مناضل حتى بعد موته

مناضلٌ حتّى بَعدَ موتهِ
بقلم:
أحمد خضر الحمداني
باحث في علم التاريخ، من العراق
دائماً عندما نقرأُ التاريخ نُشعرُ بحنينٍ إلى الماضي، لما فيه من بطولاتٍ وأعمالٍ إنسانية لا تُنسى. ومن الأشخاص الذين كان لهم أثرٌ كبيرٌ في نفوسنا في عصرنا هذا، إرنِستو «تشي» جيفارا، الذي أكتبُ عنه هذا المقالَ لتسليطِ الضوء على بطولاته وتفانيه في التضحية من أجل العدلِ وقَمعِ الباطل.
النشأة واكتساب الفكرِ
وُلِدَ بطلُنا في الأرجنتين يومَ 14 يونيو 1928 في مدينةِ روزاريو، لعائلةٍ ذات أصولٍ إسبانية وإيرلندية، تُعدُّ من البرجوازيات المتوسّطة. كلمةُ «تشي» إسبانيةٌ الأصلُ ومعناها «الرفيق».
منذ عمرٍ مبكرٍ كان يعاني من الربو، وكان ذلك أحدَ الأسبابِ التي قادته إلى دراسة الطبّ، كما أن موت جدته بالسرطان أثّرَ في وعيه الإنساني. أتمَّ دراسته الطبية في زمنٍ قياسيٍ إذ نجحَ في اختباراتٍ عدّةٍ خلال أشهر، وكان شديدَ الكراهية للنزعة البرجوازية التي تُقدّس المالَ فوقَ أرواح الناس.
تجوّلَ مع رفيقهِ ألبرتو (غرانادو) في دولِ أمريكا اللاتينية، وعملَ في وظائفٍ شتّى لتأمينِ نفقاتهما، ومن أشدِّ ما أثرَ فيه: عملُهُ في ملجأٍ للمصابين بالجذام، حيث شاهدَ التضامنَ الإنسانيَّ الحقيقيَّ. خالطَ الفقراءَ والطبقةَ الكادحة فتأثّرَ ودرَس مشقّةَ الناسِ عن كثب، وتدرّب على القسوةِ والمحنة استعدادًا لمواجهة الظلم.
كوبا: المحطّة الأولى
تخرَّجَ عام 1953 طبيبًا، لكنه لم يلتحق بوظيفةٍ روتينية، فاندفعَ إلى ميادينِ الصراعِ ضدَّ الاستبدادِ والإمبريالية. ذهبَ إلى غواتيمالا حيث شهدَ تدخلاتٍ مدعومةٍ خارجيًا، ثم توجهَ إلى المكسيك حيثِ التقى بفيديل كاسترو وتبنّيا رؤيةً ثوريةً مشتركةً لتحريرِ كوبا من حكمِ باتيستا.
انضمَّ جيفارا إلى حركةِ (26 يوليو)، ولبّى نداءَ الثورةِ رغمَ ارتباطه العائليّ وزواجه حديثًا. قادَ معاركَ ضدّ قواتِ النظام، وأصبحَ رمزًا للشجاعةِ والانضباطِ الثوري.
بعد نصرِ الثورةِ في 1 يناير 1959 تسلّمَ الثوارُ هافانا، وتولّى جيفارا مناصبَ حكوميةً مهمةً، منها إدارةُ البنكِ الوطنيّ، ثم وزارة الاقتصاد. لم تغيّرْه المناصب؛ بل ظلَّ ذا ضميرٍ إنسانيٍّ صارمٍ.
في أوقاتٍ لاحقةٍ اختلف مع بعض الخيارات السياسية التي اعتراها توجّهٌ بيروقراطي أو تبعيةٌ لدولٍ كبرى.
دماءٌ ثوريةٌ متجدّدة
زارَ جيفارا موسكو ونيويورك، وسافرَ إلى بلدانٍ عدةٍ داعمًا لقضايا التحرّر، واستحسنَ دعمَ الجزائر ودور نضالاتِ الشعوب العربية؛ فأشادَ بـالمقاومة الفلسطينيةِ كرمزٍ لنضال الشعوب ضدّ الظلم.
وبعد اجتماعٍ طويلٍ مع كاسترو قرّرَ أن مكانَه ليسَ في المكاتب، فتخلّى عن المناصبِ وتوجّهَ إلى الساحاتِ الثورية في أفريقيا، ثم أمريكا اللاتينية.
المحطةُ الأخيرة: نهايةُ البطلِ ماديّاً
في عام 1966–1967 انطلقَ جيفارا إلى بوليفيا مع عددٍ محدودٍ من الثوّارِ ليؤسّسَ بؤرةً ثوريةً هناك. واجهَ ظروفًا قاسيةً: نقصًا في الإمدادات، ودعمًا أجنبيًا للحكومة البوليفية، وخيانةً محليةً في بعض الأحيان.
في 9 أكتوبر 1967 أُلقي القبض عليه في قريةٍ تُسمّى «لاهيغيرا»، ونُفّذ فيه حكمُ الإعدامِ لاحقًا. حاولَ الأعداء أن يثبتوا موتَ أيقونةِ الثورة بصورةٍ علنيةٍ، لكنَّ شعلةَ فكره لم تُطفأ.
نُقِلَ رفاته لاحقًا، وعرَف العالمُ مصيرَه، فاحتُفلَ بنقْلِها إلى كوبا موكبًا يليقُ بمن عاشَ من أجل قومٍ لم تولد أمّتهم بعد. قالَ ذاتَ مرةٍ لوالدته: «لا تحزني يا أمي إن متُّ في غضِّ الشباب، غدًا سأحرّك أهلَ القبور وسأجعلُها ثورةً تحتَ التراب».
معنى الاستمرارية
((حاولوا دفنَنا، ولم يدروا أننا بذورٌ تنبتُ أشجارًا بعد الدفن))
تشيُّ جيفارا لم يُخسَرْ بموته؛ فقد صار فكرةً تُلهِمُ الملايينَ، وصوتَ المستضعفينَ في كلِّ مكان. ليس السيفُ وحدهُ ما يُغيّرُ التاريخَ، بل الإرادةُ التي تُشكّلُ وعيَ الإنسانِ وتدفعُه للتضحيةِ في سبيلِ كرامته.
خلاصة
لقد جاوزَ (إرنستو “تشي” جيفارا) كونه طبيب حملَ السلاح، حين أصبح ضميرًا حيًّا يقاوم الظلمَ أينما كان.
آمنَ بأنّ الثورة لا تتعلق بالحدود الجغرافية، وإنما هي موقفٌ إنسانيّ ضدّ أي استبداد.
جالَ بين الأوطانِ مقاتلًا ومُفكرًا، فصار رمزًا عالميًّا للنضال من أجل الكرامة.
اغتيل جسدُه في بوليفيا، ولكنَّ فكرَه بقي شامخًا ثائرًا لا يُقهر.
وحينَ حاولوا دفنَه، أنبتَت الأرضُ مِنهُ ألفَ مناضلٍ جديد.




