قراءة في كتاب “جوانب من الحضارة الإسلامية” لعبد الرحمن الحجي
قراءة في كتاب “جوانب من الحضارة الإسلامية”
للدكتور عبد الرحمن الحجي رحمه الله
سلطان صلاح ماجد
لكل إنسان مشروع في حياته يُفني فيه سنين عمره، ويشتعل رأسه شيبًا في سبيله، ويودّع صحة بصره وبقية بدنه في سبيل إنجازه بالكمال، وهو يظن أنه سيصل إليه. ومن زمرة هؤلاء العاملين على مشاريعهم: المؤرخ العراقي د. عبد الرحمن الحجي – رحمه الله – فقد وهب عمره في سبيل إحياء ذكر التاريخ الإسلامي على وجه العموم، والأندلسي على وجه الخصوص، في مختلف الأمكنة، بين ربوع الدارسين أو الهواة المثقفين. فقدَّم الكثير من المؤلفات والمحاضرات في شتى الفنون المتصلة بمشروعه، وكان من ضمن ولعه التاريخي: “التاريخ الحضاري للمسلمين”، فقدم العديد من الكتابات المتصلة بتاريخنا، منها كتاب “جوانب من الحضارة الإسلامية”.
الكتاب ومنهجه:
يتكلم هذا الكتاب عن جزء من حضارة عظيمة، منبثقة من العقيدة الإسلامية القائمة على الحجج والبراهين العقلية الصحيحة التي لا يختلف في صحتها عاقلٌ حصيف.
والكتاب لم يأتِ على شكل سردٍ مملٍّ بارد، فارغٍ من روح الكاتب التي تميل مع كل حرفٍ يكتبه سعادةً بما يكتب ويؤمن به، بل أتى بأسلوبٍ بسيط ينفع كل قارئ له.
وقد قسّم الحجي كتابه إلى جوانب ثلاث، معتمدًا في ذلك على المصادر الأصلية التي بحث في بطونها حول الموضوع.
وبيّن الحجي في طيّات كتابه ملحظًا مهمًا حول نهجه، إذ يقول (ص42):
“ولا تتعرض هذه السطور لدراسة فروع المعرفة وألوان الثقافة والإنتاج العلمي، وإنما تعتني ببعض جوانبه وظواهره ومعالمه التي تقدم لنا صورة، مهما كانت سريعة وعابرة ومختصرة، فهي تفصح عن نوعية تلك الثقافة وتعدد ميادينها، وسبر غورها، واستجلاء آفاقها في شمول واسع، وتبيّن مستواها وأصالتها، مستندة في ذلك إلى أسس وقواعد نشأت في ذلك الجو العلمي الذي أوجده الإسلام، وعاشه مجتمعه المسلم.
وتمثل الثقافة الإسلامية، والعلوم المتنوعة التي نمت عند المسلمين، جانبًا واسعًا شمل كل الميادين التي كانت معروفة، شذّبتها ووجهتها، وتقدمت بها في منهجها الخير وطريقها الفاضل، ثم أوجدت ميادين جديدة قدمت فيها ثمرة كبيرة”.
الجوانب التي تعرض لها المؤلف:
1. جانب العلاقات الدولية:
يُعدّ الجانب الدبلوماسي من الجوانب المهمة في الحضارة الإسلامية، فقد قدّم الكيان الإسلامي خير نموذج في التعامل مع سفراء الأمم الأخرى بروح من العدل، وحسن السلوك، والأخلاق، والكرامة، مستمدًّا من قيم هذا الدين العظيم. فلم تعرف علاقاتهم الخيانة أو الغدر يومًا، وكان الوفاء شيمتها الدائمة، وكان تجسيد ذلك أعظم ما يكون في شخص النبي الأكرم، ومن تلاه من الخلفاء الذين تولَّوا الحكم.
2. الجانب العلمي والثقافي:
تحتل مسألة العلم والتعليم مكانة مركزية في الدين الإسلامي، فكان طلاب العلم محل عناية الرسول الأكرم ﷺ، فمُدح مسيرهم للعلم، وحُمِدت غايتهم، وبُجِّلت مكانتهم، كونهم ورثة الرسول، السالكين طريقه في رفع الجهل عن الناس ونشر العلم.
وقد تميّز العلماء على المستوى الشخصي بميزات عديدة، منها:
- طلب رضا الله واجتهادهم للوصول إليه دون النزول لرضا الأمراء وغيرهم:
يُحكى عن ابن التيّاني (ت: 436هـ) أنه صنّف كتابًا في مدينة مرسية الأندلسية، فأرسل له أميرها مجاهد العامري ألف دينار أندلسي مع كسوة، فردها ابن التياني وقال:
“كتابٌ صنّفته لله ولطلبة العلم، اصرفه إلى اسم ملك؛ هذا والله ما لا يكون أبدًا.”
- العناية بالكتب:
نجد أن غالبية العلماء ساهموا في تأليف الكتب، كابن حزم الظاهري، الذي عدّ ابنه مؤلفاته فبلغت أربعمئة مؤلف. وأكثروا من التأليف على تفاوت أعمارهم، مع جمال أكثره، كـاللؤلؤ حول عنق عروس في عرسها، وإتقانه كدوران الأفلاك في ليلٍ مُقمِر.
ومن فاته حظّه من التأليف، لم يفته حظّه من العناية بالكتب، من اقتنائها بأبهظ الأثمان، والبذل في سبيلها، كأنها عروسٌ حسناء في خِدرها.
- عدم انعزال العالم عن الواقع:
لم يكن العلماء آنذاك حبيسي مدارسهم وحلقات درسهم، بل كانوا بين الناس، يشاركونهم أعمالهم، ولم يرتضوا أن يكونوا عالة على غيرهم. فهذا أبو الوليد الباجي، كان يخرج بين طلابه، ويده عليها أثر المطرقة.
فما كان علمهم للاكتناز، بل للعمل، ونشره بين الناس.
فهذه الصفات الغالبة على علماء حضارتنا، ومَن شذّ عنها أو عن بعضها، وتنكّب طريقها، نزل به النقد نُزول النسر على فريسته.
3. الجانب القضائي:
تُعَدّ عملية القضاء من الأمور المشرقة في حضارتنا، لما لها من أهمية في عموم حياة الناس، وإعطائهم حقوقهم دون غَمطها. والقضاء الإسلامي مستندٌ إلى الكتاب والسُّنّة، وقد تنوّعت مواصفات القاضي، فزيادةً على علميّته، لا بد أن يتميّز بالورع والنزاهة وخشية الله، حتى يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. وكان القاضي يتمتّع بسلطةٍ مستقلّة عن باقي السلطات، حتى يحكم بين الناس بالعدل دون أيّ مؤثِّرٍ عليه، ولا يتبع لسلطة قاضي القضاة. فنجد قاضيًا خاصًّا بقرطبة، وآخر بالقاهرة، وآخر بمرسية، ودمشق، وغيرها من الأمكنة.
وهذه الجوانب قد كتب عنها الدكتور عبد الرحمن الحجي بنظرةٍ شمولية، عسى ولعلّ أن يكون قد بذر بذرةً يقطف ثمرتَها بقيةُ الباحثين، ويكتبون حول بقيّة الجوانب الحضارية الإسلامية، حتى يُغطّى أكبرُ قدرٍ ممكن منها.