العدد الثالثمقالات

الشعر في صدر الإسلام وأثره في الدعوة

مجلة روى العدد الثالث

الشعر في صدر الإسلام
 وأثره في الدعوة الإسلامية

خالد مطر حرز

لا شك أن لكل أمة أو شعب فنًّا أو صنعة يفتخرون بها ويشتهرون بها ويعظمونها. وقد يشتهر القوم في البناء وروعته وعظمته كما في العصر الفرعوني والبابلي، وقد يشتهرون بالفلسفة كما عند الشعب الصيني القديم واليونان والرومان، فإنّ العرب القدماء اشتهروا بفنّ الأدب وخصوصًا الشعر، فكان الشعر ديوان العرب -كما قيل-، وبلغوا فيه مبلغ المفاخرة به لأنهم أتقنوه إتقانًا لا يجاريهم فيه أحد، حتى أنهم وصلوا مرحلة أن جعلوا له أسواقًا شعرية، وهي بلغة عصرنا مهرجانات شعرية، وهذا كله قبل الإسلام.

وهذه الأسواق كانت في الأصل أسواقًا تجارية أو اقتصادية تعرض فيها بضاعتهم وتجارتهم وتتناسب زمنيًا مع فترة الحج، وغالبًا ما تعقد تلك الأسواق في الأشهر الحرم حيث تضع الحرب أوزارها ويشعر التجار بالأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم، وفي تلك الأسواق يعرضون بضاعتهم حضرًا وبدوًا وأعرابا، عربا وغير عرب من أحباش وفرس وروم ونبط، وكان مهرجانًا شعريًا يأتي إليه الشعراء من مختلف أنحاء الجزيرة والشام والعراق يلقون الشعر بلهجة قريش، وقد منحها ذلك السيادة على القبائل العربية، وقد امتدت تلك السيادة إلى لهجة قريش في الإسلام عندما نزل القرآن الكريم بلهجتهم أو بلغتهم، كما كان المحكمون يأتون إليها من مختلف أنحاء الجزيرة للفصل بين المتنافسين في الشعر والأدب، ومن أشهرهم: النابغة الذبياني، ومن تلك الأسواق: سوق عكاظ جنوب مكة وكان العرب يرتادونه عشرون يومًا السنة في شهر ذي القعدة، وأيضا أسواق منى وذي المجنة وذي المجاز قرب منى وعرفات، وسوق بصرى في الشام، وأسواق حضرموت وصنعاء وعدن في اليمن وغيرها. وكان يعرض في تلك الأسواق الشعر الحَولي المحكّك الشعر الذي جوّده صاحبه حولًا كاملًا، إن ذلك الشعر هو مَن أسّس اللغة العربية فكرًا وأسلوبًا وإيقاعًا ونظمًا، وكان الشعراء وقتئذٍ يقطعون البِيد والأودية ويصيبهم الظمأ والنصب والمخمصة لينشدوا شعرًا مجلجلًا يحفظه الناس ويتمثلونه في أنديتهم، ويردده الرواة، فيرفعون به بيوتًا ويهدمون أُخَر على رؤوس أصحابها.

وكان من أشهر شعراء الجاهلية الذين كانت لهم مكانتهم في أقوامهم وكانت لهم مكانتهم الشعرية عند العرب بقصائدهم من جمال نظمها وفصاحتها وطولها حتى أن العرب اختاروا منها سابعًا ويُروى أنهم علقوها على أستار الكعبة ويسمون قائليها أصحاب المعلقات وهم: امرؤ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى ولبيد بن ربيعة وعنترة بن شداد العبسي وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة اليشكري والنابغة الذبياني وقيل إنهم أكثر من ذلك. لذا عاش كثير من أشعارهم إلى يومنا هذا لأن فيها إنسانية، ولغة، وصورًا، وإيقاعًا وتجددًا، وغرابة، وفكرًا، وحياة. فلا يظن ظان أن القرآن تحدّى غير الشعراء والبلغاء أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة واحدة من مثله. فقد كانوا هم المشتغلين بالشعر وصياغة الفكر بلغة بيانية مدهشة، الأمر الذي جعل القرآن من بعد ينفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم الشاعرية وعن القرآن الشعرية. ولم يكُ أكثر شعراء العرب آنذاك إلا سادة قبائلهم وفرسانها وكبارها.

والشعر هو بمثابة الإعلام في يومنا هذا وهو كذلك. فقام الشعر بدوره أيضًا في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، وفي المقابل حثّ أصحابه على هجاء شعراء المشركين الذين لم يؤمنوا بدعوته إلى الإسلام كعمل إعلامي مضاد للدعوة الإسلامية، فما كان من شعراء المسلمين إلا أن ينهضوا وينبروا لهذه المهمة بعدما استقرت الدعوة بمقرها الآمن وإقامة دولتها في المدينة المنورة المباركة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم تأثير تلك الوسيلة الإعلامية في الوصول إلى الناس مشركهم ومسلمهم فكان يحض شعرائه ويقول لحسان مثلًا: “اهجهم وروح القدس معك”([1]) ولذلك احتاجت الدعوة الإسلامية إلى شعراء يدافعون عن الدعوه الإسلامية ويذبون عن رئيس دولتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن العرب المشركين في ذلك لم يكونوا يعترفون بالقرآن أنه كلام الله لأنهم لم يصدقوا بنبوة رسول الله. فهاهنا الشعر الذي يفهمونه جيدا كان عاملا مهما في الرد على من يهجون الدعوة وقائدها صلى الله عليه وسلم يفحمونهم ويردون عليهم ويشحذون همم المسلمين في المعارك والمناسبات وفي مدح رسول الله.

وأستطيع أن أقول إن أغراض الشعر في تلك المرحلة كانت تشتمل على:

  • أنه عملية إعلامية، واستخدام الشعر لإيصال فكرة الدعوة الإسلامية والذب عنها.
  • الرد على المشركين وهجائهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومدحهم النبي. وذلك أن المشركين استخدموا الشعر استخداما قويا كوسيلة إعلام قوية ومؤثرة للصد عن سبيل الله ونبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك نرى ردة فعل الرسول على بعض الشعراء حيث قال: اقتلوه ولو وجدتموه معلقا على أستار الكعبة([2]).
  • مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته ومدح صورته وصدقه وعدله ومزاياه، وشحذ الهمم في المناسبات المعارك.

ومن هؤلاء الشعراء الذين دافعوا عن الاسلام في صدره الأول: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك.

 

الشعر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:

معروف أن قريشًا حادّت الله ورسوله حين بعث، مما اضطره إلى الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، وسرعان ما نشبت بين البلدتين معركة حامية الوطيس تقف فيها قريش ومن معها من العرب من جانب ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم ومن هاجروا معه من مكة ومن التفوا حوله في المدينة في جانب آخر. وبمجرد أن اشتبكت السيوف أخذ الشعراء في الجانبين المتناقضين يسلّون ألسنتهم، ولم تكن مكة في الجاهلية تُعرف بشعر إلا بعض مقطوعات تُنسب إلى ورقة بن نوفل وغيره من المتحنّفين، ومقطوعات أخرى تنسب إلى بعض فتيانها مثل نبيه ومسافر، اللذين ترجم لهما أبو الفرج في أغانيه، فلما نشبت الحرب بينها وبين الرسول لمعت فيها أسماء شعراء كثيرين مثل أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن الزبعري وضرار بن الخطاب الفهري وأبي عزة الجمحي وهبيرة بن وهب المخزومي، وقد أخذوا يسددون سهام أشعارهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه وأنصاره من المدينة. عز ذلك على رسول الله، لا لأنهم كانوا يهجونه فحسب، بل أيضا لأنهم كانوا يصدون عن سبيل الله بما يذيع من شعرهم في القبائل العربية. فقال للأنصار: “من يمنع القوم الذين نصروا الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟” فقال حسان: أنا لها، فأخذ بطرف لسانه وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء([3]). وانضم إليه كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، فاحتدم الهجاء بينهم وبين شعراء مكة([4]).

فكان عقب كل موقعة حربية يقال فيها شعر، بعد بدر، وبعد أحد، والخندق، وفتح مكة.

ومن هذه الاحتدامات أو الصدامات الشعرية ما أثبت لابن الزبعري قصيدته التي قالها في أُحد وفيها يقول([5]):*

ليت أشياخي ببدر شهدوا * ضجر الخزرج من وقع الأسل

حيـن ألقـت بقباء بركـهـا * واستحر القتل في عبد الأشهل

فقتلنا النصف من سادتهم * وعـدلـنا ميـل بدر فاعـتـدل

وقال هبيرة ابن أبي وهب يحرض بني كنانة، وكان شديد العداوة لله ورسوله، وهو الذي قال في يوم أحد([6]):

قدنا كنانة من أكناف ذي يمنٍ * عرض البلاد على ما كان يزجيها

قالت كنانة أنى تذهبون بنا * قلنا النخيل، فأمـوها وما فيها

وكان في الطرف المقابل حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة([7]).

 

1 – حسان بن ثابت:

حسان هو أشعر الثلاثة، وهو كثير الشعر جيده، كما قال بن سلام([8])، وقيل إن أول ما جرى به لسانه حين سلّه على قريش هذه الأبيات يتحدى بها أبا سفيان بن الحارث([9]):

هجوت محمدًا فأجبت عنه       وعند الله في ذاك الجزاءُ

فأن أبي ووالده وعرضي        لعرض محمد منكم وجاءُ

أتهجوه ولست له بكفءٍ       فشركما لخـيركما الفداءُ

وحسان هو أبو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري، من قبيلة الخزرج، التي هاجرت من اليمن إلى الحجاز، وأقامت في المدينة مع الأوس. ولد في المدينة قبل مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بنحو ثماني سنين، فعاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة أخرى، وشب في بيت وجاهة وشرف، منصرفًا إلى اللهو والغزل. وهو من بني النجار أخوال عبد المطلب بن هاشم جد النبي محمد من قبيلة الخزرج، ويروى أن أباه ثابت بن المنذر الخزرجي كان من سادة قومه، ومن أشرفهم، وأما أمه فهي الفزيعة بنت خنيس وهي أيضًا خزرجية. وكان حسان ينشد الشعر قبل الإسلام، وكان ممن يَفِدون على ملوك الغساسنة في الشام، وبعد إسلامه عُدّ شاعر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأهدى لهُ النبي جارية قبطية قد أهداها لهُ المقوقس ملك القبط واسمها سيرين بنت شمعون، فتزوجها حسان، وأنجبت منهُ ولدهُ عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وحسن إسلامها وهي أخت زوجة الرسول مارية القبطية. ولقد سجلت كتب الأدب والتاريخ الكثير من الأشعار التي ألقاها في هجاء الكفار ومعارضتهم، وكذلك في مدح المسلمين ورثاء شهدائهم وأمواتهم. وأصيب بالعمى قبل وفاته، ولم يشهد مع النبي مشهدًا لعلة أصابته، ويعدّ في طبقة المخضرمين من الشعراء لأنه أدرك الجاهلية والإسلام. وتوفي حسان -رضي الله عنه- في أربعين من الهجرة وذلك في عهد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد كان يبلغ من العمر مئة وعشرين سنة، وذلك بعد رحلة طويلة مليئة بالعطاء والإنجازات في سبيل قبيلته وفي سبيل الإسلام([10]).

كانت المدينة المنورة قبل الإسلام ميدانًا للصراع بين الأوس والخزرج إذ كانت تكثر فيها الحروب ولذلك كان حسان هو لسان قومه في فترة الحروب، وبالتالي فإنه قد اكتسب شهرة واسعة وكبيرة في الجزيرة العربية، وبعد فترة تقوت فيها علاقته مع الغساسنة فقال فيهم القصائد والأشعار.

وقد اتسمت أشعاره بالألفاظ الفنية القوية، وكان يكثر من المدح أيام الجاهلية ومدح الغساسنة والنعمان بن المنذر وغيرهم، ثم مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمكن اعتبار أشعاره من الأشعار القوية والبليغة، وأيضًا كان في شعره غزل قبل الإسلام، أما عندما دخل الإسلام فإنه أصبح يقتبس معظم معاني قصائده من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

وكان يدافع عن رسول الله ويذكر أخلاقه الحميدة والرفيعة، كما كان يدافع عن الصحابة والخلفاء بعد الرسول، ويوجد الكثير من الأشعار التي لاقت قبولًا واسعًا عند المسلمين. ونذكر منها([11]):

نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَتْرَة ٍ … منَ الرسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ

فَأمْسَى سِرَاجًا مُسْتَنيرًا وَهَادِيًا … يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ

وأنذرنا نارًا، وبشّرَ جنةً … وعلَّمنا الإسلامَ، فاللهَ نحمَدُ

وأنتَ إلهَ الخلقِ ربي وخالقي، … بذلكَ ما عمرتُ في الناسِ أشهدُ

تَعَالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْل مَن دَعا … سِوَاكَ إلهًا، أنْتَ أعْلَى وَأمْجَدُ

وقال حسان في يوم الفتح([12]):

وَجِبْرِيلٌ أمِينُ اللَّهِ فِينَا ** وَرُوحُ القُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ

وَقَالَ اللَّهُ: قَدْ أرْسَلْتُ عَبْدًا ** يقولُ الحقَّ إنْ نفعَ البلاءُ

شَهِدْتُ بِهِ، فَقُومُوا صَدِّقُوهُ! ** فقلتمْ: لا نقومُ ولا نشاءُ

وَقَالَ اللَّهُ: قَدْ يَسّرْتُ جُنْدًا ** همُ الأنصارُ، عرضتها اللقاءُ

لنا في كلّ يومٍ منْ معدٍّ ** سِبابٌ، أو قِتَالٌ، أو هِجاءُ

فنحكمُ بالقوافي منْ هجانا ** ونضربُ حينَ تختلطُ الدماءُ

ألا أبلغْ أبا سفيانَ عني ** فأنتَ مجوفٌ نخبٌ هواءُ

وأن سيوفنا تركتك عبدا ** وعبد الدار سادتها الإماء

كَأنّ سَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ ** تُعفيِّها الرّوَامِسُ والسّمَاءُ

هجوتَ محمدًا، فأجبتُ عنهُ ** وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ

أتَهْجُوهُ، وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ ** فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ

هجوتَ مباركًا، برًا، حنيفًا ** أمينَ اللهِ، شيمتهُ الوفاءُ

فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ** ويمدحهُ، وينصرهُ سواءُ

فَإنّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي ** لعرضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ

فإما تثقفنّ بنو لؤيٍ ** جُذَيْمَةَ، إنّ قَتْلَهُمُ شِفَاءُ

أولئكَ معشرٌ نصروا علينا ** ففي أظفارنا منهمْ دماءُ

وَحِلْفُ الحارِثِ بْن أبي ضِرَارٍ ** وَحِلْفُ قُرَيْظَةٍ مِنّا بَرَاءُ

لساني صارمٌ لا عيبَ فيهِ ** وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُهُ الّدلاءُ

وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: “هجاهم حسان فشفى واشتفى”، وكان يُصنع له منبر يقوم عليه، فيهجو مَن هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، من ذلك قوله([13]):

وَاللَهِ ما في قُرَيشٍ كُلِّها نَفَرٌ        *     أَكثَرُ شَيخا جَبانا فاحِشًا غُمُرا

أَزَبَّ أَصلَعَ سِفسيرًا لَهُ ذَأَبٌ     *    كَالقِردِ يَعجُمُ وَسطَ المَجلِسِ الحُمَرا

هُذرٌ مَشائيمُ مَحرومٌ ثَوِيُّهمُ     *    إِذا تَروَّحَ مِنهُم زُوِّدَ القَمَرا

أَمّا اِبنُ نابِغَةَ العَبدُ الهَجينُ فَقَد    *      أُنحي عَلَيهِ لِسانا صارِما ذَكَرا

ما بالُ أُمِّكَ راغَت عِندَ ذي شَرَفٍ   *       إِلى جَذيمَةَ لَمّا عَفَّت الأَثَرا

ظَلَّت ثَلاثا وَمِلحانٌ مُعانِقُها        *    عِندَ الحَجونِ فَما مَلّا وَما فَتَرا

يا آلَ سَهمٍ فَإِنّي قَد نَصَحتُ لَكُ     *   ملا أَبعَثَنَّ عَلى الأَحياءِ مِن قُبِرا

أَلا تَرَونَ بِأَنّي قَد ظُلِمتُ إِذا       *     كانَ الزِبَعرى لِنَعلي ثابِتٍ خَطَرا

كَم مِن كَريمٍ يَعَضُّ الكَلبُ مِئزَرَهُ     *          ثُمَّ يَفِرُّ إِذا أَلقَمتَهُ الحَجَرا

قَولي لَكُم آلَ شِجعٍ سُمُّ مُطرِقَةٍ        *     صَمّاءُ تَطحَرُ عَن أَنيابِها القَذَرا

أَمّا هِشامٌ فَرِجلا قَيئَةٍ مَجِنَت        *     باتَت تُغَمِّزُ وَسطَ السامِرِ الكَمَرا

لَولا النَبِيُّ وَقَولُ الحَقِّ مَغضَبَةٌ        *            لَما تَرَكتُ لَكُم أُنثى وَلا ذَكَرا

 

2- كعب بن مالك

هو كعب بن مالك بن عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، الأنصاريّ الخزرجيّ العقبيّ الأحديّ، كان يُكنّى في الجاهليّة بأبي بشير، شهد بيعة العقبة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآخى النبيّ بينه وبين طلحة بن عبيد الله بعد الهجرة، وقيل آخى بينه وبين الزبير، روى ابن مالك عن النبي ثلاثين حديثًا، انفرد منها البخاريّ بحديثٍ واحدٍ، والإمام مسلم بحديثين. روى عنه بنوه: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، ومحمد، ومعبد; وروى عنه: جابر، وابن عباس، وأبو أمامة، وعمر بن الحكم، وعمر بن كثير بن أفلح، وحفيده عبد الرحمن بن عبد الله. وقال ابن أبي حاتم: كان كعب من أهل الصفة. وذهب بصره في خلافة معاوية.وقد ذكره عروة في السبعين الذين شهدوا العقبة. قيل إنّ كعبًا مات سنة أربعين، وقيل مات سنة خمسين. وكان رضي الله عنه من الثلاثة الذين خُلّفوا ثم تاب الله عليهم وأنزل في توبتهم قرآنًا يُتلى إلى يوم الدين([14]).

وهو القائل -ويقال إنه أفخر بيت قالته العرب-‏‏([15]):

وببئر بدرٍ إذ يردّ وجوههم … جبريلُ تحت لوائنا ومحمدُ

ومن شعره يومَ بدر‏‏([16]):‏‏

لعمر أبيكما يا بني لؤي * على زهو لديكم وانتخاءِ

لما حامت فوارسكم ببدر * ولا صبروا به عند اللقاءِ

وردناه بنور الله يجلو * دجى الظلماء عنا والغطاءِ

رسول الله يقدمنا بأمر * من أمر الله أحكم بالقضاءِ

فما ظفرت فوراسكم ببدر * وما رجعوا إليكم بالسواءِ

فلا تعجل أبا سفيان وارقب * جياد الخيل تطلع من كداءِ

بنصر الله روح القدس فيها * وميكال فيا طيب الملاءِ

وعن كعب قال: لما انكشفنا يوم أحد، كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرت به المؤمنين حيًا سويًا، وأنا في الشعب. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبًا بلأمته، وكانت صفراء، فلبسها كعب، وقاتل يومئذ قتالا شديدا، حتى جُرح سبعة عشر جرحا. قال كعب في رثاء حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله الذي استشهد في أحد([17]):

ولقد هددت لفقد حمزة هدةً  *   ظلّت بنات الجوف منها ترعدُ

ولوَ انه فجعت حراء بمثله * لرأيت رأسي صخرها يتبددُ

قرم تمكَّنَ في ذؤابة هاشمٍ * حيث النبوة والندى والسؤددُ

والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت * ريح يكاد الماء منها يجمدُ

والتارك القرن الكمي مجدلا * يوم الكريهة والقنا يتقصدُ

وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لبدة شئن البراثن أربدُ

عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك الموردُ

وأتى المنية معلمًا في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهدُ

وعن كعب، قال: يا رسول الله، قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل. قال: “إن المجاهد، مجاهد بسيفه ولسانه; والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل”([18]).

قال ابن سيرين: أما كعب، فكان يذكر الحرب، يقول: فعلنا ونفعل، ويتهددهم. وأما حسان، فكان يذكر عيوبهم وأيامهم. وأما ابن رواحة، فكان يعيرهم بالكفر([19]).

وقد أسلمت دوس فرَقًا من بيتٍ قاله كعب في قصيدة له([20]):

نخيرها ولو نطقت لقالت… قواطعهنّ دوسًا أو ثقيفا

عن ابن المنكدر، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: “ما نسيَ ربك لك وما كان ربك نسيًا بيتًا قلته”. قال: ما هو؟ قال: أنشده يا أبا بكر، فقال([21]):

زعمت سخينة أن ستغلب ربّها * وليُغلَبنّ مُغالِب الغلّابِ

وقد أنشد كعب عليا قوله في عثمان -رضي الله عنهم-([22]):

فكف يديه ثم أغلق بابه * وأيقن أن الله ليس بغافلِ

وقال لمن في داره لا تقاتلوا * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتلِ

فكيف رأيت الله صب عليهمُ * العداوة والبغضاء بعد التواصلِ

وكيف رأيت الخير أدبر عنهمُ * وولى كإدبار النعام الجوافلِ

 

3- عبد الله بن رواحة:

هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي أبو محمد، ويقال أبو رواحة، ويقال أبو عمرو، المدني، شهد بدرًا، وبيعة العقبة، وهو أحد النقباء، وأحد الأمراء في غزوة مؤتة، واستخلفه رسول الله على المدينة في إحدى غزواته، وبعثه إلى خيبر خارصًا. وكان عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، وكان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخا أبي الدرداء لأمه، وهو خال النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ([23]).

وقد أكرمه الله بالشهادة يوم مؤتة سنة ثمان من الهجرة، مع زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، فنعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قبل أن يأتيهم خبرهم وعيناه تذرفان([24]).

وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يَمْشِي وَهُوَ يَقُولُ:

خَلُّوا بَنِي الكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ

اليَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ

وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ)([25]).

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ صَائِمٌ، إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ)([26]).

وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال -وَهُوَ يَقُصُّ فِي قَصَصِهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ أَخًا لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ” يَعْنِي بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ([27]):

وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ… إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ

أَرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا… بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ… إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ

قال الحافظ ابن حجر([28]): “مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَطْرَدَ إلى حِكَايَةِ مَا قِيلَ فِي وَصْفِهِ فَذَكَرَ كَلَامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِمَا وُصِفَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ”.

وأنشد في غزوة الخندق([29]):

يا رب لولا أنت ما اهتدينا ==== ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا

فأنزلن سكينة علينا ==== وثبِّت الأقدام إن لاقينا

إن الكفار قد بغوا علينا ==== وإن أرادوا فتنة أبينا

ومن شعره في مدح النبي([30]):

إني تفرست فيك الخير أعرفه ==== والله يعلم أن ما خانني البصر

أنت النبي ومن يحرم شفاعته ==== يوم الحساب فقد أزرى به القدر

فثبت الله ما آتاك من حسن ==== تثبيت موسى ونصرًا كالذي نصروا

وأنشد في غزوة مؤتة فقال([31]):

أقسمت يا نفس لتنزلنه ==== طائعة أو لا لتكرهنه

فطالما قد كنت مطمئنه ==== ما لي أراك تكرهين الجنة

هل أنت إلا نطفة في شنة ==== قد أجلب الناس وشدوا الرنة

وقال([32]):

لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ==== وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا

أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ==== بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا

حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى ==== جَدَثِي أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا

رضي الله عن شعراء النبي صلى الله عليه وسلم وعن سائر صحابته، وعن كل مَن سار على منوالهم في نصرة الدين واتباع نهج سيد المرسلين.

 

==== الهوامش ====

 

([1]) أخرجه البخاري (4123)، ومسلم (2486).

([2]) أخرجه البخاري (3044)، ومسلم (1357).

([3]) رواه ابن عبد البر في الاستيعاب (ج1/ص٣٤١).

([4]) يُنظر: الحياة الأدبية في عصر صدر الإسلام، محمد عبد المنعم الخفاجي (ص330).

([5]) السيرة النبوية، ابن هشام (ج2/ص136).

([6]) طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي (ج1/ص257).

([7]) يُنظَر: الشعر في صدر الاسلام، شوقي ضيف (ص45-48).

([8]) طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي، (ج1/ص٢١٥).

([9]) ديوان حسان، (ص20).

([10]) يُنظَر: أسد الغابة، لابن الأثير (ج2/ص6). والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر (ج2/ص55).

([11]) ديوان حسان (ص54).

([12]) المصدر نفسه (ص 19-20).

([13]) ديوان حسان (ص135).

([14]) يُنظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، (ج2/ص524).

([15]) معجم الشعراء، المرزباني (ج1/ص٣٤٢).

([16]) ديوان كعب بن مالك، شرح وتحقيق مجيد طراد، (ص20-21).

([17]) المصدر السابق نفسه (ص35-37).

([18]) سير أعلام النبلاء، الذهبي (ج2/ص525).

([19]) المصدر السابق.

([20]) المصدر السابق نفسه.

([21]) المصدر السابق (ص526).

([22]) ديوان كعب بن مالك، شرح وتحقيق مجيد طراد، (ص91-92).

([23]) يُنظَر: الطبقات الكبرى، ابن سعد (ج3/ص398). البداية والنهاية، ابن كثير (ج6/ص456). وسير أعلام النبلاء، الذهبي (ج2/ص90). والإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر (ج4/ص75).

([24]) رواه البخاري (2798).

([25]) رواه الترمذي (2847) وصححه.

([26]) رواه البخاري (1945) ومسلم (1122).

([27]) رواه البخاري (1155).

([28]) فتح الباري (ج3/ص41).

([29]) الرحيق المختوم، للمباركفوري، طبعة دار الوفاء 2007، (ص269).

([30]) السيرة النبوية، لابن هشام، (ج2/ص374).

([31]) الرحيق المختوم، للمباركفوري، طبعة دار الوفاء 2007، (ص336).

([32]) السيرة النبوية، لابن هشام، (ج2 ص 374).

 

مقالات أخرى:

معارك الأثري الأدبية والفكرية

سيميائية الإيقاع الشعري

النقد وأثره في الأدب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى