مقالات

مصطفى جواد في رسائله إلى أنستاس الكرملي

مصطفى جواد
في رسائله إلى أنستاس ماري الكرملي

 

د. سعيد عدنان

كاتب وأديب وتربوي عراقي

 

قليلٌ مَن بلغَ مَبلغ مصطفى جواد في سعة الإحاطة بالتاريخ العربيّ الإسلاميّ، وباللغة العربيّة، وقليل مثله من أبناء القرن العشرين من يقف مع جِلّة القدماء في اللغة والتاريخ؛ فلا ينبو به موقف، ويجري معهم فلا تزلّ به قدم.

ولد مصطفى جواد في مطلع القرن، في سنة لا يستطيع أن يقطع بها، وهو المحقّق المدقّق؛ أهي سنة 1904، أو سنة 1906، أو 1908، أو هي سنة غير تلك السنوات، ممّا يدور حولها.

ومهما يكن من أمر سنة الميلاد؛ فقد ولد يقظ الذهن، ذا حافظة تكاد لا تُفلت شيئًا ممّا تسمع أو تقرأ، يحبّ المعرفة، ويروم الاستزادة منها، على الرغم من أنّ سنوات النشأة الأولى لم تجر بريح رُخاء، وربّما تلبّثت به في غير شأنه، ومالت به عن طريق طلب العلم. لكنّه سرعان ما يرجع إلى طريق المعرفة، ويستوي عليه منصرفًا عمّا سواه. ويتخرّج في دار المعلمين الابتدائيّة ليعمل معلّمًا، وليمضي مع سجيّته في البحث، والتنقيب، والوقوف على الأصول؛ ما كان مطبوعًا وما كان مخطوطًا، غير متوانٍ في بلوغ النائي الخفيّ منها.

ولقد كان من سبل المعرفة عنده مواصلة أعلام العصر؛ بزيارتهم، ومراسلتهم، وتبيّن ما لديهم. فكان من ذلك أن مدّ الأواصر بينه وبين الأب أنستاس ماري الكرملي.

كان الكرملي يومئذٍ علّامة جليل القدر، لا يُشقّ له غبار، قد أنشأ مكتبة كبيرة في دير الآباء الكرمليين ببغداد، واتّخذ من الدير مثابة له، يزاول منه كلّ شأنه؛ يدرس، ويتعبّد، ويؤلّف، ويعقد فيه مجلسه الأدبيّ، ويحرّر مجلّته (لغة العرب).

وكان مصطفى جواد، منذ أواخر العشرينيّات، قد وجد سبيله إلى دير الكرمليين، وإلى مكتبته، وإلى مجلس الأب أنستاس ماري الكرملي، وصار من أشدّ روّاده مواظبة؛ يفيد من المكتبة، مطبوعها ومخطوطها، ويفيد من المجلس وأحاديثه، ويحاور الآخرين، ويردّ بعض ما يذهبون إليه فاتسعت معرفته، وقويت حجّته، وتكاملت ملكة النقد عنده.

ثمّ أخذ ينشر أبحاثه في (لغة العرب) متقصيًا الشوارد في التاريخ واللغة؛ مستدركًا ومعقبًا على كبار الكتّاب يومئذٍ حتّى عُرف اسمه، ولمع نجمه وهو لمّا يبلغ الثلاثين من عمره.

أراد مصطفى جواد سعةً في العلم، ورغب في تعلّم الفرنسيّة وإتقانها، وبدت باريس في متناوله فاتّجه في سنة 1933 إلى مصر، وبقي فيها سنة، أو ما يقرب من السنة، يتعلّم مبادئ الفرنسيّة، ويستمع إلى دروس في كليّة الآداب، ويتّصل بأدباء مصر، ثمّ يقصد باريس، وينتظم في جامعة السوربون، ولكنّه ليس كغيره من الطلبة؛ فهو طالب في جانب، وعالم يفيد منه المستشرقون في جانب آخر؛ فلقد رسخت قدمه في التاريخ الإسلامي، واللغة العربيّة؛ هذين الميدانين اللذين ظلّا يتساوقان في حياته، وبقي، ما عاش، مرجعًا ثبتًا فيهما.

وأُتيحت له في باريس مكتبة أخرى كتلك التي كانت له في دير الكرمليين، وأُتيح له عالِم يشبه صاحبه الكرملي الذي كان في بغداد؛ ذلك العالِم هو الميرزا محمّد القزويني، وتلك مكتبته.

كان القزويني قد اتّخذ باريس دار إقامة قبل مجيء مصطفى جواد بسنين، وقد وجد فيه المستشرقون نافذة يطلّون منها على الشرق وحضارته، إذ كان حسن العلم بالعربيّة والفارسيّة مثلما كان حسن العلم بالفرنسيّة والإنگليزيّة.

لقد أفاد مصطفى جواد من الميرزا القزويني ومكتبته، وانتسخ من مخطوطاتها شيئًا كثيرًا، واستكمل منها ما لم يجده في غيرها.

ولمّا أراد أن يكتب أطروحته الْتمسَ لها موضوعًا من التاريخ العبّاسي قلّ مَن طَرقه؛ فكتب عن: الخليفة الناصر لدين الله وسياسته؛ وهو خليفة امتدّت خلافته زمنًا طويلًا، وكان حازمًا حسن السياسة؛ على الرغم من مجيئه في أُخريات زمن الدولة العبّاسيّة.

أتمّ عمله قبيل أن تدهَم العالمَ الحربُ الثانيةُ، فلمّا وقعت عاد إلى بغداد بزادٍ موفور من اللغة والتاريخ وما يتّصل بهما، وبلغة فرنسيّة أتقنَها.

ثمّ التحق بدار المعلمين العالية يدرّس اللغة، ويكتب في ما يتّصل بها، ويكتب في التاريخ، ويحقّق الأمكنة، والمواضع في بغداد العبّاسيّة؛ وليس مثله مَن ملأ يده من خطط بغداد وقال فيها بعلم رصين وثيق؛ إنّه عالم اللغة المؤرخ، ومنزلته في التاريخ لا تقلّ عن منزلته في اللغة!

كان، مع مزاولته البحث الرصين، يقول الشعر في ساعة أُنس، أو ساعة ضيق، ولكنّه شِعر العلماء؛ كالذي قاله رجال اللغة والنحو من قبل؛ نصيبه من الشعر: استقامة الوزن، وفصاحة اللفظ، وصحّة المعنى، أمّا توقُّد العاطفة، وجُموح الخيال، وابتكار المعنى، فأشياء نصيبه ضئيل منها.

وكان يكتب الرسائل لمَن بينه وبينهم مودّة أو صلة؛ يكتبها أحيانًا على نحو من التفصيل. فلقد جرت مراسلات بينه وبين الكرملي منذ سنة 1928 حتّى سنة 1938، إذ راسله وهو في دلتاوة، ثمّ وهو في القاهرة، ثمّ وهو في باريس؛ فلمّا رجع إلى بغداد عادت المُجالسة تغني عن المراسلة.

ورسائله هذه كلّها ثلاث وثلاثون رسالة، نشرها الدكتور محمّد حسين الزبيدي في سنة 2011.

كانت الرسالة الأولى قصيرة، ثمّ أخذت الرسائل تطول إذ جعلت تنطوي، زيادة على التحيّات وبثّ الأشواق، على أمور تتّصل بأحواله حين هبط القاهرة، ثمّ باريس، وعلى عنوانات مقالات وبحوث كان قد كتبها، وأرسلها إلى النشر في المجلّات، وتنطوي أيضًا على ما جرى بينه وبين الأدباء الذين حاورهم، أو قرأ كتبهم، ونقدهم عليها.

لقد كان مصطفى جواد رقيق الحاشية في مخاطبة الكرملي، لكنّه حين يتحدّث عمّن اختلف معهم تغلُظ كلماته وتقسو.

وكلّ رسائله تنبئ عن وثوق بما لديه، وتيقّن من صواب معرفته وسعتها. ولقد جاءت كلّها على شرط الفصاحة الرفيعة، وربّما اقتربت بعض ألفاظها من الغرابة التي يحبّها مصطفى جواد، ويأنس بها؛ إذ يرى أنّ على الكُتّاب أن يعيدوا الحياة لما أُهمل من الألفاظ.

وإنّ قارئ الرسائل ليجد فيها عِلمًا غزيرًا، ورغبة صادقة في التحقّق والتثبّت، وإنّه ليقرأ فيها صفحة أخرى من صفحات هذا العلّامة الجليل الذي ذهب من دون أن تتمّ الفائدة منه على ما ينبغي أن يكون.

يقول الدكتور علي جواد الطاهر في الحفل التأبيني بعد مرور أربعين يومًا على وفاة مصطفى جواد: (أمّا مصطفى جواد فليس كنزًا بهذا المعنى المادّي، وبهذا المفهوم الضيّق، إنّه كنز ضاع دون أن يستثمَر، وتبدّد قبل أن يستنفَد. لقد ذهب الرجل وذهب الكنز معه، ولا يمكن في هذه الحال ردّ الفائت وتعويض الخسار).

نعم إنّه كنز قليل النظير…

 

 

اقرأ أيضًا:

فضيحة دار ألكا: مسرح الكتب الوهمية

جعفر ضياء جعفر رائدًا

رحلة أربعة أعوام مع العلامة محيي هلال السرحان

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى