عالم الكتب

غسان كنفاني عائد إلى حيفا

مراجعة رواية عائد إلى حيفا

غسان كنفاني: عائد إلى حيفا

 

فاطمة زياد بايْدَدَة

كاتبة وأديبة مغربية

أردتُ أنْ أكتب مراجعةً أو حتى سطورًا قليلةً تؤرخ لقرائتي رواية “عائد إلى حيفا“، لكنني لم أجد كلمات تعبر عما أريد قوله، أو بالأحرى، لم أجد ما أقوله أصلًا، وكأنَّ كلمات “غسان كنفاني” أخرستني، كما هي العادة. وفجأةً، فطنتُ إلى أنَّ هذه هي نقطة قوة “غسان”: قدرتُه على صدمِ القارئ وتشتيت أفكاره، بحيث ينسى نفسه والعالَم مِن حوله، ولا يركز إلا على كلماته وما يكتبه.

لكنْ، وكما هي العادة، لم يَكنْ عليَّ سوى أنْ أبدأ حتى يغدو قلمي فيَّاضًا، أو بالأحرى، لم يكن عليَّ سوى أنْ أضغط على بعضِ الحروف، حتى تفيض الشاشة بالكلمات والأفكار.

(كنتُ أتساءَلُ فقط.. أفتِّشُ عنْ فلسطين الحقيقية.. فلسطين التي هيَ أكثرُ مِنْ ذاكرة، أكثرُ من ريشةِ طاووس، أكثر مِنْ ولَد، أكثر منْ خرابيش قلم رصاصٍ على جدارِ السُّلّم. وكنتُ أقول لنفسي: ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية، ولا الصورة، ولا السُّلّم ولا الحليصة ولا خلدون، ومع ذلك فهي جديرةٌ بالنسبة له بأنْ يحمل المرءُ السلاح وأنْ يموتَ في سبيلها. وبالنسبة لنا، أنا وأنت، مجرد أن نفتّش عن شيء تحتَ غبارِ الذاكرة، ثم ننظر ماذا وجدنا تحتَ ذلك الغبار؟ غبارًا جديدًا أيضًا! لقد أخطأنا حين اعتبرنا أنَّ الوطن هو الماضي فحسب، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق، وهكذا أرادَ خالد أن يحمل السلاح. عشرات الألوف مثلَ خالد لا توقفهم الدموع المغلولة، لرجالٍ يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينذرون للمستقبل، ولذلك هم يصححون أخطاءنا، وأخطاء العالَم كلّه).

في هذه الرواية القصيرة، التي لا تتجاوز الثمانينَ صفحة، نرافق “سعيد” وزوجته “صفية” في رحلةِ عودتهم إلى “حيفا”، بعد غيابٍ قسرِيٍّ دام عشرين سنة عقبَ حرب سنة ١٩٤٨م.

إنها رحلةُ عودةٍ للبحث عن الماضي، عن الذكريات، عن المنزل الدافئ، عن الحنين، وعنِ الطفلِ الضائع.

رحلةٌ ظلَّتْ مُعلَّقةً عشرين سنة وهي تحملُ في أرجائِها الندمَ والحسرة والأمل بلقاءِ الابن الضائع، لنُصدَمَ في الأخير بأنه لا شيء يبقى على حاله.

يمكن للمظهر أن يبقى كما هو حتى بعد مرور السنوات، غيرَ أنَّ الجوهر كفيلٌ بأنْ يتغيّـر. فعلى الرغم منْ كونِ طريق العودةِ إلى “حيفا” لم يتغيّـر عمَّا كان عليهِ منذُ عشرين سنة، ما تزال الأزقَّة كما هي، والشوارع هيَ هي، إلاَّ أنَّ الإنسان قد تغيّـر. كيف لا، وهو يعيش مع المُحتَلّ؟

في هذه اللحظة، يَفطنُ “سعيد” أخيرًا إلى الحقيقة، وهي أنَّ الوطن، فلسطين، هو (أكثر منْ ذاكرة، أكثر منْ ريشة طاووس، أكثر منْ ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السُّلّم). إنَّ الوطن ليسَ مجرَّدَ ذكريات منَ الماضي، الوطن هو المستقبل.

“أتدرين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدُث هذا كلّه!”.

يعاتب “دوف” والده البيولوجي على تركه له وتَخلِّيهِ عنه. لكنَّ “سعيد” يتنبأُ بكلمات ابنه الجارحة قبل أنْ ينطق بها، فيندمُ متأخِّرًا على رحيلهِ وزوجته، لم يكنْ عليهما ترك “حيفا”، والمنزل و”خلدون”، ذلك أنَّ “حيفا” الآن تُنكِرهم، خلدون ينكرهم، والشوارع والأزقة والمنزل أيضًا.

يشكّلُ منزل “سعيد” الذي احتلَّهُ كلٌّ منْ “إيفرات” و”ميريام” رمزًا مصغّرًا عنْ “فلسطين“. المَنـزل هو فلسطيـن، و”ميريام” وزوجها هما المُحتَلّ، أمَّا “خلدون”، فهو ذلك النموذج مِنَ الجيل الجديد مِنَ الشباب، تلكَ الفئةُ القليلة التي تَرضخُ للاحتلال، بلْ وتسعى لأنْ تُصبحَ منه وتتماهى معه.

يبقى “سعيد” وهو الرجلُ الذي يَجرُّ وراءَهُ خيباتِ الندم، الندم على التخلي عن ابنه عشرين سنة، ثم الندم علل عدمِ السماحِ للثاني بحملِ السلاح. في النهاية، يُدركُ “سعيد” الحقيقة، وهي أنَّ ما أُخِذَ بالقوّة لنْ يُستردَّ إلّا بالقوّة، وأنَّ الحربَ هي وحدها الكفيلة بإخراج “ميريام” و”دوف” منْ منزله. الحربُ هيَ الوسيلةُ الوحيدة لإخراجِ المحتَلِّ منْ فلسطين.

وهكذا، تبقى هناك حقيقةٌ واحدة أكيدة في نظرِ “غسان”: الإنسان هو قضية. أوَلَيس هذا ما قاله “دوف” نفسه: (إنَّ الإنسان قضية)؟

حسنًا، قد يكون مُحقًّا، الإنسانُ فعلًا قضية. لكنْ أيَّةُ قضيَّةٍ هو بالضبط؟ هذا هو جوهر الأمر.

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى