العدد الرابعمقالات

القول الشاذ في الفقه الإسلامي

الأسباب والآثار

القول الشاذ في الفقه الإسلامي
الأسباب والآثار

 

القول الشاذ في الفقه الإسلامي
القول الشاذ في الفقه الإسلامي

 

إنّ النظَر الجامعَ هو النظَرُ إلى الدليل والدلالة، وإلى المعارض لهما. أو كما يقرر بعض العلماء: هو النظر إلى المسائل والدلائل والمخالف؛ فيتوصل الناظر بهذا النظر الجامع إلى حقيقتين مهمتين:

الحقيقة الأولى: أنّ الترجيح لا يكون إلا بعلم ودليل.

والحقيقة الثانية: العلم بمرتبة الخلاف قوةً أو ضعفًا.

فلا يَتّبِع المرجوح والضعيف، ولا يخالِف ما عليه الأولون. فيتَّبع الصحيح والراجح من الأقوال، ويَحذَر من مخالفة الأئمة الأعلام.

لهذا يندُر -عند تطبيق هذه الحقائق والأصول- وقوعُ الباحث في الزلات، ويبعُد أخذه في القول الشاذ؛ لسلامة منهجه، وصحة أصوله، وثبات طريقته، واستقامة دينه، وقوة احتياطه. ولو قال قولًا شاذًا عن غفلة أو كبوة، لبادروه الكبار بالاعتذار، وعاملوه الفقهاء بالنصح والبيان؛ فلكلّ فارسٍ كبوة ما لم تكن له عادة.

والقول الشاذ في الفقهيّات، هو القول الذي ليس مع قائله دليل من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد خالَف صاحبُه أقوالَ سائر الأئمة والفقهاء؛ أو هو كلّ ما صحت السنة بخلافه، وانعقد الإجماع على عدم قبوله.

لهذا فإن حقيقةَ القول الشاذ تدور على (المخالفة): خلاف ما دلّ عليه الدليل الشرعي، وخلاف ما عليه الأولون من الأئمة والمجتهدين؛ إذ الشاذ في معناه العام هو ما كان خلاف الحق سواء كان بقصد أو بدون قصد.

وغالبًا ما يُطلق الشاذ في الفقه على القول الذي خالَف صاحبُه أقوالَ سائر العلماء والفقهاء.

وهذه المخالَفة للإجماع أو لقول سائر الفقهاء هي أثرٌ من آثار مخالَفة ما دلّ عليه الدليل الشرعي؛ لهذا صارت مخالفة الإجماع مظنة وجود القول الشاذ.

ومثاله: القول بعدم جواز الحج عن الغير مطلقًا؛ فهذا قول شاذ خالف صاحبُه الدليل الشرعي الصحيح من جهة، وهو أيضًا خلاف قول سائر الفقهاء.

ومثالُه في مسائل الاعتقاد: أنّ الإيمان هو مجرّد قول اللسان، وهذا قول باطل شاذ؛ لمخالفته أدلة الشريعة من جهة، ومخالفته إجماع أهل السنة والجماعة في أنّ الإيمان هو قول وعمَل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.

والقول الشاذ هو من باب الخلاف الضعيف غير المعتبَر، الذي يكون مدركه ضعيفًا واحتمالاته في الدلالة بعيدة؛ فهو (بعيد المأخذ، ضعيف المدرك، لا يشهد له دليل ولا يوجد له نصير).

وأسبابه كثيرة: تارة عن غفلة وسهو، وتارة عن توهم ببلوغ مرتبة الاجتهاد، وتارة عن تساهل وتقصير في النظر والاستدلال، وقد يكون عن تأويلٍ، أو عدَم الإحاطة بالخلاف، أو عن اجتهادٍ غاية ما يقال في صاحبه: هذا مبلغه من العلم.

لهذا قد يقع القول الشاذ من متفقهٍ تعجّل في الكلام في الأحكام، كما قد يقع من عالِم فاضل فيكون قوله الشاذ معدودًا في الزلات.

وتترتب جملة من الآثار والأحكام على وصف القول أو الرأي بالشذوذ:

أولًا: الإنكار على القول بالحجة والبيان.

ثانيًا: لا يلتفت إليه ولا يعتدّ به.

ثالثًا: لا يذكر إلا حكايةً، لا اعتمادًا أو اعتبارًا.

رابعًا: ويعامل معاملة الأقوال المهجورة المتروكة؛ فيطوى ولا ينشر.

خامسًا: لا يكون مذهبًا متبوعًا؛ إذ لا اعتبار بالقول الشاذ.

سادسًا: لا يكون ناقضًا للإجماع؛ فما كان على خلاف الأصل فلا عبرة به.

وهاهنا تنبيهات ثلاثة:

التنبيه الأول: أنّ اتباع القول الشاذ بعد ظهور الحجّة داخل في باب اتباع الهوى.

والتنبيه الثاني: صدور القول الشاذ من بعض العلماء لا يكون قادحًا في مكانتهم، ولا يمنع من التحذير من مقالَتهم؛ فتُرفع الزلة من غير مساس بالمكانة.

والتنبيه الثالث: تَتَبُّع الأقوال الشاذة في الفقه وجعلها مذهبًا متبوعًا أو دعوةً مشهورةً نَقصٌ في الدِّين وقدحٌ في العدالة.

فتحي بن عبد الله الموصلي

اقرأ أيضًا:

ألوان على رقعة الشطرنج

المؤرخ المحقق والأديب المدقق

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى