استشراف النصر في أحداث غزة

“غزة مدرسة العزة”
استشراف النصر في أحداث غزة
كثيرًا ما قرأنا عن سيرة المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم ممن سطروا ملاحم النصر والعزة، فضلًا عمّا شاهدناه في شاشات التلفاز من أفلام ومسلسلات تاريخية علّها تقرّب صورة تلك البطولات وتحفّز فينا ذاكرة المجد التليد.
وها هو التاريخ يعود شاهدًا مرة أخرى بالصوت والصورة ليسجل قصة العزة التي خطتها دماء المرابطين في سبيل حفظ العقيدة وليبقى المسجد الأقصى -أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين- شاخصًا صامدًا في وجه الغزاة المغتصبين.
ونحن إذْ نعيش ونتابع أحداث العدوان الصهيوني المجرم على غزة الصابرة الصامدة، ترجع بنا الذاكرة إلى أحداثٍ تلت وخلت من السلوك الوحشي والهمجي الذي لا يمتّ إلى الإنسانية بِصِلة، في العدوان المتمثل بالحملات الصليبية التي أرادت أن تقضي على الوجود الإسلامي، واغتصاب مقدسات المسلمين تحت ذرائع شتى، وكيف نجح المسلمون في صد ذلك العدوان، سواء بما قام به سلاجقة الروم والأيوبيون، مرورًا بالمماليك، الذيم أجبروا الصليبيينَ على التقهقر وجر أذيال الهزيمة.
ولعل القرآن العظيم هو خير من يخبرنا بوعد الله الناجز، ونصره المتحقق، وكيف أنّ آياته تصوّر لنا طبيعة المعركة الدائرة بين الحق والباطل، نستشفّ منها استشراف النصر للقلة المؤمنة التي ترابط وتجاهد لتحقيق أمر الله تعالى:
1ـ مشروعية الدفاع عن النفس وقتال المعتدين: طال المسلمين من أذى قريش الكثير، حتى أذن الله لهم بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وكذا الحال بالنسبة لأهل غزة في أحقيتهم بالدفاع عن النفس نتيجة العدوان الصهيوني المتكرر، فقد آمنوا بمشروعية قضيتهم وأن لا مجال للقعود.
2ـ عدم الالتفات إلى المثبطين والمرجفين في زعزعة النفس عند مواجهة العدو الغاصب: ذمَّ القرآن العظيم في عدد من آياته الكريمة موقف المُنافقيـن والمرجفين ومَن على شاكلتهم، في مواجهة العدو وقتاله ، وهذا ما فقهه أهل غزة، وكأنّ لسان حالهم يقول للمثبطين المرجفين في الدفاع عن النفس ومقدسات المسلمين: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
3ـ تصحيح التصوُّر الخاطئ في مفهوم قوة العدو: لقد صحح القرآن العظيم المفاهيم بل أبطل النظريات القائلة بعدم هزيمة العدو المتغلب، فكان موقف الصحابة رضوان الله عليهم سليمًا في التعامل مع هذه الآية، وكذا الحال بالنسبة لأهل غزة للذين قالوا إنّ جيش المحتل لا يُغلب ولا يُهزم، ولعل المشهد القرآني يصور تلك الحالة: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ • قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62].
4ـ قضية العدد والمبالغة في تضخيمه على حساب الجانب الإيماني: هذا الأمر يؤدي الى خلخلة المفاهيم والابتعاد عن جادة الصواب، فالعدد لا يساوي شيئًا في ميزان الحق، لأنّ الإيمان بالله تعالى وبوعده ونصره هو الفيصل: {قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]؛ فالتعايش مع القرآن العظيم يصحح المفاهيم والأفكار، ويعطينا الدروس في كيفية التعامل مع الأحداث التي لم تجرِ عبثًا، بل وفق قوانين الكون.
5ـ تَجاوُز الأسباب المادّيّة: يذكرنا موقف أهل غزة بأحداث غزوة بدر التي تجاوزت كل الأسباب المادية وتعلقت بمسبب الأسباب، لتعطي درسًا في الإيمان الحقيقي بالله تعالى، وتقديم ما هو مطلوب بعيدًا عن النتائج: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]. وكذلك الحال في غزوة حمراء الأسد التي عبّرت عن حال المسلمين وتلبيتهم نداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أراد أبو سفيان حينها الإجهازَ على المسلمين، فكان لسان حال المسلمين: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]. فلم يكن فيهم سقيم الرأي ولا متخاذل أو مرجف، على الرغم من أنهم خرجوا من غزوة أُحد منهَكين، وحصل لهم ما حصل من جراح وقتل وتمثيل.
6ـ لقد علمتنا أحداث غزة أنّ تلاوة القرآن العظيم ليست مجردة من معاني التدبر: فالآيات تعيش مع المجاهدين بكل تفاصيلها: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، فلم تكن هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات مجرد تلاوة، بل يعيشون معها ويفقهوها إلى درجة شعورهم بأنهم هم المخاطَبون.
7ـ حتى الأطفال نجدهم قد تشبعوا برضاع معاني القرآن العظيم: فَهُم مدركون لخطر الكيان الصهيوني الغاصب وحقيقة الصراع الدائر بين الحق والباطل، فيتحدثون بكل إيمان، وبعقيدة ثابتة، بلا جزع ولا خوف، وحتى النساء تذكّرنا بالخنساء وهي تدفن أولادها… بل حتى عجائزهم يشرحنَ لنا حقيقة الإيمان بالله العظيم وقدره الناجز.
8ـ مصداق النبوءة المحمّديّة: فإنّ في أحداث غزّة مصـدقًا لقول رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- في وصـف الطائفة المؤمنة المتمسكة بالحق: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلّا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك». قالوا : يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».
9ـ وعد الله تعالى بالنصر والتمكين: سواء طالت المعركة أم قصرت، فإنّ وعد الله حقّ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُـونَ} [الصافات: 171ـ173]. فلا جزَع ولا استسـلام مِن قِبَل صاحب القضية، لأنه يقاتل بأمر الله ودفاعًا عن حرماته.
عمار مرضي علاوي
________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:




