زغلول النجار قارئ الكون بآيات القرآن

زغلول النجار
قارئ الكون بآيات القرآن
عمر ماجد السنوي
ما زالت تلك الصورةُ الماثلة في ذاكرتي كأنها التُقِطت بالأمس، يوم جلستُ قبل عشرة أعوام إلى أستاذي عالِم الجيولوجيا المصري أ.د. زغلول النجار في مكتبه بالجامعة، ذلك الركن الهادئ الذي كان يشعّ بنور العقل والإيمان معًا. كانت المهابةُ تملأ المكان، والسكينةُ تفيض من هيئته المتواضعة، ومن خلف نظارته تبرق عينان كأنما تنظران في أفقٍ أبعد من المدى، من رجل كان مثالا في الصبر والعزيمة.
حدَّثني يومئذٍ عن رسالةِ العالِم ومهمة طلاب العِلم، وعن قداسة المعرفة حين تُزكَّى بالتقوى، وعن أنّ القلمَ لا يُرزق بركته حتى يُغمَس في النية الصالحة قبل الحبر، وعن الصبر وتحمل الأذى، وعن الجاهزية لملاقاة وجه الرب الكريم. كانت كلماته تمشي في النفس مشي النسيم في الغصن، لا تُسمَع فحسب، بل تُبصَر وتُلمَس وتُستَوطَن.

ثم ناولته أحد دفاتري، فأخذ يكتب لي بخطه البهيّ تلك الوصية التي ما زلتُ أحتفظ بها كأغلى ما ورثتُ من دروس العمر، كتبَ فيها:
“أوصيكم بتقوى الله في السرّ والعلن، وبالاهتمام بالدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، والحجة الواضحة، والمنطق السويّ، فلَإِنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك من الدنيا وما فيها”
(زغلول النجار)

سلّمني الوصية وهو يبتسم ابتسامةً فيها من الطمأنينة ما يورث السكينة، كأنما يقول بلسان الحال: إنّ العِلمَ إذا لم يُثمر هُدىً فهو جهلٌ مقنَّع.
ذلك الرجلُ الجليل كان نموذجًا نادرًا في زمانٍ غلبت فيه القشورُ على اللباب، عالِمًا يقرأ صفحات الوجود كما تُتلى السور، يُبصر في الحجر دلائل البعث، وفي الماء برهانَ القدرة، وفي كلّ خليةٍ أثرًا من آيات {كُنْ}. من بين أصابعه خرجت علومٌ تخدم الإيمان، لا تُضاده ولا تُعانده؛ فجمع بين يقين العابد واستدلال العالم، وبين حُسْن التأمُّل ودقّة النظَر.
كان حديثه عن الكون صلاةً، وتأمّله في المخلوقات عبادةً، فإذا تكلّم أخذَ بمَجامِع فكرك فلا يفلته إلا وقد تحرَّك بعد ركود.
مضى الشيخُ إلى ربّه اليوم، كما يمضي النجمُ إذا أتمّ مسيره في ليلٍ طويل، لكنه خلّف وراءه أثرًا لا يُمحى، وبصمةً تبقى ما بقي في الأرض من يقرأ آياتها.
رحل زغلول النجار، وبقي علمُه المضيء كالسراج في الليالي الحالكة، يذكّرنا بأنّ العالِمَ وريثُ النبوّة وليس وريثَ المختبَر، وأنّ سرَّ العظمة في صدقِ التوجّه لا في ضجيج النتائج، وفي مخالطة الناس ونفعهم لا في العزلة والأنفة.
فسلامٌ على وجهٍ أضاء بهاءَ العلم، وعلى قلبٍ عمَّره القرآن، وعلى عقلٍ لم ينحنِ لغير الحقّ -نحسبه والله حسيبه-.
سلامٌ عليه يوم أحيَا العقولَ ببيانه، ويوم ودّع الدنيا مطمئنًّا إلى ربه فيما نحسب، ويوم يُبعث فيما نرجو مع الذين قال الله فيهم الله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.





