
زعماء الطوائف في الأندلس.. وريادة التطبيع!
(مقاربة تأريخية أخلاقية)
د. عامر ممدوح خيرو
أستاذ التأريخ الأندلسي بكلية الآداب – الجامعة العراقية
مدخل:
قد يُـصـاب المَرء بالدهشـة والعَجـب ربما، وهو يتابع مجريات الأحداث الراهنة التي تمر بها الأمة عامة، وفلسطين العزيزة وغزة خاصة، فهي -والحق يقال- ملحمـة كبـرى تتداخل فيها معاني الشجاعة والبطولة كأبهى ما تكون، قبالة بؤس الواقع الرسمي العربي، مثلما أنها تنطوي على شواهد لمدى التردي المتكون عبر انصياع الأنظمة العربية لمشروع التطبيع والتعاون مع العدو الصهيوني الغاصب وصولًا إلى دعمه في حرب الإبادة المتحققة، والتعامل مع نزيف الدم الطاهر الزكي ومشروع محو السكان والعمران ببرود مقيت.
ولكن الدهشة تزول، والعجب يتلاشى، حين نتصفح كتب التاريخ، إذ تتجلى لنا في هذه الجزئية بالذات حالة التكرار الملفت لذلك الحال والاستعادة المطلوبة لعلاجها وتغييرها نحو المنحى الإيجابي اللازم، وذلك باسترجاع التأريخ قراءة ووعيًا واستثمارًا، ليس فقط لتحقيق حالة الفهم التي توجد بالضرورة من خلال التأمل في مجريات ما مضى، ولكن امتلاكًا لصورة الغد المتوقعة لهذه السياسات الخائرة والمواقف المنحازة لصالح الخصم على حساب أبناء الوطن والأمة على حدٍ سواء.
ولعل هذا الأمر الذي نخصص الحديث عنه هنا تحقق بشكله الصارخ والواضح في عصر الطوائف الذي مرّ على الأندلس خلال المدة (400 – 484 هـ/ 1009 – 1091م) ومثل أقصى درجات الضعف والتراجع والتفكك والانهيار القيمي والأخلاقي، وزاد عليه أنه غرس في جسد الأرض الأندلسية سيف النهاية وقبل قرون من السقوط النهائي والتام، إذ وهنت وقتها البلاد وتناثرت أشلاء، واستنزفت القوة وتآكل الشعب، وضاعت المدن التي بُذِل في فتحها الغالي والنفيس، ومنح العدو القوة على طبق من الخيانة والنذالة والخسة الغريبة على الحالة الإسلامية السليمة، ولاح في الأفق غروب الوجود الإسلامي من ذلك الحين حتى أفوله التام في سنة 897هـ/ 1492م.
ويكاد المرء يصاب بالذهول لحالة التشابه في الواقعين، الماضي والحاضر، وتكرار النماذج التي نراها اليوم عيانًا وحدثنا عنها المؤرخون مرارًا، وقدموا لنا وصفًا بالغ الدقة لأحوالهم الخارجية البائسة والداخلية المليئة بلحظات الخوف والرعب وتغييب المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة ولو كان فيه هلاكهم التام في نهاية المطاف!
ولعل المادة المصدرية والسردية التأريخية الإسلامية، كانت من الروعة بمكان حين رسمت لنا صورة حادة الملامح لهذه السنوات الكالحات، ووقفت عند جوانب أساسية مثلت أركانها وتنبأت بمصيرها المحتوم والذي لا يغيره استعادة انفاس الوجود هنا او هناك، وهو ما سنحاول الوقوف عنده والتعليق عليه بما استطعنا.
ولا بدّ من التنبيه هنا إلى أن استدعاء الشاهد التأريخي القديم وقياسه على النموذج الراهن والحديث ليس فيه تعسف ما دام أن المحور الموضوعي الجامع بينهما مبني على أساس علمي ومنهجي، فنحن ننطلق من إدراك مفهوم التطبيع بعمومه وخصوصيته الراهنة مع الكيان الصهيوني في ذات الوقت، والذي يقوم على (جعل ما هو غير طبيعيّ طبيعيًّا بحيث لا يكون مستنكرًا أو مرفوضًا… جوهره كسر حاجز العداء مع العدوّ الصهيونيّ بأشكالٍ مختلفة، سواء أكانت ثقافيّة أو إعلاميَّة أو سياسيَّة أو اقتصاديّة أو سياحيَّة أو دينيَّة أو أمنيَّة أو استراتيجيَّة أو غيرها… وينبغي الإشارة إلى إمكانيَّة تطابق مفهوم التطبيع مع كلّ الموارد المشابهة، حين يُعمل على توجيه الناس والمجتمعات والدول للتطبيع مع الآخر الظالم، وإن كان ظلمه واضحًا للعيان مقابل مكاسب سياسيَّة أو اقتصاديّة للأنظمة)([1]).
والمفهوم أعلاه يجعل من هذه المفردة إطارًا يمكن أن يضم داخله الكثير من الحالات المتشابهة ومنها التي مرت على الأندلس التي كان أهلها في زمن الطوائف محاصرين بين زعيم مهادن ومتواطئ، وعدو متحفز وغاصب، فالسلوكيات المختلفة التي تمثلها أولئك إنما جمعها مشروع متكامل([2]) مع إذابة الإحساس بالانتماء للأرض والالتزام بالمعاني الأخلاقية والمساومة من أجل الموقع والمنصب على حساب وجود أمة بأكملها، مثلما حصل ماضيًا وحاضرًا.
أولًا: وجودٌ شاذ
كما يعلم الدارس لتأريخ الأندلس، أن عصر الطوائف جاء تاليًا للخلافة الأموية التي أعلن عن سقوطها بشكلها الرسمي عام 422هـ، وإن كانت البلاد وقعت في زمن الطوائف فعليًا منذ اندلاع الفتنة الداخلية، وهذا العصر يمكن إيجازه بشكل مركز بأنه مثل عملية تقسيم أوصال وأملاك الخلافة بين مجموعة من الزعامات التي لم تكن تستحق أن تتولى هذه المواقع، فضلًا عن عدم امتلاكها القابلية للبقاء، وهو ما وثقته الرواية الأندلسية بشكل دقيق، ولنقرأ:
(وذهب أهل الأندلس من الانشقاق، والانشعاب والافتراق ، إلى حيث لم يذهب كثير من أهل الأقطار مع امتيازها بالمحل القريب، والخطة المجاورة لعباد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرث، ولا في الإمارة سبب، ولا في الفروسية نسب، ولا في شرطة الإمامة مكتسب، اقتطعوا الاقطار، واقتسموا المدائن الكبار، وجبوا العمالات والأمصار، وجندوا الجنود، وقدّموا القضاة وانتحلوا الألقاب، وكتبت عن الكتاب الأعلام، وأنشدهم الشعراء، ودونت بأسمائهم الدواوين، وشهدت بوجوب حقهم الشهود، ووقفت بأبوابهم العلماء، وتوسلت إليهم الفضلاء، وهم ما بين مجبوب، وبربري مجلوب، ومجند غير محبوب، وغُفل ليس بالسراة بمحسوب، ما منهم من يرضى أن يسمى ثائرًا، ولا لحزب الحق مغايرًا، وقصارى أحدهم ان يقول أقيم على ما بيدي، حتى يتعين من يستحق الخروج به إليه، ولو جاءه عمر بن عبد العزيز لم يقبل عليه، ولا لقي الخير لديه، ولكنهم استوفوا في ذلك آجالًا وأعمارًا، وخلفوا آثارًا، وإن كانوا لم يبالوا اغترارًا، من معتمد ومعتضد ومرتضى وموفق ومستكفٍ ومستظهر ومستعين ومنصور وناصر ومتوكل)([3]).
(عند ذلك انقطع اسم الخلافة من الجزيرة، ودارت الدوائر المبيرة، وفسد حال الرائس والمرؤوس، وارتفع كل خامل وخسيس، وثار الثوار، واشتعلت بكل مكان النار، وظهر العدو غاية الظهور، لا سيما على الأطراف والثغور)([4])، (وإنما كان خذلهم التحاسد، وفرط الخلاف، والتباغض، وقلة الإنصاف) وكان عنوان زمنهم له دلالة إذ (كانت أيامهم تسمى أيام الفرق)([5])!
(وجعل الله بين أولئك الأمراء ملوك الطوائف من التحاسد والتنافس والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات، والعشائر المتغايرات فلم تتصل لهم في الله يد، ولا نشأ على التعاضد عزم، ولا توجه إلى الاستكثار قصد، إنما كان وكدهم في التماس المحل من وده، وإبراز الفضل من حظوته، والتنفق عنده، والترافع إليه، والاستظهار به، وقد قعد للتضريب بينهم والمفاسدة، وأطل بذروة التغلب والتحكم، مفتوح اليد، مقبول المزايدة واجتلاب الفائدة))[6](.
ويقرأ المؤرخ الكبير الدكتور عبد الرحمن الحجي هذا الواقع بدقة متناهية فيقول: (هكذا وُجدت في الأندلس أوضاع يحكمها أمراء، اتصف عدد منهم -في بعض تصرفاته- بصفات الأثرة والغدر، هانت لديهم معه مصالح الأمة وتركت دون مصالحهم الذاتية، باعوا خلقهم (وبلادهم) للعدو المتربص، ثمنًا لبقائهم في السلطة، أصاب الأمة الضياع بقدر ما ضيعوا من الخط الخلقي المسلم، انحرف هؤلاء المسؤولون عن النهج الحنيف الذي به كانت الأندلس وحضارته، في مثل هذه الحالة تظهر العصبية والنزاعات التي تؤدي إلى التشتت والضياع… لو وضع هؤلاء الأمراء المهازيل -مع اختلافهم- مصلحة الأمة أولًا، ووجد بينهم نوع من العهود التي تقوم على المسالمة والتعاون ضد كل خطر خارجي، لكان الأمر مختلفًا، لكنهم راحوا يستعينون بعدو أمتهم المتربص -الذي يتمنى هلاكهم جميعًا- ضد بعضهم البعض، ولقاء دفع إتاوة وتنازل عن حصون ومدن، ولعل ما أصاب الأندلس بسوء فعالهم وسقم خلقهم كان أكثر مما أصيب به بقوة عدوهم، فالاستعانة بالعدو سنّة سيئة وجدناها تتكرر لدى آخرين من بعض الحكام)([7]).
لقد كان وجود زعماء الطوائف في أساسه شاذًا ومحطمًا للنظام السياسي الأندلسي، لذا فقد ايقنت هذه الزعامات التي بنت ممالكها على أساس هزيل حاجتها للإسناد من اجل البقاء، ليس هذا فحسب بل وارضاءً لشهوة التوسع التي تملكتها على حساب جيرانها وهم شركاء الوجود ذاته، مع وجود العدو الذي بات يلوح فرحًا لهم بالدعم والاسناد لتحقيق قضمهم الغريب لأنفسهم، وصولًا إلى المحو التام.
وهكذا وضعت في الأندلس للمرة الأولى أسس عمليات التطبيع البائسة مع العدو بشكلها الجماعي، وباتت البلاد على موعد مع سياسات وتصرفات أساسها التقرب من العدو وموالاته وتمييع المواقف واذابة الحواجز وبشكل انتهى إلى ترسيخ صورة قوته وتغلبه وهيمنته على حساب وهن ذوات هؤلاء والذين غلبهم سواد المضمون والفعل والمآلات على حدٍ سواء.
ثانيًا: الخنوع واستعداء الأشقّاء
لقد مثل زعماء الطوائف الشكل الأكثر بؤسًا بين زعماء الأندلـس، فهُم -ما عدا القلة القليلة النادرة- لم يعرفوا منهجًا للحكم أو سبيلًا للإدارة إلا الغرق في بحور الملذات، وخضوعًا لغريزة التمتع والبقاء، وخلع كل صور المبادئ الأخلاقية الإسلامية التي كان عليها حكام البلاد قبلهم.
وهم بذلك مثلوا المرحلة الثالثة التي يمر بها المجتمع بين (الحالة الكاملة: فيها تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح)… والمرحلة التالية: هي المرحلة التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل) خاصة… أما المرحلة الثالثة: فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز) المتحررة من وصاية الروح والعقل، وفيها يصبح النشاط المشترك مستحيلًا، ضاربًا بأطنابه في أغوار الفوضى والاضطراب، وهو ما نجده في حالة المجتمع الإسلامي في الأندلس، في العصر المشؤوم المسمى بعصر (ملوك الطوائف)([8]).
(لقد كانت تلك الأيام شذوذًا، تلك الأيام التي استمرت لبضعة عقود قاربت التسعة، بلغ الحال فيها وضعًا شاذًا من التفرق والتمزق والتحارب بين حكام صغار، هَمّ أحدهم كرسيه ولو أعطى للعدو ما يريد، مما تولاه من أرض وشعب. يتنازل عن الأرض ويدفع الأموال ويضحي بالناس ويسترخص بناء مجتمعهم، وإن ادعى غير ذلك من شعارات أو لاك من عبارات تمتّ ظاهرًا إلى الدين، بل واسمه يتجر وما هو بمزدجر… وفي مثل هذه الأوقات، التي شغل خلالها الحكام ومن معهم بتفاهاتهم ومصلحتهم وتعلقهم بالزعامات التي شغلوا لها من معهم وشغلوا أمتهم وأعطوا للعدو مرامه منهم ومن مجتمعهم. مع أن هذا العدو كان لا يرضى ولا يكتفي بغلبة سياسية عليهم، فذلك قليل مما يريد، وإن كان له مفتاحًا، فهو يريد استباحة الأمة، وخنق كل نفس تتنفس بالدين وتعمل له، ويقضي على كل متنفس يبعث الأنسام في النفس، فيخنقه ليقضي عليه ويبقوا بعد ذلك بدونه، يعطيهم ويمنيهم من أجله ممثلين في قادة صح الوصف فيهم: [أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة] يخدمونه ويخضعون له ويخدمون أنفسهم لرغباته، بل ويذلون شعوبهم، لو استطاعوا أن يفعلوه!)([9]).
لقد غدا محاربة الأشقاء والإخوة منهجًا لدى زعماء الطوائف الذين مارسوه بمزيج من الخنوع والخضوع للعدو، من أجل التوسع على حساب الوطن، والمساومة على قضايا الأمة مهما كان ذلك على حساب سمعتهم ومكانتهم التي هبطت إلى أدنى مستوياتها بسبب أفعالهم، وهو ما ادركه بعض نادر منهم، ومنهم المتوكل بن الأفطس حاكم بطليوس، فيقول مخاطبًا يوسف بن تاشفين: (كانت طوائف العدو تطيف بها عند إفراط تسلطها واعتدائها، وشدة ظلمها، واستشرائها، تلاطف بالاحتيال، وتستنزل بالأموال، ويخرج لها من كل ذخيرة، وتسترضى بكل خطيرة، ولم يزل دأبها التشطط والعناد، ودأبنا الإذعان والانقياد، حتى نفد الطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المنن، وقويت أطماعهم في افتتاح المدن، وأضرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم، فإنما هم في أيديهم أسارى وسبايا يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا)([10])، ويضيف: (ما هو إلا نفس خافق، ورمق زاهق، استولى عليه عدوّ مشترك، وطاغية منافق)([11]).
كما أنه يجيب ألفونسو السادس بالقول: (وأما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، وظهر من اختلالهم، فبالذنوب المركوبة، والفرقة المكتوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك، لعلمت أي صاب أذقناك، كما كانت آباؤك تتجرعه، فلم تزل تذيقها من الحِمام، وضروب الآلام، شرّ ما تراه وتسمعه، وأداء المال تتوزعه)([12]) مما يدل على إدراك حقيقي لما يجري من غلبة أثر الانقسام على الضعف الداخلي.
أما المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية، فثمة نماذج عديدة تعكس صورة الحالة التي يعيشها في ظل التعاون مع ألفونسو السادس، فقد (كان قد أشار عليه خواصه بمصانعة أذفنش -أي ألفونسو- وعقد السلم معه، على أداء مال معلوم عن كل حول، فنكل على أدائه لضعف بلاده، وجلاء أهلها عنها، فافترض على أهل إشبيلية فريضة، افتقر فيها أكثرهم، وانجلى آخرون، فوصل إليه رسول أذفنش، ومعه اليهودي ابن شالب، لقبض مال الجزية على عادتهم، في كل سنة، ونزلوا خارج إشبيلية، فوجه إليهم المعتمد بن عباد المال المعلوم مع بعض أشياخ إشبيلية، منهم ابن زيدون وغيره، فلما وصلوا إلى خبائه، وأخرجوا إليه المال العين والسبائك، قال لهم اليهودي: والله لا آخذ منه هذا العيار، ولا آخذ منه إلا مشحرًا -أي الذهب الخالص-، ولا يؤخذ منه في هذا العام إلا أجفان البلاد، وزاد في كلامه ونقص، وأساء الأدب، فبلغ المعتمد خبره، فدعا بعبيده وبعض جنوده، وأمرهم بالخروج لقتل اليهودي ابن شالب، وأسر من كان معه من النصارى، ففعلوا ما أمرهم به من ذلك)([13]).
ومن كتاب المعتمد بن عباد إلى ابن تاشفين: (قد طرأ على الإسلام حادث أنسى كل هم، وهمت النكبات بوقوعه وهم، وذلك عدو أطمعه في البلاد شتات وبين، واختلاف سببه لم تطرف له في الدعة عين، يقوى ونضعف، ويتفق ونختلف، وننام مطمئنين من آفات الزمان، وتناسخ الأمان، وقد جاءنا إبراقه وإرعاده، ووعده وإيعاده، لنسلم له المنابر والصوامع، والمحارب والجوامع، ليقيم بها الصلبان، ويتنسب بها الرهبان، ومما يطمعه استمالته إيانا بالدعة، وإملاؤه في الرحب والسعة، استجرارًا لما أبطنه، وإهجامًا علينا وطنه)([14]).
ونكاد نلمس في كل تلك الكلمات مدى تأثير الانقسام الداخلي، والانصياع المذّل للعدو الخارجي على واقع الأندلس، لدرجة فقدان القدرة على اتخاذ القرارات وإدارة الأمور باستقلالية تراعي مصلحة الشعب والسكان كما ينبغي.
ثالثًا: التعاون مع العدو (تطبيع مبكّر)
كما ذكرنا سابقًا، فإن هذا التوجه البائس غدا سياسة متعارفًا عليها في زمن الطوائف، ويكاد يجمع المؤرخون قديمًا وحديثًا على أن هذا العصر الشاذ إنما اقتات على هذه الجزئية ليبقى، ظانًا أن فيه الحياة ومتناسيا أن حياة الذل والتنازل عن القيم الأخلاقية وأراضي المسلمين نهايتها سوداء.
لذلك سادت صور التواصل والتعاون وطلب المساعدة وبذل الأموال والتنازل عن الحصون والمدن مع الممالك الإسبانية لقاء فتاتٍ من المُسـاعَدة المُمنهَجـة والمَدروسـة والمَشـروطة، والتي عكست منهجًا واضحًا في ظل حرب الاسترداد الإسبانية، والتي تزعّمها بشكل كبير ألفونسو السادس والذي لم يكن ليمثل في التقييم الشامل والعام الحاكم الخارق القوة، ولكنه استغلال الظروف المواتية التي قدمها له زعماء الطوائف، ذلك أن مصدر الشعبية التي اكتسبها ألفونسو السادس كانت بسبب ضعف موقف حكام الأندلس المتشبثون بكراسي الملك إذ (لولا اهتبال ملوك الطوائف بإقامة مرافقه، وإصغاؤهم إلى هدر شقاشقه، لطار شعاعًا، وذهب ضياعًا)([15]) وهو ما يدفع إلى الاستنتاج بأن ألفونسو السادس لم يكن بتلك القوة التي من شأنها إنهاء حكم المسلمين وبسط نفوذه على البلاد بالكامل، ويبدو أن إمعان الرجل في إذلال أولئك الحكام يرجع إلى تنافس كل واحد منهم وهو أمر لا يمكن إيجاد تفسير له حسب ما نرجح، إلا بجبن الحكام المسلمين في الأندلس، والتعلق بالدنيا والخوف على ضياع كرسي الحكم)([16]).
لقد دأب زعماء الطوائف على انتهاج سبيل التعاون مع العدو واعتماد سياسة تطبيعية بامتياز، فقد (لاذوا بالجزى للطاغية أن يظاهر عليهم أو أن يبتزهم ملكهم، وأقاموا على ذلك برهة من الزمان، حتى قطع إليهم البحر ملك العدوة وصاحب مرّاكش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني، فخلعهم وأخلى منهم الأرض)([17])، ووقع ذلك في وقت وضع العدو خطته الاستراتيجية التي وجد لها الفرصة الذهبية عبر وجود هــذه النمـاذج، وذلك من أجْـل (الاستيلاء على ثغور المسلمين، وانتهاز الفرصة فيها بالتضريب بين ملوكها وإغراء بعضهم بعضًا)([18]).
ويقدّم لنا حاكم غرناطة عبدُ الله بن بلقين شهادة معاصرة للحدث، عن طريق مجموعة من النصوص حول التفاوض مع ألفونسو والتعاون معه، ومحاولة تبرير العجز والضعف الذي كان عليه زعماء الطوائف عامة وما كان عليه هو خاصة، فيقول: (وأما الفونش لما تيقن هذه الفتن، علم أن ذلك من أكبر سعادته وأعظم فرصة في طلب الأموال، فأرسل إلينا رسوله أول مداخلة نشأت بيننا وبينه، فأتى باطرو شولش يطلب منا ضريبته فأبينا عليه، واجتمع رأينا على أن لا نفعل، وأن ضرر الفونش لا يُخشى وغيرنا أمامنا، نعني بذلك ابن ذي النون… وانقطع رجاء الناس من دولتنا، لاجتماع المطالبين عليها مع الرومي، وندمنا على التفريط أولًا في معاقدته حسب ما سأل وكان من أحسن شيء على السلاطين أخذ معقل بالسيف، فإنه متى اعترض لم يستطع على دخوله لمنعته وما عد فيه، ولا على إحصاره حتى ينفذ ما فيه لقوة تأتيه، فيقلع عنه، إلا من كان أقوى، ولم نكن نحن إلا متكافئين في ذلك، متى ما أعطى أحدنا لعسكرٍ مالًا، وأراد الآخر نقضه، أربى عليه وأراحه منه))[19](.
ويقـول: (وتأهب الفونش إلى الحركة، وقدّم رسوله بين يدي حركته فلما صحت عندنا، أتانا منها المقيم المقعد، ولم ندر أين الخيرة: إن كان في رفض البلد وتركه ليعبث فيه، أو مداراته بما تيسر، ووقعت من ذلك هيبة في الناس ورجة، حتى بلغ من الجزع أننا لم نصدق أن يقبل منا المال دون الملازمة لنا… فرويت الأمر في نفسي، ورأيت أن التعاطي [المكابرة] حماقة لا تفيد، وقلت: إن أخذت هذه من الرعية ضجت وشكت، ويكون مقدمتها بمروكش شاكين يقولون: أخذ أموالنا وأعطاها للنصارى! ولكن لهذا الوقت يحتاج الإنسان ما ادخر ليصون به بلده وعِرضه، وأنا جدير أن أعطي ذلك من بيت مالي، بحيث يسلم البلد، وبحيث تشكر الرعية بمدافعة عدوها دون تكليفها شيئًا، ولا تقع الشُنعة! ففعلت ذلك وأرسلت إليه ثلاثين ألفًا، لم أرزأ أحدًا فيها درهمًا))[20](.
ولعل النصَّين السابقَين -وهناك غيرهما- يشيران إلى مدى الضعف الذي آل إليه وضع ابن بلقين لدرجة قوله: إننا لم نصدق أن يقبل منا المال دون الملازمة لنا -كما عبّر!-، ومحاولة تبرير مواقفه بهذا الضعف الذي لم يعد -كما يبدو- هناك أمل بدفعه وتغييره، وتثبيت أن هذا الواقع منع أية محاولة للتغيير والإصلاح، وربط تصرفاته هنا وفي مواضع أخرى بسلامة البلد والرعية، والإشارة إلى دفع المال من أمواله الخاصة حتى لا يستثير الرعية. وهنا يثار سؤال مهم: هل الخلاف حول دفع الأموال للإسبان في مصدر المال، أم في أصل التعاون والاتفاق؟ وهل الأمر بمدى المبلغ وجهة الدفع أم بما يحمل ذلك من ارتكاس مبدأي وسلوك سلبي وتأثيرات مدمرة على أرض الأندلس ومستقبلها؟
وتتواتر النصوص التأريخية لتعزز هذا الجانب، ومنها: (وخلص الملك الفنش بن فردلند، واستبد به، واستفحل أمره، وطمع في المسلمين، وصح في قياسه الفاسد أن يستخلص جزيرة الأندلس لنفسه، فلم ينم عن شن الغارات، ومواصلة الغزوات، وصادف أيام ملكه نفاقًا كثيرًا بين المسلمين، واختلافًا عظيمًا، وضعف بعضهم عن بعض إلا بمعاونة الروم، فبذلوا للفنش ما يحبه من الأموال ليعينهم على مناوئيهم بأنجاد الرجال، والنصراني في أثناء ذلك مسرور، وهم مع ذلك مشتغلون بشرب الخمر، واقتناء القيان، وسماع العيدان، وكل واحد منهم ينافس في شراء الذخائر الملكوية متى طرأت من المشرق كي يوجهها للنفش هدية، ليتقرب بها إليه، ويحظى دون مطالبة لديه، إلى أن ضعف من أولئك الثوار الطالب والمطلوب، وذل الرائس والمرؤوس، وافترقت الرعية، وفسدت أحوال الجميع بالكلية، وزالت من النفوس الأنفة الإسلامية، وأذعن من بقي منهم خارج الذمة إلى أداء الجزية، وصاروا للفنش عمالًا يجبون له الأموال، لا يخالف أمره أحد ولا يتجاوز له حد، ووكلوا أمر المسلمين إلى اليهود، فعاثوا فيهم عيث الأسود، وجعلوهم حجّابًا، ووزراء وكتّابًا، ويتطوف الروم في كل عام على الأندلس يسْبون ويغنمون ويحرقون ويهدمون ويأسـرون)([21]).
وتنبه الرواية التاريخية إلى سياسة “فرّق تسد” التي عمل عليها ألفونسو السادس: (وكان أسرّ شيء عند الفنش فتنةً تقع بين ولاة من المسلمين، فيعين هذا على هذا، وهذا على هذا، فيستجلب بذلك أموالهم، ويفجع غمصًا منه، أن يعجزوا فيظفر هو بملك الجزيرة كلها)([22]).
ويا له من تعبير بليغ قول ابن الكردبوس: (وفسدت أحوال الجميع بالكلية، وزالت من النفوس الأنفة الإسلامية)، فهو تلخيص عميق لحال زعماء الطوائف الذين تجردوا من كل القيم الإسلامية.
والتقرب إلى ألفونسو السادس لم يكن بالقول فحسب وإنما باعتماد الهدايا سبيلًا، يدل على ذلك ما قاله ابن الكردبوس: (ولما حصل الطاغية الفنش بطليطلة شمخ بأنفه، ورأى أن زمام الأندلس قد حصل في كفه، فشن غاراته على جميع أعمالها، حتى فاز باستخلاص جميع أقطار ابن ذي النون واستئصالها، وذلك ثمانون منبرًا سوى البنيات، والقرى المعمورات، وحاز من وداي الحجارة إلى طلبيرة، وفحص اللج، وأعمال شنتنمرية كلها، ولم يكن بالجزيرة من يلقى أقل كلب من كلابه، فعند ذلك وجّه كل رئيس بالأندلس رسله إلى الفنش مهنئين، وبأنفسهم وأموالهم مقتدين، وفي أن يشركهم في بلادهم له عاملين، ولأموالهم إليهم جابين، حتى إن صاحب شنتمرية حسام الدولة بن زرين، نهض إليه بنفسه، وتحمل هدية عظيمة القدر سنية، متقربًا إليه، وراغبًا أن يقره في بلده عاملًا بين يديه، فجازاه على هديته بقرد وهبه إياه، فجعل ابن رزين يفتخر به على سائر الرؤساء، ويعتقد أنه جنته، مما كان يحذر من الفنش من وقوع البأساء… وكان رسول ابن عباد إليه يهوديًا يعرف بابن مشعل، فقال له: كيف أترك قومًا مجانين تسمى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم وأمرائهم، فمنهم: المعتضد والمعتمد والمعتصم والمتوكل والمستعين والمقتدر والأمين والمأمون، وكل واحد منهم لا يسلّ في الذب عن نفسه سيفًا، ولا يرفع عن رعيته ضيمًا ولا خوفًا، قد أظهروا الفسوق والعصيان، واعتكفوا على المغاني والعيدان، ومعاطات بنت الدنان؟!! وكيف يحل لبشر أن يقر منهم على رعيته أحدا، وأن يدعها بين أيديهم سدى؟!)([23]).
والمدقق في الكلام الوارد آنفًا يجد فيه تصويرًا نفسيًا داخليًا لزعماء الطوائف، أدركه الإسبان وعملوا بمقتضاه.
رابعًا: سياسة التطبيع لا تدفع الخطر:
لم يكن يعلم زعماء الطوائف أو ربما علموا فأغفلوا تعمدًا أن سياسة التردي والخنوع لا تنفع ولا تحمي، ومن الشواهد على ذلك هذا النص التأريخي المهم: (وبمجرد تسلمه أمر طليطلة -أي ألفونسو- عمل على تمزيق ثروة يحيى القادر، وهكذا سلم القادر كل ما يملك، وأضاع طارفه وتليده، ومزَّق ثروته وميراثه، وبدد حصونه حصنًا حصنًا، وذهبه دينارًا دينارًا، وهو مستسلم مرغم، وإلا فماذا عساه أن يصنع؟ إن سيف الأذفونش المصلت يتهدده بالقتل، وأقل حركة تبدر منه تدل على عدم الطاعة والإذعان، تجعله يهوي به على رأسه، فلم ير بدًا من أن يستنزف أموال الرعية، ويرهقها بأنواع المظالم والمغارم ويأتي على الثمالة الباقية في أيديها، ورأى أهل بلنسية أنه لا قِبَل لهم بسدِّ هذه المغارم الفادحة، ففروا من وجه هذا الظلم الصارخ زرافات ووحدانًا، وهاجروا إلى أرض سرقسطة، وكان موقف القادر أمامه شاذًا وغريبًا، فإنه كلما حمل إليه قدرًا من المال ظنًا منه أن ذلك يجدي في مرضاته، كان ذلك سببًا في تزايد طلباته الملحة، إلى أن نضب معين المال، ولم يجد ما يقدمه إليه، وأقسم له أن ليس قبله شيء، فقام من فوره، وخرب بسيط المدينة وما حولها، كل هذا والقادر متعلق بعرشه بعد أن نخر في قوائمه السوس، وتداعى للانحلال والسقوط، ولكنه عدل في النهاية عن هذا التعلق الكاذب)([24]).
ومُزِج ذلك السلوك بذلة واضحة وتبريرات فاضحة، وحاشية موالية تسوغ للحاكم سياسته المدمرة، وهو ما ألمح إليه ابن بسام بذكر خِطاب العجز التبريري لعلماء السلطان وأدبائه ممن حاولوا تسويغ سلوك الطوائف البائس على أنه لا سبيل لهم إلا ذاك، وأوجز تقييمه بقوله: (وهذا مدح غرور، وشاهد زور، وملق معتف سائل، وخديعة طالب نائل، وهيهات)([25]).
والخلاصة في هذا الباب أن ملوك الطوائف كانوا (أسوأ قدوة، كانوا ملوكًا ضعافًا في وطنيتهم، ضعافًا في دينهم، غلبت عليهم الأثرة والأهواء الشخصية إلى أبعد الحدود، ونسوا في غمارها وطنهم، ودينهم، بل نسوا حتى اعتبارات الكرامة الشخصية، واستساغوا لأنفسهم أن يتراموا على أعتاب الملوك النصارى، وأن يستعدوهم بعضهم على بعض، لا في سبيل قضية محترمة، ولكن لاقتطاع بلدة أو حصن من مملكة شقيقة، أو التنكيل بأحد الأمراء المجاورين. وقد انتهى أمراء الطوائف في ذلك إلى درك يستحق أن يوصف بأقسى النعوت، ويكفي أن نستعرض في ذلك موقف ملوك الطوائف إزاء نكبة طليطلة سنة 478هـ/1085م، وتخاذلهم جميعًا عن إنجادها وقت أن حاصرها ملك قشتالة وصمم على أخذها، وهم جميعًا -إلا واحدًا منهم هو أمير بطليوس الشهم- ينظرون إلى استشهاد المدينة المسلمة، جامدين لا يطمعون إلا في رضاء ملك قشتالة، وفي سلامة أنفسهم. وقد كان ملك قشتالة يعاملهم حسبما رأينا في غير موطن، معاملة الأتباع، ويبتز منهم الأموال الطائلة، باسم الجزية، ويعامل رسلهم وسفراءهم معاملة الخدم)([26]).
والمؤرخ عنان يشير إلى ما ذكره ابن بسام في ذخيرته من صورة مأساوية أعقبت سقوط المدينة المركز، حينذاك، والأندلس تعيش يومًا حزينًا (لم يبق ملك من ملوك الطوائف إلا أحضر يومئذ رسله، وكانت حاله حال من كان قبله. وجعل أعلاجه يدفعون في ظهورهم، وأهل طليطلة يعجبون من ذل مقامهم ومصيرهم، فخرج مشيختها من عنده وقد سقط في أيديهم. وطمع كل شيء فيهم)([27]).
وهذا التخاذل المؤلم يشبه قادة العرب اليوم، فمن (العجيب أن بعض ملوك الطوائف وقفوا جامدين لا يتحركون لنجدة طليطلة، وكأن الأمر لا يخصهم، فاغرين أفواههم جبنًا وغفلة وتفاهة، بل إن عددًا منهم كان يرتمي على أعتاب ألفونش (أدفونش، ألفونسو السادس Alfonso VI) طالبًا عونه أو عارضًا له الخضوع، بذّلة تأباها النفس المسلمة، تغافلوا عن أن أدفونش لا يفرق بين طليطلة وغيرها من القواعد الأندلسية، لكن العجب يزول إذا تذكرنا نزعتهم الأنانية والعصبية… كان بعضهم لا همّ له إلا تحقيق مصلحته وإشباع أنانيته، يتصرف أحيانًا وكأن الأندلس وُجدت لمنفعته وليتربع على كرسي حكم، مهما كان قصير العمر ذليل المكان مهزوز القواعد، انتحلوا الأوصاف… وساروا بأمّتهم نحو الخراب)([28]).
فكم من مدينة سقطت، وكم من بلدة انتهكت، وكم من جموع قتلت، ولا مَن يحرك ساكنًا ولو ببيان لا يسمن ولا يغني من جوع؟!!
خامسًا: مؤتمرات قمة تأريخية!
لم يكن زعماء الطوائف يختلفون عن ملوك وحكام العصر الحاضر، ممن هانت عليهم الأمة بأكملها، وساوموا على جراحات أهلها، وتنادوا إلى مؤتمرات قممهم الهزيلة، وهو ما حصل بالفعل وقت نمو فكرة استدعاء المرابطين لإنجاد الأندلس وإنقاذها، حتى ليشعر قارئ حوارات زعماء الطوائف بالأندلس وأتباعهم بالشَبَه الكبير مع القمم العربية المعاصرة خاوية المعنى والمضمون، والباحثة عن إبقاء كراسيهم مهما كان الثمن من ثرواتهم وكرامتهم.
ولنقرأ: (وقد كان ابن عباد قبل هذا، لما رأى أمره في إدبار، وأن الأذفنش قد عزم عليه، شاور خاصته، ووجوه دولته، في شأن استدعاء يوسف بن تاشفين، فأشاروا عليه بمداراة الأذفنش ملك قشتالة، وطلب معاهدته، وعقد السلم معه على ما يذهب إليه من الشروط، وكيف ما أمكن، وأن ذلك أولى من تجويز المرابطين. ثم إنه خلا بعد ذلك بابنه، ووليّ عهده الرشيد أبي الحسن عبيد الله… فقال له ابنه الرشيد: يا أبت أتدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟ فقال: أي بني، والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدت الأندلس دار كفر، ولا تركتها للنصارى، فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام مثلما قامت على غيري، حرز الجِمال والله عندي خير من حرز الخنازير، فقال له ابنه: يا أبت افعل ما أراك الله، فقال: إن الله لم يلهمني هذا إلا وفيه خير وصلاح لنا، ولكافة المُسلميـن))[29](.
ثم عندما ندقق في واقعة خلع ملوك الطوائف على يد المرابطين نجد وكأنها تنفيذ حرفي لبيان صادر عن قمة حضرها زعماء الطوائف، حين خشوا على مواقعهم من مقدم قوة ابن تاشفين الفتية، على الرغم من جهده العظيم في إنعاش الأندلس عبر معركة الزلاقة، ووصيته الثمينة لهم بالاتحاد ونبذ عدو البلاد، مما لم تستوعبها نفوسهم المريضة بحبّ السلطة، إذ يقدم ابن الكردبوس رواية مهمة عن خلع ملوك الطوائف، فيقول: ( فحسدهم ]أي المرابطين[ ابنُ عباد وغيره من الرؤساء بقلة إنصافهم، وكثرة بغيهم واختلافهم، فاعتقدوا بهم المكر، وأضمروا لهم النكث والغدر، وخاطبوا ألفنش سرًا، أن يسعوا على المربطين سرًا وجهرًا، ويصيروا له المرابطين طعمة على أن يتركهم على ما بأيديهم عملًا، ويجبون له من الرعية أموالًا، فوقع الاتفاق على ذلك، وسرعوا في تدبير الأمر من هنالك)([30])؛ كما ينوه إلى إدراك ابن تاشفين خطط ملوك الطوائف: (وسرّ القوم في الغدر به، وعنده واضح، ومكرهم في الإيقاع به لائح، لكنه جرى على مرادهم، كأنه لا يعلم حقيقة اعتقادهم، وإنما كان غرضه أن يتبين للمسلمين مذهبهم، وسعيهم الذميم وطلبهم، كي تقوم له الحجة عليهم، عند امتداد يده في عقابه إليهم)([31]).
ولو عدنا إلى مذكرات ابن بلقين نجد أن المرابطين كانوا يشكلون هاجسًا بالنسبة له، وأنه كان يستشعر اللجوء إلى ألفونسو والتفاهم معه (مع احتمالية عدم الالتزام والغدر) الأقرب والأيسر لديه من التفاهم والاتفاق مع المرابطين، وبطبيعة الحال هو يسوق ذلك ضمن تصور يطرحه تجتمع فيه معاني (الضعف الداخلي والضغط الخارجي وفقدان المعين وكثرة الواشين) تبريرًا وتسويغًا، مما جاء متقاطعًا مع مدونات المؤرخين الذين سجلوا واقعة خلعه من قبل يوسف بن تاشفين، إذ نجد إجماعًا على أن ذلك كان بسبب تجدد التواصل والتعاقد مع ألفونسو السادس، فقد (كان جوازه الثالث -أي يوسف بن تاشفين- في سنة 483هـ، أنه لما كان على حصن لييط نُقل إليه عن ملوك الأندلس كلام أحفظه ووغر صدره عليهم، وهو الذي أزعجه إلى العدوة، ولما تبين لهم تغيره عليهم وإعراضه عنهم، نظر كل واحد منهم لنفسه بغاية حزمه، فأول من شهر ذلك وتظاهر به وجد فيه المظفر عبد الله بن بلقين بن باديس، واتصلت أنباؤه بيوسف بن تاشفين، فاشتد غضبه وزاد حرجه عليه… وتوالت عليه الأخبار من عبد الله بن بلقين بما يغيظه ويحقده)([32]).
لقد كانت القابلية لاستعداء الأشقاء والتعاون مع الأعداء حاضرة لازمة في نفوس زعماء الطوائف، وهو ما أفشل كل محاولات الإصلاح أو الدعوات للتوحيد التي قامت بها ثلة صادقة حينها قادها حينًا ابن الأفطس في لحظات التوهج وابن الباجي وابن تاشفين، أما حالة الصحوة التي مرت على البقية وقت الزلاقة فلم تكن كلها كما يبدو خالصة، فبين الصحو المؤقت والاضطرار للبقاء كان اتخاذهم لذلك الـقـرار.
خاتمة:
كانت هذه الصفحات استذكارًا سريعًا ومركّزًا لظاهرة بالغة الخطورة، وقعت في الأندلس قديمًا، ونراها اليوم تتوسع وتأخذ صداها دون اعتبار لنهاياتها، ولا عجب، فذلك حال الأمم التي غلب عليها التأخر، وزهدت في قراءة ماضيها، وبقيت متلذذة بالعيش في ظل السكون المشوب بالبؤس!
وبقي لنا أن نقول: إن الدرس التاريخي يعلمنا أن الفرقة والخضوع للعدو، والاستكانة والتذلل له، والتخلي عن معاني العزة الإسلامية، واعتماد سياسة التطبيع، إنما هي أساس للبلاء، وهو خيار -فضلًا عن بؤسه الأخلاقي- لن يكون نافعًا لمن استظل بظلال خصوم الأمة وقدّمها لقمة سائغة له.
لقد كان غالبية ملوك الطوائف في الأندلس يفعلون مع عدوهم ما يفعله المطبّعون الآن، يتمنّون رضاه ويقدّمون له نفيس الهدايا تقرّبًا وتذلّلًا، وهم يمنحوه -في نفس الوقت- أداة قتلهم ومحوهم!!
ومثلما كان المشهد مأساويًا زمن الطوائف فهو كذلك اليوم، لكن بوادر الخلاص بانت حينها في نمو قوة ساندة تعتمد الانتمـاء الإسـلامي سـبيلًا، وتسترجع أصل النهضة المرتكز على معنى الالتزام العظيم، فكما برزت دولة المرابطين لتمدّ الوجود الإسلامي بالحياة مجددًا قديمًا، نحن اليوم بانتظارٍ مليء باليقين المطلق بظهور القوة المخلصة التي ستعيد ترتيب المشهد من جديد.. بعد أن تستند إلى الوعي اللازم والارتباط الوثيق بأسباب الانتصار..
وما ذلك على الله بعزيز.
قائمة المصادر والمراجع:
أولًا: المصادر الأولية
- ابن بلقين، عبد الله، كتاب التبيان، تحقيق: أمين توفيق الطيبي، منشورات عكاظ، 1995.
- ابن الخطيب، لسان الدين (ت 776هـ/ 1374م)، أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يجر ذلك من شجون الكلام، تحقيق: ليفي بروفنسال، ط2، بيروت، دار المكشوف، 1956.
- ابن الكردبوس، أبو مروان عبد الملك التوزري (توفي في العقد الأول من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي)، الاكتفاء في أخبار الخلفاء، تحقيق صالح الغامدي، المدينة المنورة، 2008.
- مؤلف مجهول، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق: سهيل زكار، عبد القادر زمامة، الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثة، 1979.
- المقري، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى التلمساني (ت 1041هـ/ 1631م)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1988.
- النباهي، أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن (ت بعد 792هـ)، كتاب قضاة الأندلس المسمى كتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، ط5، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1983.
ثانيًا: المراجع الثانوية
- ثقافة التطبيع والحرب الناعمة، مركز الحرب الناعمة، 2021.
- الحجي، عبد الرحمن علي:
- التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، دمشق، بيروت، دار القلم، 1976.
- هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة (ظروفها وآثارها)، أبوظبي، المجمع الثقافي، 2003.
- دوزي، رينهارت، ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام، ترجمة كامل كيلاني، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012.
- عنان، محمد عبد الله، دولة الإسلام في الأندلس، العصر الثاني (دول الطوائف)، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1997.
- ابن نبي، مالك، ميلاد مجتمع، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط3، دار الفكر، دمشق، 1986.
- الناصري، أحمد بن خالد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري، محمد الناصري، الدار البيضاء، دار الكتاب، 1997.
ثالثًا: الدوريات
- لوعراك، محمد، اختراق ممالك النصارى للمجال الأندلسي خلال عصر الطوائف (قراءة في السياقات والأسباب)، المجلة الدولية لنشر البحوث والدراسات، الجزائر، م2، ع 18، 2021.
رابعًا: الرسائل والأطاريح
- سعيد يقين داود، التطبيع بين المفهوم والممارسة دراسة حالة التطبيع العربي ـ الاسرائيلي، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة بيرزيت، 2002.
********الحواشي********
([1]) ثقافة التطبيع والحرب الناعمة، (مركز الحرب الناعمة: 2021)، ص9ـ 10.
([2]) سعيد يقين داود، التطبيع بين المفهوم والممارسة دراسة حالة التطبيع العربي ـ الإسرائيلي، رسالة ماجستير (غير منشورة، جامعة بيرزيت: 2002)، ص135 ـ 136.
([3]) ابن الخطيب، لسان الدين (ت 776هـ/ 1374م)، أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يجر ذلك من شجون الكلام (الجزء الخاص بالأندلس)، تحقيق ليفي بروفنسال، ط 2، )بيروت: دار المكشوف، 1956)، ص144 ـ 145.
([4])ابن الكردبوس، أبو مروان عبد الملك التوزري (توفي في العقد الأول من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي)، الاكتفاء في أخبار الخلفاء، تحقيق صالح بن عبد الله الغامدي، (المدينة المنورة: 2008)، ص1220 ـ 1221.
([5])ابن الكردبوس، الاكتفاء، ص1225، ص1232، والفرَق بفتح الفاء: بمعنى الخوف، أو بكسرها بمعنى: الطوائف، الصفحة نفسها، هامش 6.
([6])ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 244.
(([7] التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، (دمشق، بيروت: دار القلم، 1976)، ص325 ـ 326.
([8]) ابن نبي، مالك، ميلاد مجتمع، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط 3 (دار الفكر: دمشق، الجزائر، 1986، ص38 ـ 39.
([9]) الحجي، عبد الرحمن علي، هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة (ظروفها وآثارها)، (أبوظبي: المجمع الثقافي، 2003)، ص27.
([10]) مجهول، مؤلف، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق سهيل زكار، عبد القادر زمامة، (الدار البيضاء: دار الرشاد الحديثة، 1979)، ص34.
([14]) مجهول، الحلل الموشية، ص47.
([15]) ابن بسام، الذخيرة، ق4، م1، ص165.
([16]) لوعراك، محمد، اختراق ممالك النصارى للمجال الأندلسي خلال عصر الطوائف (قراءة في السياقات والأسباب)، المجلة الدولية لنشر البحوث والدراسات، الجزائر، م2، ع 18، 2021، ص367.
([17]) المقري، أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى التلمساني (ت 1041هـ/ 1631م)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، (بيروت: دار صادر، 1988)، جـ 1، ص438.
([18]) الناصري، أحمد بن خالد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري، محمد الناصري، (الدار البيضاء: دار الكتاب، 1997)، جـ2، ص33.
([19]) ابن بلقين، عبد الله، التبيان، تحقيق: أمين توفيق الطيبي، (منشورات عكاظ: 1995)، ص97.
([20]) المصدر نفسه، ص138 ـ 139؛ وعن شواهد أخرى ينظر: ص 139 ـ 140.
([21]) ابن الكردبوس، الاكتفاء، ص1229 ـ 1231؛ ويورد في مواضع لاحقة عبارات تدل على الاستعانة بالعدو من أمثال: (واستعان عليه بالطاغية ابن ردمير) ص1234؛ (واستنصر بالفنش) ص1235، وص1240؛ وغيرها.
([23]) ابن الكردبوس، الاكتفاء، ص1246 ـ 1250.
([24])دوزي، رينهارت، ترجمة كامل كيلاني، ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام، (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص 125.
([25]) ابن بسام، الذخيرة، ق2 م1، ص249؛ ص251؛ 252؛ ويورد في تلك الصفحات نماذج على تبريرات ساقها المعتمد بن عباد لمواقفه ازاء الإسبان مما يتوافق مع ما ذكره ابن بلقين وسار عليه غالبية زعماء الطوائف لمنح أفعالهم الشرعية دون جدوى.
([26]) عنان، محمد عبد الله، دولة الإسلام في الأندلس، العصر الثاني (دول الطوائف)، ( القاهرة: مكتبة الخانجي، ١٩٩٧)، ص419
([27]) ابن بسام، الذخيرة، ق4 م1، ص166؛ ص248.
([28]) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص332.
([29]) مجهول، الحلل الموشية، ص44 ـ 45؛ وعن ظروف استدعاء ابن تاشفين وحوارات زعماء الطوائف ومخاوفهم ينظر كذلك: الناصري: الاستقصا، جـ 2، ص33 وما بعدها.
([31])المصدر نفسه، ص 1280؛ وحول خلع ملوك الطوائف، يراجع كذلك: ص1280 – 1284؛ وللمقارنة ينظر: النباهي، أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن (ت بعد 792هـ)، كتاب قضاة الأندلس المسمى كتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، ط 5، (بيروت: دار احياء التراث العربي، 1983)، ص 97.
([32]) مجهول، الحلل الموشية، ص 71.

اقرأ أيضًا:





تعليق واحد