حروف المعاني من الحذف إلى اطراد الظاهرة

حُروفُ المَعَانِي
مِنَ الحَذفِ إلىٰ اطِّرادِ الظَّاهرةِ
محمد حمدي الشعار
أديب وباحث مصري
هُنالِكَ تأصيلاتٌ لا يقومُ عِلمُ الإعرابِ إلَّا بِها، ومِن بينِها القاعدةُ الأُصوليّةُ الّتي اعتمدَها النُّحاةُ فِي إعطاءِ البابِ حُكمًا واحدًا؛ طردًا للقاعدةِ، وَنَقفُ علىٰ ذلكَ فِي جُلِّ الضّوابطِ النّحويةِ فِي شَتَّىٰ الأبوابِ، مِن حيثُ جعلُوها قاعدةً عامَّةً تُؤسسُ لفكرٍ نَحويٍّ توافُقيٍّ بِنَجوَةٍ عَنِ الخِلافِ إلَّا فِي أقلِّه. ومِن طَردِهم للقَاعِدَةِ، حُكمُهم بعدمِ عملِ الحرفِ -مِن حُروف المَعاني– أَصالةً إلَّا إذَا اختصَّ([1]).
واختصَاصُ الحرف يعني: استقلالُه بالعملِ في الفعلِ وحدَهُ، أو في الاسمِ وحدَهُ، أمَّا مَا لَيسَ يَختصُّ بدخولِهِ علىٰ أَيِّهما، فلا يعملُ فِي واحدٍ منهما شيئًا، ولَم يعمَل حرفُ العطفِ، ولا حرفُ النّفي، ولا حرفُ الاستفهامِ لذلك السببِ، واختُلفِ فِي (حَتّىٰ) علىٰ مذاهب، والرّاجحُ أنَّها حرفُ جرٍّ تعملُ في المضارعِ المُنسبِكِ مِن (أن) والفعلِ جرًّا، لبقائِها علىٰ أصلِ استعمالِها في الدلالةِ علىٰ الغايةِ([2]).
كما أنّ الأصلَ في الحَرفِ ألّا يُحذَفَ، والقِيَاسُ: أَلَّا يجوزُ حَذفُ الحُرُوفِ ولَا زِيادَتُهَا، ومعَ ذلك فَقَد حُذِفَتْ تارةً، وزِيدَتْ أُخْرَى([3])؛ وَمَدعَاةُ عَدمِ جَوَازِ حَذفِها أنَّ الحَذفَ فِي الحُروفِ إجحافٌ، فالحروفُ أبعاضُ المَعاني التي جئ بها اختصارًا لها، وحذفُ الحرفِ بعدَ اختصارِ المعنىٰ المدلولِ بهِ عليهِ كـ(أعطِف، وأستفهِم، وأُضيفُ…) مِن قَبيلِ التعسُّفِ([4])، إلّا لِدَاعٍ وقرينةٍ دالّةٍ علىٰ مَوضعِ الحَذفِ، ومبيِّتةٍ نوعَ المحذُوفِ، ومُبرِزَةٍ باعثَ الحذفِ([5])، ومن ثَمّ لا يحوزُ الحذفُ إلّا لغايةٍ باعثةٍ علىٰ الحَذفِ، ودلِيلٍ عَلَيهِ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ ضَربٌ مِن تَكليفِ عِلْمِ الغيبِ في مَعْرِفَتِه([6]).
حُروفُ المَعَانِي في الحَذفِ ضَربَانِ:
1- ضربٌ يُحذَفُ علىٰ حِدتِه، أي: لا يُصاحبُه مدخولُه في الحذفِ، كَحذفِ الجارِّ معَ بقاءِ عملِه، في نحوِ قولِه تعالىٰ: ﴿وَتَرْغَبُوْنَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ [النساء:127]، فالآيةُ علىٰ تقديرِ جَارٍّ سابقٍ علىٰ (أن) عَاملٍ فِيهَا وفِي الفعلِ الدّاخلةِ عليهِ الجرَّ، وتقديرُ الكلامِ معَهُ: تَرغَبُونَ فِي نِكَاحِهِنَّ؛ لِجَمالِهِنَّ، أو تَرغبُونَ عَن نِكَاحِهِنَّ؛ لِدَمَامَتِهِنَّ، عَلَى الخِلافِ فِي المُقدَّرِ([7])، وكَحذْفِ النّاصبِ في أمثلةِ المُضارعِ المنصوبِ بِـ(أنْ) مُضمرةٍ وجوبًا أو جوازًا، وأمثلتُه فِي فَصِيحِ الكَلَامِ كَثِيرةٌ.
2- ضَربٌ يُحذَفُ معَ مَدخولِه، كَحَذفِ العاطفِ وبقاءِ عَملِهِ، والأصلُ في الجرِّ والعطفِ أن لّا يُحذفَ الجارُّ إلَّا معَ مجرورِه، ولا العاطفُ إلّا معَ المعطوفِ عليه؛ لأنّ الجارَّ مِن مجرورِه، والعاطفَ مِن معطوفِه بمنزلةِ الحرفِ مِن الكلمةِ، والكلمةِ مِن التّركيبِ، فلا يقومُ أحدُهما بِدُونِ صِاحِبِه، فكانَ الأصلُ أن لّا يُحذَفَ أحدُهما دونَ ما دخلَ عليهِ طَردًا للبابِ، لاسِيّما أنّهم أبَوا توكيدَ الحرفِ بإعادتِه من دونِ مدخولِه، فكانَ إباؤُهم علىٰ حذفِه بِدونِ مدخولِه أولىٰ.
مذاهب النّحوِيّينَ فِي حذفِ العاطفِ مِن عَدمِه:
– مذهبُ البصريين:
عدمُ جوازِ حَذفِ العاطفِ إلّا في ضرورةٍ، فَلا يُحذَفُ عِندَهم لا مُستَقِلًّا، ولا معَ مدخولِه، وأيّدَه سيبويهِ، وهُو مَذهبُ ابنِ الحَاجبِ، فَحُروفُ الْعَطفِ عِندَهُ لَا تَتنَزَّلُ مَنزلَةَ حُروفِ الجَرِّ فِي قِياسِيَّةِ الإسقاطِ([8]).
– مَذهبُ الكُوفيِّينَ:
جوازُ حَذفِ العاطفِ مُستَقِلًّا، ومعَ مدخولِه، بِلا قيدٍ، وأبَاهُ مِنهم الفرّاءُ، وَمِمَّا لَا يَجوزُ فِيهِ حَذفُ العَاطفِ بِاتِّفاقٍ أُسلوبُ التَّحذِيرِ، من نَحوِ: إِيَّاكَ وَزَيْدًا؛ لِأنَّ الواوَ أَغنَتْ عَن الفِعلِ العامِلِ فِي الضَّميرِ (إِيَّاكَ) نَصبًا، فَلَا يَجُوزُ إسْقاطُ العوضِ والمُعَوَّضِ مِنهُ؛ لِانتفاءِ القَرينَةِ الدَّالَّةِ علَى المَحذُوفِ([9]).
– مَذاهبُ مُنفردةٌ:
ابن جنّي: يؤيّدُ حذفَ العاطفِ معَ مدخولِه، وبدونِه، ويَحكِي عَنِ العَرَبِ: “أَكلْتُ لَحمًا، سمكًا تَمرًا”، علىٰ حذفِ العاطفِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مَعَ مَا عُطِفَ بِهِ، ولَم يُجِز حَذفَ المعطُوفِ دُونَ العَاطفِ في كلامٍ فصِيحٍ إلَّا لِضرورةٍ، كَقولِ الشَّاعرِ([10]):
|
قَدْ وَعَدَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو أَنْ تَـــ
|
** |
ــدْهِنَ رَأْسِي، وتُفَلِّينِي، وَ…
|
وقَد جَوَّزَ أبُو حيَّانَ حَذفَ العاطِف دُونَ ما عُطِفَ بِهِ، اسْتِدلَالًا بِقَولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿اْضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ﴾ [البقرة:60]؛ لِأنَّ تَقديرَ الكلَامِ – فِي غَيرِ القُرْآنِ -: فَضَربَ، فَانْفَجَرَت، فَحُذِفَ العَاطِفُ (فَـ) مَعَ مَدخُولِهِ (ضَرَبَ)، اقتِصَارًا عَلَى مُفَسِّرِه (اضْرِبْ)([11]).
ولابنِ عُصفورٍ في تقديرِ الحَذفِ مَذْهبٌ مُخالِفٌ، فَهُوَ لَا يُجِيزُ حَذفَ العَاطفِ مَعَ مَا دَخَلَ عَلَيهِ، بَل يَجعَلُ المحْذُوفَ مِن نظائرِ هَذَا التّركيبِ المَعطوفَ بالفاءِ وحدَهُ، وهُو فِي الآيَةِ الفِعْلُ (ضَرَبَ)، أمَّا حَرفُ العَطفِ (الفَاءُ)، فَهُو المُستَقِرُّ فِي المَعطُوفِ (فَانْفَجَرَتْ)([12]).
وَيغَلَطُ اَبُو حَيَّانَ فِي نَسبَةِ الرّأيِ بِعَدمِ جوازِ حَذفِ العَاطفِ مَعَ مَدخُولِه لِابنِ جِنِّي، وهُوَ مِنَ الوَهمِ([13])، وَقَد ثَبَتَ بِالبُرهَانِ إجازَةُ ابنِ جِنِّي حَذفَ العَاطفِ والمعَطُوفِ عَليهِ فِي النّصُوصِ الآنِفَةِ، وكَذا تَردَّدَ فِي نِسبَةِ إجَازَةِ ابنِ عُصفورٍ حَذفَ حَرفِ العَطفِ مِن عَدمِها، فَتارَةَ يَزعُمُ أنّهُ أَجَازَ، وَاُخرَى يُؤْذِنُ بِعَدَمِ إجَازتِه ذلِكَ.
ومِمَّا يُحمَلُ فِيهِ الكَلَامُ عَلَى إسْقَاطِ العَاطفِ والمَعطوفِ عَلَيهِ، مَا جاَءَ مِن نصِّ الحَدِيثِ، عَن أسْمَاءَ بِنتِ أبِي بَكرٍ: “أَتَتْنِي أُمِّي رَاغبةً…”([14])، فَفِي تَوجِيهِ (رَاغِبَةً) مَذهَبَانِ: أحَدُهُما، نَصبُ (رَاغِبَةً) حَالًا، وهُو ظَاهِرٌ، والآخَرُ، رَفعُ (رَاغِبَةٍ) خَبَرًا لِمُبتدَا مُسْقَطٍ، وَتقدِيرُ الكَلامِ مَعَهُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ([15]).
ومِنَ ثَمَّ يَكُونُ حَرفُ العَطْفِ (وَ) مَحذُوفٌ مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيهِ، وهُوَ الضَّميُر (هِيَ)، ولَا يَسُوغُ تَقدِيرُ رَفْعِ (رَاغِبةٍ) خَبرًا لِمحذُوفٍ إلَّا بِتَقدِيرِ العَاطفِ مَحذوفًا مَعَهُ؛ إِذْ لا يقومُ المعنىٰ في هَذَا التّركيبِ إلّا بحرفِ العطفِ مذكورًا أو محذُوفًا، وكانَ الأولىٰ أن يتوقّفَ عندَ إعرابِ (راغبةً) حالًا، دونَ التّطرّقِ لهذا الافتراضِ؛ لاعتمادِه علىٰ الحذفِ والتقديرِ، والحذفُ والتقديرُ مِمّا لا يُصارُ إلَيهِ إلّا عندَ تعذُّرِ الحملِ علىٰ اللفظِ أو المحلِّ.
– الرّأيُ الراجح:
ألّا يُحكَمَ بجوازِ حذفِ العاطفِ مُستقلًّا أو معَ مصحوبِهِ إلّا إن دلَّ علىٰ ذلك دليلٌ، وقامت به الحُجّةُ مِن السماعِ عن العربِ، وتواترت البراهينُ علىٰ كثرةِ استعمالِه، وأمّا ما جاءَ في حكايةِ ابنِ جنّي عن بعضِ العربِ، فيحتملُ أن يكونَ لبعضِ العربِ دونَ بعضٍ، والحملُ علىٰ مثلِ ما جاءَ به ممّا لا تقومُ بهِ الحُجّةُ، لندرتِه، وحكايتِه آحادًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) موفق الدين ابن يعيش الحلبي، شرح المفصل في صنعة الإعراب للزمخشري، تح: د. إميل بديع يعقوب، بيروت، ط!، 2001، 1/243
([2]) أبو حيان أثير الدين محمد بن يوسف، ارتشاف الضرب من لسان العرب، تح: د. رجب عثمان محمد، القاهرة، ط1، 1998، 4/1663
([3]) أبو الفتح عثمان ابن جني، الخصائص، تح: د. محمد علي النجار، القاهرة، ط1، 2001، 2/282
([4]) ابن يعيش، شرح المفصل، مرجع سابق، 4/453
([5]) ابنُ هشام الأنصاري، مُغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، ط1، 1991، 2/692
([6]) ابن جني، الخصائص، مرجع سابق، 2/362
([7]) المنتجب الهمذاني، الفريد في إعراب القرآن المجيد، تح: محمد نظام الدين الفتيح، المملكة العربية السعودية، ط1ن 2006، 2/95
([8]) عثمان بن عمر بن أبي بكر جمال الدين بن الحاجب، أمالي ابن الحاجب، تح: د. فخر الدين قدارة، الأردن – بيروت، ط1، 1989، 2/686
([9]) ابن الحاجب، الأمالي، مرجع سابق، 2/686
([10]) ابن جني، الخصائص، مرجعٌ سابقٌ، 1/292
([11]) أبو حيان الأندلسي، ارتشاف الضرب، مرجع سابق، 4/2018
([12]) أبو حيان الأندلسي، ارتشاف الضرب، مرجعٌ سبق، 4/2018
([13]) أبُو حيان الأندلسي، ارتشاف الضرب، مرجع سابق، 4/2018
([14]) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، تح: جماعة من العلماء، حديث رقم : (5978)، بيروت، ط1ن 1422 هـ، 8/4
([15]) أبو محمد محمود بن أحمد بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، تح: جماعة من العلماء، بيروت، ط1، 1999، 13/174
اقرأ أيضًا:
أَنْوَاعُ المَعَانِي وَنَظَرِيَّاتُ دِرَاسَةِ المَعْنَى -دِرَاسَةُ حُرُوْفِ المَعَانِي أُنْمُوذَجًا-



