحمه الله-، فقد نمت بذرة العشق هذه حتى غدت شجرة باسقة تعيش معه في كل لحظاته وسكناته وكتاباته، وهمّ التدوين والوفاء للتاريخ الأندلسي كان بمثابة المهمة الأساسية التي نذر نفسه لها حتى آخر أيام حياته -رحمه الله-.

ولو قلبنا كتابه (التاريخ الأندلسي) على سبيل المثال، لوجدنا أنه يمثل أساسًا رصينًا لكل من يريد دراسة تاريخ الأندلس، بما احتواه من معلومات مكثفة، وتدقيق متقن، ونقاشات متميزة، أما بقية مؤلفاته فلم تقلّ عن ذلك شأنًا.

لقد تميز الدكتور عبد الرحمن الحجي بمنظوره الإسلامي الواضح للتاريخ الأندلسي، فبه تعامل معه، وعلى أساسه فسر أحداثه، ووفق مقتضياته قدم رؤيته لما مر عليه من تقلبات وتحولات انتهت بقصة الضياع المؤسفة.

ولما سألت أستاذنا الحجي عن هوية الأندلس التي يراها أجاب بأن التاريخ الأندلسي لا هوية له إلا إسلاميته، وهذا أساسي الاعتبار في كل دراسة تتناول جانبًا منه وهو ما يجب على الباحثين النظر إليه، وهذا ما يحتاج أن يشترك فيه مع بقية العالم الاسلامي، وهي واضحة في الأندلس أشد الوضوح لمن يمعن في دراسته عن قرب وأناة وعمق، ولولا هذه الهوية ما كان هنالك أندلس، وهذه الصفة هي التي قادته إلى كل ما أنتج وما سجل وإلى بقائه كل تلك المدة أمام ما واجهه داخليًا وخارجيًا، وهو الأشد الأوضح.

ولذلك فإن التعامل مع أحداث الأندلس كان يتم وفق هذه الرؤية، ولو تابعنا نماذج منها لوجدنا مصداقًا لقولنا، من ذلك قضية الفتح الإسلامي ودوافعه ونتائجه، انتشار الإسلام في الأندلس، استقرار الفاتحين، تقديم إشارات مركزة عن عوامل الامتداد والاتساع وأسباب الضعف والتراجع والانحسار، إظهار تكامل التاريخ الإسلامي الأندلسي من خلال التعامل مع قضايا المرابطين والموحدين ودور بلاد المغرب في إنعاش الوجود الإسلامي في الأندلس.

والأمر لا يختلف في الجانب الحضاري، إذ دوّن الدكتور الحجي المنجز الحضاري الإسلامي بشكل مترابط مع الالتزام الديني، ورأى أن كل مظاهر الحضارة من عمران وعلم وتأليف ودبلوماسية وغيرها هي تجليات لأثر الدين العظيم في نفوس الفاتحين.

وهو بذلك ينتصر لإسلامية المجتمع، وإخلاصه لمبدئه وهويته، مواجهًا كل الشبهات التي يرددها البعض ويحاول من خلالها الطعن بالمجتمع الأندلسي، بل كان يؤكد على أن هذه الهوية الأصيلة هي الغالبة، وهي معيار التدارك والقدرة على تجاوز لحظات الضعف ومواجهة التحديات.

ومحاولة الإحاطة بالجانب الأندلسي من مسيرة الدكتور الحجي مهمة شاقة وليست يسيرة، وهي غنية بالكثير الكثير من الوقفات، أجد أهمها ما طرحه عقب سقوط غرناطة، فيبدو أن هول ما لاقاه المسلمون في الأندلس بعد هذا الحدث الكبير، كان دافعًا ليذكر الدكتور الحجي فكرته حول التعايش في شبه الجزيرة الإيبرية، فوجدناه يتساءل: (ما الذي كان سيحدث لو تعايشت إسبانيا النصرانية الظافرة مع مملكة غرناطة، على الأقل كما بقيت إسبانيا النصرانية مدى القرون الأولى من الفتح، أو حتى لو ترك المسلمون يعايشون النصارى في الوضع الجديد ولو على شكل أقلية، كما كان هؤلاء قبلًا في المجتمع الأندلسي المسلم) (التاريخ الأندلسي، ص522).

ويؤكد في موضع آخر ذلك الأمل بالقول: (كم كنا نأمل أن تتعايش الديانتان -الإسلامية والمسيحية- جنبًا إلى جنب في شبه الجزيرة الإيبيرية، خاصة وقد ظهرت بعض البوادر التي لو استمرت في النمو ، بتعاون الطرفين ، لكنا نشاهد المسجد يقف إلى جانب الكنيسة حتى الآن في إسبانيا والبرتغال، ولحُقنت بذلك الكثير من الدماء التي أسيلت، ومما لا شك فيه أن اتحاد الإمكانيات والتعاون الفكري وتزاوج القابليات خير وأنفع للإنسان وحضارته من نيران العداوات والحروب، كل ذلك على الرغم من التسامح الرائع الذي عامل به المسلمون غيرَهم) (أندلسيات، ص57).

(4)
اقتباسات وإجابات
(من الأرشيف الخاص
)

من أروع ما قاله الدكتور الحجي -رحمه الله-:

 التوثيق المؤتمن الصادق ألف باء في الكتابة العلمية، ولا بد بعد ذلك من الأمانة في الحفاظ على هذا التوثيق ووضع الهمة في متابعة الحقائق على ضوئه حسب ما يرسمه الدليل الذي يحتاج إلى فهم عميق و رؤية شاملة واعتبار لنوعية المجتمع وحياته وارتباطه الذي جعله بهذه المكانة والحالة والصفة.

 التعليل لدَيَّ -بعد ارتكازه على الوقائع والحقائق الواضحة- لا يجب أن يخرج متباعدًا عن حقيقة الأرضية التي يُبْنَى عليها ذلك التعليل ويكون منسجمًا مع كل الحقائق والوقائع والتوجهات المعاشة في ذلك المجتمع بحيث أن نفي ذلك التعليل أو مخالفته ومباعدته يكون صعبًا و ظاهر البعد عن الواقع. ويكون التعليل بعد الفهم العميق الشامل المتأني، وإلا فسيأتي غير ناضج وربما مباعدًا أو مناقضًا، مما يمكن وضعه بعيدًا عن أية منهجية علمية أو حالة بحثية أو وضع أكاديمي، لعل هذا هو الذي أجّل تعليل بعض الوقائع الأندلسية أثناء عرضها لعدم وجود المعلومات الكافية لإصدار حكم وفهم أسبابه ومعرفة تأثيره، كما جرى في الحديث عن الحاجب المنصور، إذ لدينا كتاب لابن حَيَّان خاص بالدولة العامرية وكتاب آخر مثيل له لغيره و قلة المعلومات أو تشابكها ووقوعها في مجال الحديث عن قضية محددة، وكذلك كما جرى في الحديث عن الأحداث التي تلت الدولة العامرية وأدت إلى حالة الطوائف.

 كتابة التاريخ الإسلامي ومنها الأندلسي مليء بالشبهات الذي أظهر الانتكاسات مكبرة أو مخترعة أحيانًا، وبالمقابل الكثير من الإنجازات و المفاخر مدفونة ومحجوبة فهي بحاجة إلى اكتشاف.

 منهجي في كتابة التاريخ ما يوصلني إليه الدليل ولا أحمي مجروحًا أو أخفي مسيئًا بل أظهره قبل أي أحد، ولأن المفاخر في تاريخنا هي الغالبة وإن اختفت أو أُخفيت أو جُهلت.

 لا يعني أبدًا بأي حال ودرجة أن نستر المواقف المتدنية وهي موجودة لكنها ضيقة في أوقاتها وأتباعها ومساحتها، ولكنها تبين بشجاعة ودقة وقوة مثلما فعل العديد من علمائنا كما تولى ذلك ابن حزم وابن حيان وابن الخطيب مثلًا، وقد نقلتُ من أقوال ابن حزم وابن حيان في كتاب “التاريخ الأندلسي” حين الحديث عن فترة الطوائف، ومثل ذلك فعلت بالنسبة لابن الخطيب أيام غرناطة، الوزير الشهم الفارس المجاهد.

 البناء الإسلامي للإنسان يرفعه عاليًا بأي مقدار، والسمت العام ألا ينخفض عن الحد الأدنى، وهنالك عوامل تزيده رفعة أو تدنيه لكن أمام بنائه يصبح انحداره مما يطفو على السطح مهما كان سمكه، وفطرته مستعدة للعودة إلى المعهود منه، وهذا ما نلحظه في عصر الطوائف مثلًا إذ حين قام العلماء ومن عاونهم وأمكنهم تنظيف ما علا تلك الفطرة مع بذل الجهد بأهل القدوة استجاب له حتى من كان مثقلًا من الأمراء فغدا أولئك من خيار الفرسان الذين قادوا النهوض ورفضوا المذلة والاستخذاء والتخلف، وبهذا يكون الانحدار أحد الظواهر التي تقود إليها أسباب ممكن معالجتها بأهل الفهم والسداد، القدوة و ليس بغيرها ما دامت لهم الشريعة مرجعية وحيدة.

 الصراعات بين السلطة والعلماء مفتعلة مضخمة ملفقة في كثير من جوانبها بحاجة إلى عمق متبصر، أما موضوع حرق الكتب فهو مرفوض ومنتقد وغير سديد تم على ضيق وقلة وحدود لكنه في كل الأحوال مستنكر في أغلبه إلا ما كان من بعض الشذوذ في الفهم الإسلامي وإن كنت أرى وجوب معالجة هذا بغير الحرق ونقاء الفهم الإسلامي في الأندلس هو العامّ الشامل.

 مَن يدرس المجتمع الإسلامي وتاريخه عليه أن ينظر في أبعاد المجتمع وطبيعته ليفهمه فهمًا سليمًا يصدر عنه باعتبار أن تصرفات هذا المجتمع مرتبطة بشريعته ولا يبتعد الدارس عن ذلك في عمله إن كان يريد الدقة والحقيقة والواقع، وبغير ذلك يكون كمن يبعد الوليد عن حضن أمه والنبتة عن جوها المناسب والغراسة في غير موضعها.

 التوجه إلى الله بكل فعل وعمل وجهد، وهذا وغيره هو السبب فيما أنجزه المسلمون من تفوق نادر لا يدرَك إلا بهذا المنهج، ولكن ما من شك أن ذلك متأثر بالظروف المحيطة، ولكن مهما بلغت سوء تلك الأحوال فإنه لا يقضي على مسيرة الإبداع بأي مقدار، ومن هنا وجدنا أن الإبداع لم يتوقف في أحلك الظروف، وهذه سمة يمتاز بها المجتمع المسلم، وبه يُفهم أن المؤثرات التي تنال من نوعية هذا المجتمع تكون في السطح، وقد أشرت إلى ذلك بمقدارٍ في كتاب “التاريخ الأندلسي” بعنوان: الحركة العلمية، بعد الحديث عن معركة الزلاقة أيام الطوائف.

 التاريخ الأندلسي ما زال ميدانًا بكرًا للعمل البحثي، أظن ذلك بدرجة عالية جدًا، وكلما زاد الفهم لهذا التاريخ ومجتمعه وحضارته وازداد عمقًا مع الصحبة المتواكبة أدرك هذا الأمر بشكل أكثر سواء شمل هذا ما كتب فيه كتابة دون المستوى المرجو أو ما أهمل منه إهمالًا يكاد يكون كاملًا أو ما أسيئ فهمه، فالفتح الإسلامي للأندلس الذي قد يُظن أنه قد بلغ الكفاية في بحثه أراه بأشد الحاجة للكتابة فيه وما أُهمل منه عن قصد أو غيره من مثل انتشار الإسلام في الأندلس و دور العلماء في مجتمعه والقضاء وجوانب أخرى كثيرة نالها الإهمال، إلى جانب ما ذكر من شبهات قاتلة لبعض موضوعاته من مثل بلاط الشهداء واستخذاء الطوائف وسقوط الدول المتتابعة.

 وهكذا بالإمكان سَوق عشرات الموضوعات في هذا الأمر إن لم يكن المئات، ويشمل هذا: الحياة العلمية والاجتماعية والإنسانية كافة مما يدعو إلى إعادة النظر، وقراءةٍ جديدة للنصوص، ومتابعة للمخطوطات، وكثير من شهادات غير المسلمين تؤكد هذه الأمور، وهذا يشمل الحياة الأندلسية بأركانها الثلاثة: الأندلس، محاكم التفتيش، وما تبقّى حتى اليوم من ذلك الميراث. لذلك فلا بد من تشجيع الدارسين على هذا، وجلب انتباههم، وتشجيعهم على ذلك، وهذا ما يجب فعله كما قد تتلمس ذلك وتراه وتحس به.

 يقول ابن الخطيب (٧٧٦هـ) : إن معرفة أخبار الفتح كان يعرفها الأطفال ولكن لم يبق لنا إلا القليل، وهو ما أمكن لابن حيان الاعتماد عليها، الكتب المذكورة هامشية والقصص كانت محل نقد من المؤرخين الثقات، كالمقري الذي تبرأ من العديد من القصص المشبوهة كفتح القسطنطينية عن طريق الأندلس، الكتاب الذي ينسب لابن القوطية تجميعي، والثاني هو أيضا تجميعي من تلامذة المؤلف، هناك من كتب الأوائل ما يصنف بالهامشي، لا ضير بالاستفادة منها في حدود ضيقة، لا يستسقى منها بناء تحليلي متكامل. ليست كل الشبهات محدثة. ‏بعض الشبهات الحديثة التي تكاد تغطي نتاج المستشرقين قد يكون لها أصل يبنون عليه، لكن تجد هذا الأصل منزويًا وحيدًا مختَلفًا عليه في كتبنا الأولية.

 كم تمنيت وسعيت وعملت لتنفيذ مشروع من ثلاثة أركان: تلفزيوني وعلمي وبحثي، التلفزيوني لنقل كثير من المعلومات المتعلقة بالأندلس بإخراج محقق مدقق يبدو مرجعًا لأي أحد بعد ترجمته للغات أخرى، العلمي للقيام بالإشراف على الرسائل الجامعية في كل ما يتعلق بالأندلس وعموم التاريخ الإسلامي، والبحثي لإنشاء مركز متخصص لتقديم بحوث وإصدار مجلة يحيا بالحيوية والفاعلية والحركية. هذا ما تبنيته منذ عقود، ومن أجل هذا كله وغيره مستعد لكل طالب علم وساع بجد للبحث وراغب في خدمة هذا التاريخ وأتمنى لو ألتقي بأي أحد من هؤلاء، وإني أتمنى على كل من يتولى هذا الأمر أن يسمو بعمله فوق أي منفعة دنيوية التي تأتي هي ضمنًا بطبيعتها وأن يكون في عمله مدفوعًا في خدمة هذا التاريخ والعمل على إظهار وجهه السليم دون إغفال أي منحدرات فيه مثلما يجري مواجهة شبهاته لإظهار لآلئه الذي يستحق هذه الخدمة يبتغي في ذلك رعايته وأحقيته، والأجر فيه من الله تعالى.

 سقوط الأندلس من الموضوعات الأندلسية المعقدة، من أكثر الناس فهمًا لها مَن عَرَفَه كاملًا عن قُرب وسَبَرَ غَوْرَه، كلّما تفوَّق في ذلك كان أمكن في فهمه ومعرفته وتقديمه، تَبَيَّنَتْ تلك الأمور في كتابات عدّة لا سيّما في كتاب: “هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة ظروفها وآثارها” (نشر المجمع الثقافي – أبو ظبي – الإمارات). كُلُّ ما جَرَى للأندلس من تردٍ وضعف وانحدار لم أجده قد مسّ أبعاد بنائه وذاته وحقيقته، بل كان ظاهرًا، لذلك ما إن يقوم الدعاة  -علماء وأمراء وحُداة- للدعوة إلى تجديد معاني الإسلام في النفوس نجد الاستجابة -وإن استغرق وقتًا- كما جرى في عصر الطوائف مثلًا.

 إن الحروب التي خاضتها الأندلس في رد العدوانات الصليبية من إسبانيا الشمالية (أمام جبال ألبرت) وما وردها مما وراءها من أوربا الغربية برعاية البابوية، التي دامت نحو خمسة قرون متواصلة، أكلت كل طاقتها -لكن رغم ذلك ما تأخرت عن البناء والتجديد والعطاء- مما أنهك المقدرة وأعجزها وأوقفها دون الاستمرار، فآل بها إلى السقوط، هذه الحروب التي لم يتأخر عنها أحد بل يتسابقون إليها، قضت على أهلها -علماء وقادة ومسؤولين- كما قضت على دول الإخوة في الشمال الأفريقي: المرابطين والموحدين وحتى بني مرين، دون إهمال العوامل الأخرى الداخلية -الهفوات والانحدارات والتقصير- بذلك أنفقت كل مكنة من الجهد والمال والتفوق الإنساني الذي امتلكته، وكان فقدان الإنسان القائد الإيماني والفكري والمهاري، الذي أذهب المُكْنات، أمام تجمع القوى الباغية المتحدة عليها برغبة ألا يبقى إسلام في الجزيرة الأندلسية، في حقد دفين، فَقَدَ كُلَّ معنى كريم بأحابيل موهمة ملفقة مكذوبة، أنتج مما أنتج محاكم التفتيش الغاشمة وما قادت إليه من ارتكابات متوحشة مُجَانبةً كُلَّ القِيَم الإنسانية فضلًا عن الخلقية والدينية، مستمرةً في  الملاحقة لكل ما هو إسلامي، بروح الحقد الصليبية، حَمَلَها إلى حرق الثروة العلمية والهدم العمراني الفريد والمآثر المتنوعة وحامِلها وعامِلها ومنتِجها، حتى خارج شبه الجزيرة الإيبيرية في الشمال الأفريقي بل حتى الفلبين لا بل حتى أمريكا الوسطى واللاتينية، وإن كانت هذه بحاجة إلى ما ضاع من وثائقها، أكثر من غيرها. الخلاصة: يكون هذا السقوط بسببين واضحين رئيسيين: الداخلي والخارجي، لكن الخارجي كان أبعدَ أثرًا وتدهورًا وتكسرًا، دون رفع أي لوم عن أحد ولا تبرير لأي تخلف أو تقصير، لكن الأمر المتعلق بتكوين صورة أجود وأدق وأوثق تبقى بالانتظار والأمل والشوق إلى ظهور وثائق مُرْفِدة معتمَدة جديدة، تأتينا ببعض ما له عَلاقة بهذا الأمر وغيره مما يلقي ضوءًا جديدًا.

وختامًا:

إن الدكتور الحجي -رحمه الله- مثَّل مشروعًا متكاملًا لتدوين التاريخ الأندلسي وإنصافه، والوفاء بالعهد له هو الآخر يمثل مشروعًا كبيرًا وضخمًا، أوله الكتابة عنه أكاديميًا -مما تم الشروع به بحمد الله وفضله- وانتهاءً بتحقيق حلمه الكبير بإنشاء مركز دراسات التاريخ الإسلامي الذي ظل يدعو إليه ويعمل من أجله، وبين هذا وذاك الكثير الكثير…

رحم الله أستاذنا ووالدنا عبد الرحمن الحجي، وأسكنه فسيح جناته، والحمد -أولًا وآخرًا- لله رب العالمين.

 

_______________

  • أستاذ التاريخ الأندلسي/ الجامعة العراقية ـ كلية الآداب.

 

_______________

اقرأ أيضًا:

عبد الرحمن الحجي: الأستاذ والإنسان

عاشق السيرة النبوية وتاريخ الأندلس: د. عبد الرحمن علي الحجي كما عرفته

مع الدكتور الحجي: ذكريات ومواقف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى