العدد الخامسمقالات

مختصر السيرة الحزمية

مختصر السيرة الحزمية

[ترجمة الإمام ابن حزم الأندلسي]

مختصر السيرة الحزمية
مختصر السيرة الحزمية

ابنُ حزمٍ الأندَلسيّ، ذاك الرجل الذي لا يُمكن أن يُغفَل ذِكرُه وقد حلَّ ذِكر الأندَلس وتاريخ الأندَلس وأعلام الأندَلس… ابنُ حزمٍ الأندَلسيّ ذاك الرجل المَوسوعيّ الذي كان أمّةً بذاته، والذي دار حوله الجدل وطال، وتنوّعت عنه الدراسات، حتى استغرقت شتّى المَجالات: الأدبية واللغوية والفكرية والفلسفية والمنطقية والطبيعية والاجتماعية والتاريخية والفقهية والأصولية والحديثية والقرآنية… فكان محلّ تسليط الأضواء، واتجهت إليه أنظار طلبة العلم والباحثين، واحتاج الناس إلى تعريفٍ شامل به، يشمل نواحيه الشخصية والعلمية والاجتماعية… فلأجل ذلك جاءت هذه السيرة المختصرة تذكيرًا وتقديرًا:

 

  1. التعريف بابن حزم الأندلسي:

هُوَ (أَبُو مُحَمَّد) عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيْدِ بْنِ حَزْمِ بْنِ غَالِبِ بْنِ صَالِحِ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَعْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ، الفَارِسِيُّ الأَصْل، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ مولدًا ونشأةً، الظَّاهِرِيُّ منهجًا، الْيَزِيدِيُّ ولاءً؛ فَكَانَ جَدُّهُ يَزِيدُ موْلًى لِلصَّحابِيّ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ -أَخِي مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-، وَكَانَ جَدُّهُ خَلَفُ بْنُ مَعْدَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ فِي صَحَابَةِ مَلِكِ الْأَنْدَلُسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ([1]).

وُلِد أَبُو مُحَمَّدٍ بقُرطبةَ سَنَةَ 384هـ/ 994م، وعاشَ فِي الأَنْدَلُسِ. ونَشَأَ فِي تَنَعُّمٍ وَرَفَاهِيَةٍ، وَرُزِقَ ذَكَاءً مُفْرِطًا، وَذِهْنًا سَيَّالًا، وَكُتُبًا نَفِيسَةً كَثِيرَةً، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ كُبَرَاءِ أَهْلِ قُرْطُبَةَ؛ عَمِلَ الْوِزَارَةَ فِي الدَّوْلَةِ الْعَامِرِيَّةِ الّتي حَكَمَت الأنْدَلُسَ بِاسْمِ الخَلِيفَة الأُمَويّ “هشام المؤيد”، وَكَذَلِكَ وَزَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي شَبِيبَتِهِ، وَكَانَ قَدْ مَهَرَ أَوَّلًا فِي الْأَدَبِ وَالْأَخْبَارِ وَالشِّعْرِ، وَفِي الْمَنْطِقِ وَأَجْزَاءِ الْفَلْسَفَةِ([2]).

وقد هيَّأ اللهُ لهُ نساءً فُضْلَياتٍ في القصر قُمْنَ على تربيتِهِ وتعليمِهِ -كما روى هو عن نفسه-، فحفظَ القرآن على أيديهنَّ([3]).

وقد كانَ زوالُ الدولة العامرية (الأموية) واستيلاء البربر على قرطبة عام 400هـ وتعاقُب الفتن فيها (مع بدء ما يسمى بملوك الطوائف)، كل ذلك أدّى إلى إلحاقِ أذًى كبيرٍ بأسرة ابن حزم. ومما زاد الأمر سوءًا على ابن حزم: وفاة أخيه الأكبر بالطاعون عام 401هـ، ثم وفاة أبيه عام 402هـ، ثمّ زوجتُهُ “نِعَم” التي فُجع بموتها ابن حزم وكتبَ فيها مراثيه. كل ذلك ولم يبلغ العشرين من عمره حينها؛ وهذه الظروف جعلت ابن حزم يتحمل مسؤولية أسرته، وقد اضطُّر -شأن كثير من الأسر القرطبية- أن ينزح إلى “المرية” عام 404هـ. وكتَب يصفُ حالَه: «ما انتفعتُ بعيشٍ، ولا فارقني الإطراق والانغلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة… ولقد نغّص تذكّري ما مضى كلَّ عيشٍ أستأنِفه. وإنّي لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا»([4]).

وبعدَ عمْر ناهز اثنتين وسبعين عامًا توفي ابن حزم -رحمه الله-، حيث وافته المنية وهو مُبعَد إلى بادية “لبلة” في الأندلس، عشيّة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان، سنة (456هـ)([5]).

وفي رثائه لنفسه قال([6]):

كأنكَ بالزوار لي قد  تبـادروا          وقيــل لهــم أودَى عليُّ بنُ أحمــدِ

فيا رُب محزون هناك  وضاحكٍ         وكم أدمــعٍ تذرى وخـــدّ  مخـدّدِ

عفا الله عني يوم أرحـل ظاعنًا       عن الأهل محمولًا إلى ضِيق ملحدِ

وأترك ما قد كنت مغتبطًا بـهِ          وألقى الـذي آنست منـه بمرصدِ

فوا راحتي إن كان زادي مقدمًا         ويـا نصَبي إن كنتُ لم أتــــزودِ

 

  1. عِلْميّة ابن حزم، ومؤلفاته:

اتسمت علمية ابن حزم بأنها موسوعية، فلا تجد فنًا إلا وقد طرقه وبرع فيه، وسيتبين ذلك من خلال كلام العلماء والمؤرخين عنه، ومن خلال كتبه التي تركها عقب حياةٍ مليئة بالعلم والفكر والعمل، تزيد عن السبعين عامًا.. بعد أن نعرض سريعًا إلى طلبه العلم وشيوخه.

طلب ابن حزم العلمَ:

كان ابن حزم في أول عمره قد عاش في القصر، وكانت النساء والجواري يلقّنّه ويؤدّبنه، وقد حفظ عليهنّ القرآن، وتلقّى الشعر، وتعلّم الخطّ. كما تعلّم من جدّه أيضًا. وكان والده أستاذًا له في الأدب والفقه والتاريخ بخاصة إذ كانت له اليد الطولى والتأثير القوي في تشكيل ثقافة ابنه التاريخية حيث كان يحدثه بالأحداث التاريخية المهمة بحكم شخصه ومكانته في الدولة، كما لعب دورًا في غرس معالم الزهد والصبر في قلبه من خلال موعظته إياه. وصحِب ابن حزم في أول طلبه أبا الحسن بن علي الفاسي ويصفه بأنه كان عاقلًا عاملًا عالمًا ممن تقدّم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا. وأما شيوخه فكُثر، فقد وصلت إحصائية مشايخه في بعض المراجع إلى ستين شيخًا في التخصصات المتنوعة، من أشهرهم: أحمد بن محمد بن سعيد بن الجسور القرطبي (320-401هـ) أول شيخ سمع منه ابن حزم قبل سنة 400هـ كان شيخًا له في الفقه والحديث والتاريخ. ومسعود بن سليمان الشنتريني المعروف بأبي الخيار (ت 426هـ) كان شيخًا له في الفقه والحديث وعلومه وعنه أخذ الفكر الظاهري والدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد([7]).

أقوال العلماء والمؤرخين في ابن حزم الأندلسي:

قال تلميذه أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تآليفه نحو أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة([8]).

وقال تلميذه الآخَر الحافظ الحميدي الميورقي: كان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة متفننًا في علوم جمة، عاملًا بعلمه زاهدًا في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه مِن قَبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة في كل ما تحقق به من العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمسندات شيئًا كثيرًا وسمع سماعًا جمًا… وما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتديّن([9]).

وقال أبو حامد الغزالي: وجدت في أسماء الله الحسنى كتابًا لأبي محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه([10]).

وقال ابن بشكوال: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار أخبر ولده أبو رافع الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة([11]).

وقال عبد الواحد المراكشي: نَبَذَ الوزارة واطّرحها اختيارًا، وأقبلَ على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينل أحد قبله بالأندلس، وكان على مذهب الإمام أبي عبد الله الشافعي أقام على ذلك زمانًا ثم انتقل إلى القول بالظاهر وأفرط في ذلك حتى أربى على أبي سليمان داود الظاهري وغيره من أهل الظاهر، وله مصنفات كثيرة جليلة القدر شريفة المقصد في أصول الفقه وفروعه على مهيعه الذي يسلكه ومذهبه الذي يتقلده وهو مذهب داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونفاة القياس والتعليل، بلغني عن غير واحد من علماء الأندلس أن مبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين له نحو من أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفًا فقد ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة وهو الذي وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير أن قومًا من تلاميذ أبي جعفر لخّصوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي في سنة 310 وهو ابن ست وثمانين سنة ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة وهذا لا يتهيأ لمخلوق إلا بكريم عناية الباري تعالى وحسن تأييده له، ولأبي محمد بن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة… وإنما أوردت هذه النبذة من أخبار هذا الرجل وإن كانت قاطعة للنسق مزيحة عن بعض الغرض لأنه أشهر علماء الأندلس اليوم وأكثرهم ذكرًا في مجالس الرؤساء وعلى ألسنة العلماء وذلك لمخالفته مذهب مالك بالمغرب واستبداده بعلم الظاهر ولم يشتهر به قبله عندنا أحد ممن علمت وقد كثر أهل مذهبه وأتباعه عندنا بالأندلس اليوم([12]).

وقال العز بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل “المحلى” لابن حزم و”المغني” لابن قدامة([13]).

وقال عنه ابن خلكان: كان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر وكان متفننًا في علوم جمة عاملًا بعلمه زاهدًا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه مِن قَبله في الوزارة وتدبير الملك متواضعًا ذا فضائل وتآليف كثيرة، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمسندات شيئًا كثيرًا، وسمع سماعًا جمًا، وألف في فقه الحديث كتابًا سماه كتاب الإيصال إلى الفهم، وكتاب الخصال الجامعة نحل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين رضي اللّه عنهم أجمعين، وله كتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض، وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى التوراة والإنجيل وبيان ناقص ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل وهذا معنى لم يسبق إليه، وكتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وكان له كتاب صغير سماه نقط العروس جمع فيه كل غريبة ونادرة([14]).

وقال عنه الذهبي: الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف أبو محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم([15]).

وقال ابن مفلح: كان إليه المنتهى في الذكاء والحفظ وكثرة العلم وكان متفننًا في علوم جمة وله التصانيف الفاخرة في علوم شتى حتى في المنطق، وشرح المحلى في اثني عشر مجلدًا، ومن طالع كتابه هذا وجد فيه تأدبه مع الإمام أحمد ومتابعته([16]).

وقال ابن كثير: قرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية وبرز فيها وفاق أهل زمانه وصنف الكتب المشهورة يقال إنه صنف أربعمئة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة وكان أديبًا طبيبًا شاعرًا فصيحًا له في الطب والمنطق كتب وكان من بيت وزارة ورياسة ووجاهة ومال وثروة([17]).

وقال عنه الفيروزابادي: إمامٌ في الفنون، وزرَ هو بعد أبيه للمظفر، وترك الوزارة وأقبل على التصنيف ونشر العلم… ([18]).

وقال جلال الدين السيوطي: كان صاحب فنون وورع وزهد وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار([19]).

وقال ابن العماد الحنبلي: كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر مع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب([20]).

مؤلفات ابن حزم:

أما مؤلفاته؛ فكما أشار مترجموه أنها كثيرة، وبعضها فُقد، وبعضها مخطوط لم يطبع بعد، وهذه قائمةٌ ببعضها -مما ذكره الفيروزابادي في تتمة كلامه الآنف-([21]):

ومن تصانيفه كتاب “التقريب في بيان حدود الكلام وكيفية إقامة البرهان” في كل ما يحتاج إليه منه وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس برهانا، وكتاب “الأخلاق والسير” صغير وكتاب “الفصل بين النحل والملل” وكتاب “الدرة في الاعتقاد” صغير ورسالة “التوفيق على شارع النجاة باختصار الطريق” وكتاب “التحقيق في نقض كلام الرازي” وكتاب “التزهيد في بعض كتاب الفريد” وكتاب “اليقين في النقض على عطاف في كتابه عمدة الأبرار” وكتاب “النقض على عبد الحق الصقلي” وكتاب “زجر العاوي وإخسائه ودحر الغاوي وإخزائه” وكتاب “رواية أبان يزيد العطار عن عاصم” في القراءات وكتاب “الرد على من قال إن ترتيب السور ليس من عند الله بل هو فعل الصحابة” وكتاب “الإحكام لأصول الأحكام” وكتاب “النبذ في الأصول” وكتاب “النكت الموجزة في إبطال القياس والتعليل والرأي” وكتاب “النقض على أبي العباس بن سريج” وكتاب “الرد على المالكية” في الموطأ خاصة وكتاب “الرد على الطحاوي في الاستحسان” وكتاب “صلة الدامع الذي ابتدأه أبو الحسن بن المفلس” وكتاب “الخصال في المسائل المجردة وصلته في الفتوح والتاريخ والسير” وكتاب “الاتصال في شرح كتاب الخصال” نحو أربعة آلاف ورقة وكتاب “المحلى” و”شرحه” وكتاب “المعلى في شرح المحلى” بإيجاز وكتاب “حجة الوداع” صغير ورسالة في التلخيص في تلخيص الأعمال وكتاب “مراتب العلماء” وكتاب “مراتب التواليف” و”اختصار كتاب العلل” للباجي و”التاريخ الصغير” في أخبار الأندلس وكتاب “الجماهير” في النسب ورسالة في النفس ورسالة في النقس ورسالة في الطب ورسالة في النساء ورسالة في الغناء وكتاب “الإعراب عن كشف الالتباس الموجود في مذاهب أصحاب الرأي والقياس” وكتاب “القواعد في المسائل المجردة” على طريقة أصحاب الظاهر نحو ثلاثة آلاف ورقة وكتاب “تأليف الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ظاهرها التعارض” ونفي التناقض عنها نحو عشرة آلاف ورقة ورسالة الاستحالات وكتاب في الألوان ورسالة في الروح والنفس ورسالة في مراعاة أحوال الإمام ورسالة في فضل الأندلس وذكر علمائها وتواليفهم ورسالة الكشف عن حقيقة البلاغة وحين الاستعادة في النظم والنثر وكتاب “غلط أبي عمرو المقرئ في كتابه المسند والمرسل” وكتاب في العروض صغير وكتاب “طوق الحمامة” نحو ثلاثمئة ورقة عارض كتاب الزهرة لأبي بكر بن داود وكتاب “دعوة الملل في أبيات المثل” فيه أربعون ألف بيت وكتاب “التعقيب على ابن الإفليلي” في شرح شعر المتنبي وكتاب في الوعد والوعيد ورسالة “الإيمان” وكتاب “الإجماع”.

ومن ثَمّ يظهر جليًا: أنه رجل موسوعيٌّ؛ فهو فقيه محدّث أصولي مؤرّخ فيلسوف لغوي أديب طبيب.

 

  1. إضاءة على فكر ابن حزم:

خاض الناس فيما سمّوه (مذهب ابن حزم الفقهي) وهو (الظاهرية)، والحقيقة أنّ الظاهرية هي منهج فكري لدى أهل الظاهر الأصَلاء، وهذا ما أشار إليه محقق كتاب “طوق الحمامة” عبد الحق التركماني حيث قال([22]): (يمكنني أن أزعم -في ضوء قراءاتي ودراساتي للمذهب الظَّاهري- أن الظاهرية ليست مذهبًا فقهيًا حسب، بل هي طريقة في التفكير، قد ارتضاها أصحابها لأنفسهم، لا لجمودهم وحَرْفيتهم، ولا لضيق نظرهم وتفكيرهم، وإنما لبراهين عقلية تقرَّرت عندهم، وترجَّحت لديهم، بشواهد من الكتاب والسنة! فالظاهرية تخفي وراءها نزعة عقلية، يمكن رصد بعض أبعادها من خلال ملاحظة عوامل التكوين الفكرية والعلمية لأئمتها، ودراسةِ تراثها المتميز بالأصالة والتنوع والإبداع).

ويصرّح باحث آخر فيقول: (ولا بد لي من الجرأة هنا لأقول: إن فكر ابن حزم قد تعرّض لسوء فهم وقصور إحاطة من غالبية مَن عالجوه قديمًا وحديثًا، بسببٍ من نكهته اللامألوفة اللاذعة، ولأن جهده العظيم لم يتوفر جهدٌ يوازيه ويواكبه ليمكّن الإحاطة بما فيه من أصالة وعمق وشمول)([23]).

وقبلهما قال العلامة الشوكاني -في ترجمة أبي حيان صاحب التفسير-: (وكان ظاهريًا… قال ابن حجر “كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه” انتهى. ولقد صدق في مقاله، فمذهب الظاهر هو أول الفكر وآخر العمل عند من مُنح الإنصاف ولم يَرد على فطرته ما يغيّرها عن أصلها، وليس هو مذهب داوود الظاهري وأتباعه، بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيّدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن، وداوود الظاهري واحدٌ منهم…)([24]).

 

  1. ملامح شخصية ابن حزم:

أوَّل وَصفٍ لابن حزم يخطر على بال جمهور القرّاء، أنه ذو شخصية عنيفة، وهذا الوصف يرجع إلى ما زعمه ابن العريف الأندلسي (المتوفى 526هـ)، إذ قال: كان لسان علي بن حزم وسيف الحجاج شقيقين([25]). يعني بذلك كثرة وقوعه في العلماء، كما قد عُرف من صنيع الحجاج بهم وسفكه دماءَهم. وهذا تصريحٌ جليٌّ بعنف شخصية ابن حزم، حيث قُرن لسانه بسيف الحجاج.

والحق أنه لم يكن كذلك، ولم يكن وقّاعًا في العلماء والأئمة، وإنما هي من تُهم الخصوم، فمن راجع كتبه لم يجد ذلك، والبيّنة على من ادّعى، إنما شأنه في الردود مع الأقوال لا مع أصحابها، فكان يصف القول الباطل في نظره بأوصاف تبيّن شناعته، وقلّ أن يذكر أحدًا باسمه -طعنًا- إلا بعض رؤوس أصحاب البدع، لا سيما خصومه من أهل الجهالة في زمانه.

وقد عُرف عنه أنه مبجّل للعلماء والأئمة كما أنه كتب رسالة مفردة في ذلك تُدعَى “الرسالة الباهرة” فقد سرَد فيها عددًا من أسماء الأئمة والحفاظ والعلماء منذ عهد التابعين إلى قُبَيل عصره، وأثنى عليهم ثناءً بالغًا. بل أفرَدَ في كتابه “الإحكام في أصول الأحاكم” فصلًا سمّاه: (فصلٌ فيهِ بيانُ سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة)، بحيث أبانَ فيه عن عذر العلماء فيما خالفوا فيه النص؛ ومادّةُ هذا الفصل هي الأساس الذي بنَى عليه أبو العباس ابن تيمية كتاَبه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

ومع ذلك لا يُنكَر أنّ لهجة ابن حزم في الردّ على خصومه من أهل الجهل والتقليد كانت شديدة في مواضع عديدة، ولذلك أسباب وعوامل، منها العامل الاجتماعي والسياسي وما توالد منهما من عنف وطول لسان في ذلك الزمان.

والصواب الذي يجب أن يُقال في هذا الموضع أنّ ابن حزم كان حازمًا شديدًا في الحق الذي يعتقده، لا يداهن فيه ولا يواري ولا يداري، وكان صلبًا في استقلاله الفكري وتحرره المعنوي، معتدًّا بنفسه لا يرى مسوغًا لطاعة أحد سوى نفسهِ بما فهِمَه عن كتاب الله وسنّة رسول الله بالطرق العلمية الثابتة اليقينية.

ولذلك لا يُعوَّل على كتب التراجم التي غمطت ابن حزم حقه في هذه القضيّة، وأساءت إليه بالفِرية العَريّة، فاجترؤوا عليه بكلامٍ بَنوه على قول ابن العريف المذكور آنفًا، فزعَم بعضُهم أنّ الله جازاه على إساءته للعلماء بأنْ أساءَ الناسُ إليه وأحرقوا كتبه، وقضية الإحراق فرية أخرى، هي وإن حدَثت في وقتٍ ما في زمنه بسبب نزاعات سياسية، إلا أنها لم تشمل جميع كتبه ولم تكن بسبب مذهبه ولا بسبب ردوده العلمية، بل إنّ الأندلس عمومًا بعد وفاته بوقتٍ قريب انتشر فيها فِكر الظاهرية وسادَ، وضُيِّق على أهل التقليد، وحُرِّقت كتبُهم، وعُظِّمَت كُتب ابن حزم، وأُعلي شأنه، وما زال كذلك في عيون المنصفين من أهل العلم حتى زماننا هذا. فما كان ينبغي لبعض المؤرخين -كالذهبي وغيره- أن ينزلقوا منزلَق عدم الإنصاف في حق ابن حزم، فيعتمدوا على أقوالٍ قيلت فيه دون تمحيصٍ ولا نظرٍ دقيق، في الوقت الذي يجب أن يكونوا هم مظنة الإنصاف لأنّهم من المفترَض أنهم أعلم من غيرهم بحوادث التاريخ وبأحوال الرجال!!

وأما ما جاء في كتاب “طوق الحمامة” -الذي سجّل فيه ابن حزم كثيرًا من حوادث حياته- قوله: “فأنتَ تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر، بما نحن فيه من نبو الديار والخلاء عن الأوطان، وتغير الزمان ونكبات لسلطان…”. فهذا تابعٌ لقضيةٍ سابقة في التأثير على المزاج، وهذا لا يعني أن ذلك صار طبعًا له، ولا يعني أن كُتبَه كُتبت بذهن متقلّب! كيف وهو من أبرَز الأعلام الناظرين في كُتبهم والمدققين فيها والستدركين على أنفسهم، ولو كان غير ذلك لرأينا اختلافًا كثيرًا وتناقضًا كبيرًا.

وربما استشهد البعضُ على عنفه بعلته التي شكا منها، والتي أصابته في طحاله، كما قال في رسالته “مداواة النفوس”: “لقد أصابتني علة شديدة، ولّدت فيّ ربوًا في الطحال شديدًا، فولّد ذلك عليّ من الضجر، وضيق الخُلق، وقلة الصبر، والنزق، أمرًا هاشت نفسي فيه، وأنكرتُ تبدّل خُلقي، واشتدّ عجَبي من مفارقتي لطبعي، وصحّ عندي أن الطحال موضع الفرَح، وإذا فسد تولّد ضده”. فهذا لا يدل على ما زعموا، بل يدل على عكسه تمامًا، فقد قال (اشتدّ عجَبي من مفارقتي لطبعي)، فطبعه بخلاف ذلك، فبانَ أنها علة طارئة، وهي وإن كانت مؤثرة في وقتٍ ما، إلا أنها لا تؤثر على تراث ابن حزم الذي كان يدرِّس كتبَه وتُقرَأ عليه ويُعيد النظر فيها.

ومما يؤكَّد عليه في هذا الصدد: الرسالتان المذكورتان آنفًا “طوق الحمامة” و”مداواة النفوس”، فمَن تأمَّلهما ظهَرت له ملامح كثيرة من شخصية ابن حزم الأندلسي. ولذلك قال عبدالحق التركماني([26]): (أستطيع الزعم بأنَّ هذا الكتاب كما هو كتاب حبٍّ، فهو -أيضًا- كتاب سيرة وذكريات واعترافات شخصية، وهو -أيضًا- كتاب أخلاق وقيم. لهذا تجدني أكرر ما ذكرته في مقدمة كتابه الآخر: “الأخلاق والسير” من أنَّه يمكن استخراج كثير من الفوائد منه، خاصَّة فيما يتعلَّق بشخصية ابن حزم وحبِّه للحق والعدل والصِّدق، وبغضه الشديد للباطل والظُّلم والكذب).

وقال أيضًا([27]): (وقد اتصف ابن حزم بخصلتين جُبل عليهما، هما الوفاء وعزة النفس، وكل واحدة من هاتين السَّجيَّتين تدعو لنفسها، فالوفاء يدعو إلى الثبات وعدم التلون والنسيان، وعزة النفس لا تقرُّ الضيم، وتهتم بأقل ما يرد عليها من تغير المعارف، فتدعو -بطبيعة الحال- إلى الهجر والنسيان…).

هذا، وقد اجتمعت في ابن حزم مواهب وسجايا وأخلاق مميزة، من أهمها: تميزه بحافظة قوية مستوعبة، وبديهة سريعة حاضرة تسعفه بالمعلومات الشاردة في وقت الحاجة إليها، وقوة ملاحظة، وقدرة استدلالية هائلة، وكان هذا كافيًا لأن يكون راويةً أمينًا، ومحققًا نزيهًا، ومؤرخًا واسع الأفق. وكذلك أوتي من الصفات عمقًا في التفكير وغوصًا على الحقائق، وحدّة في الذكاء، فهو لا يكتفي بالاستقراء والإحصاء، حتى يعرف كل مسألة ليعرف أسرارها، ولا يكتفي بمعرفة الوقائع حتى يعرف بواعثها والدافع إليها. ومن صفاته انصرافه كليًا منذ صباه إلى طلب العلم وتحصيله، ولذلك جد فيه وصبر في طلبه، وهو فوق ذلك سبيل الله عز وجل، فجعل همه طلب العلم والتقرب إلى الله ببيان الحق والنطق به. وقد وهبه الله عز وجل صفة الإخلاص، ولذلك كان لفرط إخلاصه يباعد بين نفسه وبين العجب بها والاغترار بما وصل إليه من علم، وكان يعدّ العجب آفة الإخلاص، وآفة الرأي، وآفة الأخلاق الفاضلة، ويدعو كل امرئ إلى تعديل خطئه قبل تقدير صوابه، فيقول: “إن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك”. وقد أجمع الذين أرخو لابن حزم أنه كان صريحًا في قوله الحق ولا يخاف في الحق لومة لائم، فيقول: “فأغْضِب الناس ونافِرهم، ولا تُغضِب ربك ولا تنافِر الحق”. ومن صفاته أنه كان معتزًا بنفسه من غير عُجب، ولا خيلاء، معتمدًا على الله في السراء والضراء، وكان مستقيم الرأي، سليم الفكرة، بريء الساحة، ذا ديانة وحشمة وسؤدد، وكان يؤمن بأن سلامة العقيدة والشرف فوق الحياة نفسها([28]).

 

___________________

الهوامش:

([1]) يُنظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/184-185).

([2]) يُنظَر: السابق، (18/185-187).

([3]) يُنظَر: ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي، (1/166).

([4]) ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي، (1/125). ويُنظر: الزعبي: ظاهرية ابن حزم الأندلسي، (ص29).

([5]) يُنظَر: ابن بشكوال: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، (ص396).

([6]) ابن حزم: ديوان ابن حزم الأندلسي، (ص96).

([7]) يُنظر -على سبيل المثال-: إحسان عباس: أخبار وتراجم أندلسية، (ص52).

([8]) نقلًا عن: الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/187).

([9]) الحميدي: جذوة المقتبس، (ترجمة ابن حزم).

([10]) نقلًا عن: الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/187).

([11]) ابن بشكوال: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، (ص395).

([12]) المراكشي: المعجب، (ص46- 49).

([13]) نقلًا عن: الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/187).

([14]) ابن خلكان: وفيات الأعيان، (3/325-330).

([15]) الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/187).

([16]) ابن مفلح: المقصد الأرشد، (2/213،214).

([17]) ابن كثير: البداية والنهاية، (12/113).

([18]) الفيروزابادي: البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، (ص146).

([19]) السيوطي: طبقات الحفاظ، (ص435،436).

([20]) ابن العماد الحنبلي: شذرات من الذهب، (3/299).

([21]) الفيروزابادي: البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، (ص147).

([22]) في مقدمته عليه، (ص39).

([23]) الزعبي: ظاهرية ابن حزم الأندلسي، (ص9).

([24]) الشوكاني: البدر الطالع، (2/281).

([25]) رواها ابن خلكان في: وفيات الأعيان، (3/328).

([26]) كما في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن حزم: طوق الحمامة، (ص57).

([27]) السابق، (ص59).

([28]) يُنظر: محمد هشام النعسان: مصادر علم ابن حزم الأندلسي ومؤلفاته. ويُنظر: محمد أبو زهرة: ابن حزم حياته وعصره آراؤه وفقهه. دار الفكر العربي، القاهرة.

 

_____________

اقرأ أيضًا:

علماء الأندلس: الشريعة واللسان  

جولة عاشق في الأندلس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى