مقالات

عمر سيف.. سيف اليمن الذي لم يغمد في نصرة فلسطين

عمر سيف:
سيف اليمَن الذي لم يُغمَد في نصرة فلسطين

 

فضيلة العلامة عمر أحمد سيف (1927- 2005م)، أحد أعلامِ اليمَن، كانَ الرَّجلُ نسيج وحده، وكانَ تاريخًا يكتبه التَّاريخ، ومعنىً يأخذ أوّله بآخره؛ فلا ترى فيه إلا صورةً من نفسٍ أبيةٍ أكرمت العِلم فأكرمها العِلم، لا أذكرُ أنَّ الزَّمن يجودُ بمثله، فقد قَدِمَ ليكونَ مضْرِبًا للمثل، نموذجًا يعسُر تَكْراره، صنَعَهُ الله على عينه، وهيَّأه ليكونَ جَبَلًا من جبالِ العلمِ والدَّعوة والجهاد. عرفَتْه ساحاتُ الوغى، والميادين العامَّة، ومجالسُ السِّياسة، وأقبية السُّجون، وعرفَتْه خطيبًا لا يُشَقُّ له قناة، صدَّاعًا بالحقِّ، محبًّا لأمَّته، مشْتبِكًا مع قضاياها الكبرى.

لقد مَنَّ الله علينا وحضرنا له عشراتِ الدروس والخطب، كانَ الواحدُ منَّا يخرجُ منها معتـزًّا بدينه، شامخًا بعروبته. كانَ محاربًا للطُّغيانِ بشتى صوره ومعانيه، لا يرى في الغربِ إلا بقعةً دَنِسَة علت بالماديَّة، والقهر، والقوة، لا سبيلَ معها إلا بالمدافعةِ، وتلكَ سنَّة الله التي لا محيدَ عنها.

المهموم العابر للحدود:

لم يكن يحده فضاء، بل تعانقُ روحه قضايا أمته الكبرى، دونَ أن ينسى موطنه الذي نشأ فيه. كان يعلِّم، ويحتسب، ويبذلُ جاهه، ويقفُ في وجهِ السَّاسة بالحق، لا يخافُ في اللهِ لومةَ لائم. ومن مواقفه أنه أبدى رأيه بقوةٍ وحزمٍ في قضيةِ إقرار دستور دولة الوحدة عام 1990م، وموقفه من حربِ الانفصال عام 1994م، إضافةً إلى مواقفهِ المشرِّفة المتعلقة بحياةِ النَّاسِ ومعاشهم.

لم تُنْسِه هموم وطنه قضايا أمّته المصيرية، فقد شارَكَ إخوانه الجهاد في الأفغان، وعندما هاجَمَ الصِّرب البوسنة والهرسك، صالَ وجالَ في كلِّ ربوعِ اليمن، وأطلقَ مع إخوانه من العلماء حملاتٍ لدعمِ البوسنة والوقوف معهم ونصرتهم، ثمَّ ترأسَ الوفد اليمني لإيصال مساعدات أبناء اليمن إلى المسلمين في بلادِ البوسنة والهرسك مطلع تسعينات القرنِ المنصرم، وعندما غزت أمريكا العراق كانَ للشَّيخ موقفًا مشهودًا ضجَّت المنابر من هدير صوته، كانَ نِعْمَ المعين والنَّاصر للعراقِ، سليل المجدِ والمكارم.

قضية فلسطين في وجدان سيفِ اليمن:

لا أعرفُ قضيةً استولت على وجدان شيخنا العلامة عمر أحمد سيف مثل قضية فلسطين، نصرها بكلِّ ما أوتي من طاقةٍ وجهد، ما تركَ موطنًا إلا ونصرها فيه، كانت خطبه المنبرية عن غزَّة وفلسطين مما يُفاخِر به الزَّمان، كانَ أبيًّا شجاعًا لا يخشى شيئًا، صوته كأنَّه منذر حرب، يخاطِبُ العالمَ من فوقِ من منبره بكلِّ شموخٍ وعنفوان: “أنا عمر بن أحمد بن سيف من أهلِ اليمن، إن كانَ حرب الصَّهاينة إرهابًا فإني أكبر إرهابيٍّ في العالَم، أطلقوا عليَّ صواريخكم، فإنِّي في شوقٍ للقاءِ الله”.

ولم يكتفِ سيف بالكلام تعليمًا وتعريفًا بتاريخِ القضيَّة ومكانتها المركزيَّة في وجدانِ المسلم، بل تعدّى إلى الفعل، فلم يترك محفلًا أو تجمُّعًا أو مناسبة إلا وجمَعَ فيه إعانة لإخوانه في فلسطين، لم يكن يسميها تبرعًا، بل جهادًا ماليًّا لنصرةِ الرِّجال في أرضِ الرِّباط. لذلك، فقد كانَ قدوة يُحتذى به، إذ تبرَّعَ بمنـزله لأهلِ فلسطين، ولمّا لم يبقَ له منـزل آخر، مُنِحَ بيتًا من قِبَل محبّيه، فتبرَّعَ بهِ، وكذا فعلَ مِرارًا، حتى طُلِبَ منه أن يتركَ شيئًا لِبَنيه، فقالَ قولته المشهورة: “إنَّ بيني وبينَ الله عهدًا أنْ أموتَ وألقاهُ وليسَ لي في الدُّنيا منزلٌ ولا مال”.

لا أبالغُ إنْ قلتُ إنَّ الشَّيخ عمر أحمد سيف رَسَّخَ قضية فلسطين، وعزَّزَ حضورها في قلوب النَّاس، فعاشت في ضمائرهم. كانت تمثِّلُ له إحدى القضايا المركزيَّة التي لا ينبغي نسيانها ولا التَّهاون فيها.

ومما قاله في إحدى رسائله التي أرسلها لأهلِ الرِّباط في فلسطين: “أوصي إخواني المجاهدين، إنكم على ثغرٍ من ثغورِ الإسلامِ العظيمة، تُحيونَ فريضةَ الإسلام الجليلة التي أضاعها كل النَّاس أو جُلّهم؛ لما أصابهم من الوَهَنِ الذي هو حبُّ الدُّنيا وكراهية الموت، إنهم لم يتركوا الجهادَ لقلةِ عددهم أو لقلةِ عدتهم، إنَّ لهم من العددِ الكثير ومن العُدَّة ما لا يُعدُّ ولا يحصى، ولكنَّ العلَّة كما قالَ النَّبي ﷺ: (أنتم يومئذٍ كثير، ولكنَّكم غثاء كغثاء السَّيل أصابكم الوهَن)، إنَّ ما قمتم به من هذه الفريضة هو من أفضلِ الأعمالِ على الإطلاق، فالجهادُ أفضلُ الأعمال على الإطلاق بنصِّ حديث النَّبي ﷺ، والمجاهد في سبيلِ الله هو أفضل الأمَّة على الإطلاق، لقول النَّبي ﷺ: (خَير النّاس رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرسِهِ في سبيلِ اللهِ، يَطيرُ على مَتنِهِ كُلَّما سَمِعَ هَيْعَةً أو فَزعَةً، طَارَ عَليه يَبْتَغِي القَتْلَ، أو المَوتَ مَظانَّه). واعلموا أنَّ الجهاد ماضٍ حتى تقوم السَّاعة، سيروا قُدُمًا باسم الله، وأبشروا، إمَّا النَّصر وإمَّا الجنَّة، واعلموا أنَّ الموتَ لا يقدمه شجاعة الشُّجعان ولا يؤخره جبنُ الجبناء”.
ولهُ كلامٌ عن الشَّهادة والجهاد وأرض الرباط يقطرُ إيمانًا ويقينًا وقوة.

وملاكُ الأمر: لم تكن فلسطين في وجدان الشَّيخ عمر بن أحمد سيف مجرد أرضٍ محتلة، بل هي جزء لا يتجزَّأ من عقيدةِ الأمَّة، تتصلُ بروحها الإسلاميَّة عبرَ المسجدِ الأقصى، أولى القبلتين. وطريق تحريرها لا يمرُّ إلا عبر وحدةِ الصُّفوف وتلاحم الأمَّة.

كما أكد دومًا أنَّ التَّطبيع مع الكيان المحتل خيانة صريحة لقضيةِ فلسطين، وتفريط في حقِّ الأمَّة المقدَّس. ولذا، ظلَّ يدعو بلا هوادة إلى الجهادِ باعتباره الفريضة الشَّرعية التي لا بديلَ عنها، وعمود النِّضال لتحريرِ الأرض المغتَصَبة. كما لم يغفل عن بناءِ وعيِ الأمَّة، فكان يبثُّ روح المقاومة في الأجيال، ويغرسُ فيهم مكانةَ القدس وقضيته العادلة. ويردِّدُ دومًا أنَّ فلسطين عنوان لوحدةِ الأمَّة وسرّ قوتها، قضية سامية لا تقبلُ التَّنازل ولا المساومة، بل يجبُ أن تبقى محورًا لمقاومة كل أشكال التَّفريطِ والخضوع.

وترجل السَّيف عمر:

جاوزَ الثَّمانين من عمره وقد قضى حياته دفاعًا عن الحق، ونصرة قضايا أمته، لا سيما قضية فلسطين، ثمَّ طافَ به طائفُ الموت، وترجَّلَ الفارس، ورحَلَ العالِمُ العامِلُ المجاهد، وصُليَّ عليه في جامِعِه بمدينةِ الحُدَيدة، وقدِمَ النَّاسُ لتشييعه من كلِّ مكان، وكانَ يومًا مشهودًا من أيَّامِ المدينةِ الخالدة.

وقد بكاه الصَّغير والكبير، وما زلتُ أذكر خطبةَ الجمعة المشهودة التي خطَبَها العلامة محمَّد علي عجلان عنه، فقد ألقى خطبةً عصماء ذرفت منها العين، وأطرقَ لها القلب، وفاضَ بها الحنين والذِّكرى. ولما عَدَّدَ خصاله ومناقبه الجليلة، قال: “إنَّ الأمَّة الإسلامية وفلسطين بالذَّات أُصيبت بنكبةٍ في موتِ هذا العالِم المجاهد”، وما خصَّ فلسطين في هذا المقام إلا لمكانتها في وجدانِ الشَّيخ ومقامها الرَّفيع في كلِّ مراحلِ حياته.

وقـد نـعـاهُ العـلامـة يـوسـف القرضاوي –رحِمَهُ الله- وأشادَ به، فكانَ مما قاله: “كانَ رجلًا حُرًّا مخلصًا شجاعًا في الحقّ، لا يخشى في اللهِ لومة لائم ولا نقمة ناقم، كانَ يقِظًا كأنّما هو سيفٌ سلَّهُ الله على الباطل، سلَّهُ الله للدِّفاع عن حوزةِ هذا الدِّين وعن حُرماته، يقولُ الحقَّ وينطقُ بالصِّدق، لا يتلكّأ ولا يتعثَّرُ ولا يتردَّد”.

ولو قُدِّرَ للعلامة أحمد عمر سيف أن يشهد الطُّوفان في السَّابع من أكتوبر لكانَ من أسعدِ النَّاس به، وأكثرهم تأييدًا له، فقد كانَ مَشوقًا إلى نصرةِ أمته، ودحر عدوها، والإعلاء من شأن الدِّين والحق. رحمة الله عليه وطيَّبَ اللهُ ثَرَاه.

 

د. خالد بريه

___________________________________________________________________________________________

 

اقرأ أيضًا:

الفلسفة وخلق الفردية

عرض كتاب فن الدراسة لعبدالرحمن رأفت الباشا

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى