فضيحة دار ألكا: مسرح الكتب الوهمية

فضيحة دار “ألكا”:
كيف تحوّلت المعارض إلى مسرحٍ لكتبٍ وهمية؟
صادق الطائي
كاتب وصحفي عراقي، مختص بالعلوم الاجتماعية
مَن يتأمل مشهد النشر العراقي خلال الأعوام الأخيرة سيصطدم بفضيحة لا تشبه أي خلل مهني معتاد، بل تتجاوز حدود الأخطاء الطباعية وسوء الترجمة إلى مستوى صادم من التضليل الثقافي المتعمَّد. فقد تسربت إلى السوق العراقية، عبر دار ألكا للنشر -التي تديرها الأكاديمية د. فاطمة بدر- مجموعةً كبيرة من الكتب التي روَّج لها شقيقُ مديرة الدار الروائي العراقي علي بدر على صفحته في الفيسبوك ، وقد اتضح بعد فحصها النصّي والفهرسي أنها مؤلفات وهمية بالكامل، تحمل أسماء مؤلفين غير موجودين، وتُسنَد إلى مترجمين لا أثر لهم، وتَعرض نصوصًا تبدو في غالبها مكتوبة بالذكاء الاصطناعي AI، ثم تُطرح للقارئ بوصفها “مَراجع موثوقة” أو “ترجمات لكتب أجنبية نادرة”.
بعدَ التحليلات المعتمِدة على مراجعة كتب مثل “عاصفة ستالين؛ كيف قتل ستالين رفاقه”، و”الحسن الصباح؛ قراءة جديدة في السيرة والتاريخ”، و”الدولة الفاطمية من السر الى الدعوة”، و”الإمبراطورية الصفوية: كيف غيّرت الشرق الأوسط إلى الأبد”، و”أبو العباس السفاح؛ شريعة الدم في التأسيس السياسي للدولة في الإسلام”، و”هتلر والنساء”، و”فضائح الأدباء الجنسية”، و”فيلم إيمانويل 1974″، و”الصحفي النيويوركي”، ظهرَ أنّ القاسم المشترك بين هذه العناوين جميعًا هو غياب أي وجود حقيقي للمؤلفين الذين تُنسب إليهم العمل.
أسماء مثل (أنا ريابوفا)، و(ريكا هيغيدوش)، و(ألان بادرسن)، و(إيلي فون بادربن)، و(شانون شميت)، و(جوني روندن)، و(باترك فرهالست)، و(إليزابيت شتاينر)، لا نجد لها أي حضور في سجلات المؤلفين العالمية، ولا في قواعد بيانات الدوريات، ولا في أرشيف الجامعات، ولا حتى في الظهور البسيط الذي يتركه أي مؤلف هامشي في شبكة الإنترنت.
وبعض الأسماء تبدو مصنوعة بطريقة بدائية، أو مكتوبة بتركيب لغوي لا يتناسب مع اللغات التي يُفترض أنّ أصحابها ينتمون إليها. وحتى حين يظهر اسم حقيقي مثل (ديفيد برايس–جونز)، فإنه يُستغلّ لتمرير كتاب بعنوانٍ لا علاقة له بمؤلّفه الأصلي.
الأمر ذاته ينسحب على المترجِمين. فبعض الكتب جاءت غفلًا من اسم المترجِم، أما الأسماء التي ظهرت على الأغلفة بصفات “دكتور” أو “باحث”، مثل: د. مجد مسعد، د. شيار حسن، جوزفين عاقل، أو غيرهم، فلا وجود لها في أي سجل للترجمة أو في الأوساط الأكاديمية أو المهنية. إنهم ببساطة مترجمون وهميون، لا تُعرف لهم سيرة ولا أعمال أخرى ولا حضور علمي.
ويزداد الأمر وضوحًا حين نقرأ ما يفترض أنه “نَصّ مترجَم”، فلا نجد أي أثر لروح الترجمة أو بِنيتها أو خصوصيتها الأسلوبية، بل نجد نصوصًا عامة ومسطّحة، مكتوبة بلغة إنشائية أقرب إلى إنتاج النماذج اللغوية الميكانيكية، خالية من الإحالات المرجعية والمصادر، ومليئة بالأخطاء المفهومية التي لا يمكن أن تصدر عن مترجِم حقيقي يعمل على كتابٍ صادر أصلًا عن مؤلف حقيقي.
إن مراجعة هذه الكتب تكشف أن النصوص لا تعود إلى أي مؤلف أجنبي، بل يُعاد إنتاجها عربيًا بطريقة تفتقر إلى المنهج، وتُبنى على معلومات مختلَقة أو مجتزأة أو بلا سياق. ففي كتاب “عاصفة ستالين” مثلًا، نجد سردًا مشوشًا لا يشبه الأدبيات التاريخية الروسية أو الغربية.

وفي “الحسن الصباح” و”الدولة الفاطمية” و”الإمبراطورية الصفوية”، نجد استرسالًا في معلومات غير موثقة لا يمكن إسنادها لأي مرجع أكاديمي.

أما “فيلم إيمانويل 1974” فمكتوب بنبرة عربية لا تمت بصلة لكتابات النقد السينمائي في أوروبا.

كما أن الكتاب الخاص بالصحافة “الصحفي النيويوركي” فيسقط سقوطًا فاضحًا حين يخلط بين مؤلفه المفترض هاملتون هولت وبين تشارلز ديكنز، الذي وُضع اسمه باللغة الانجليزية على الغلاف خطأً مع عنوان روايته الشهيرة “الأزمنة الصعبة”، في واحدة من أكثر علامات التزوير وضوحًا وسذاجة.

ولا تتوقف الفضيحة عند مستوى النص والمؤلف والمترجم، بل تمتد إلى تفاصيل النشر. فجميع الكتب تحمل أرقام ISBN غير مسجلة في قواعد البيانات الدولية، ما يعني أن هذه الأرقام مصطنعة، وأن الكتب بلا هوية قانونية.
كذلك لا يوجد أي أثر لجهة أجنبية يُفترض أن الكتب مترجمة عنها، ولا عنوان أو تاريخ إصدار أو دار نشر أجنبية أصلية.
وما يزيد الشبهة هو استعمال شعار مكرر على أغلفة الكتب باسم “TIVOLI” أو “قصص ترفولي”، وهي تسمية تعود لدار نشر معروفة في بلجيكا ، لكن عند البحث في اصداراتها لن تجد كل هذه العناوين ضمن مطبوعات هذه الدار، ويبدو أن وضع اسم دار نشر فعلية، هو مجرد واجهة اسمية تُضاف إلى الأغلفة لإعطاء إيحاء بأن الكتاب مترجَم عن مصدر أوروبي. وهذا النمط من الاختلاق – مؤلف غير موجود، ورقم دولي غير موجود – يطابق ممارسات التزوير البسيط التي تهدف إلى خداع القارئ عبر الإيحاء بالعالمية.
المحصلة أن ما جرى لا يمكن اعتباره خطأ أو تجاوزًا، بل تزييفًا حقيقيًا للمعرفة. فهذه الكتب لا تضلل القارئ فحسب، بل تُفسد البيئة الثقافية، وتشوّه صورة الترجمة والبحث، وتقدم موادّ مضللة يمكن للطلاب والباحثين غير المدققين اعتمادها في دراساتهم على أنها كتب أكاديمية.
والأخطر أن هذه الإصدارات وصلت إلى رفوف معرض العراق الدولي للكتاب، وهو فعالية يفترض بها أن تكون الأكثر حرصًا على مستوى جودة الدور المشاركة. إن مجرد عرض هذه الكتب في مهرجان رسمي يثير أسئلة كثيرة حول آليات الرقابة، ومسؤولية اتحاد الناشرين العراقيين، ووزارة الثقافة، وإدارة المهرجان. كيف مُنحت هذه الدار منصة عرض واسعة بينما كتبها تفتقر لأبسط مقومات الشرعية المهنية؟ ومَن يتحمل مسؤولية إدخال هذا الكم من الخداع البصري–المعرفي إلى فضاء ثقافي يمثل العراق أمام العالم؟
إن حماية المجال الثقافي ليست ترفًا ولا سجالًا، بل شأن عام يمس جوهر وعي المجتمع. وما جرى يستدعي فتح تحقيق رسمي شفاف، ومراجعة إجراءات القبول في المعارض، ومساءلة القائمين على النشر في هذه الدار، حفاظًا على مصداقية صناعة الكتاب ومنع تحولها إلى مساحة للمنتجات المزيفة.
فالثقافة العراقية التي واجهت الحرب والحصار والرقابة، لا تستحق أن تنهار اليوم تحت وطأة كتب مصنوعة على عجل، بأسماء مستعارة ونصوص مُقلّدة، تُمرّر على أنها “معرفة” بينما هي، في الحقيقة، مجرد وهم منسّق بخط جميل وغلاف جذاب.




