ذكرى شكيب أمير الكلمة وفارس النهضة

ذكرى شكيب
أمير الكلمة وفارس النهضة
عمر ماجد السنوي
رئيس التحرير
إنّ لِلذّكرى سلطانًا يستدعي الغائب، ويُقيمه في المخيلة قيامَ الحاضر، ولا سيّما إذا كان المحتفَى به من أولئك الذين أُلقي في نفوسهم من العزم ما تتقاصر دونه الهمم، ونُفخ في أقلامهم من ضياء الروح ما يجعل الحرف كالنصل يمضي، وكالنور يشرق، وكالريح يعصف.
وفي مثل هذا اليوم، 9 / 12/ سنة 1946م، نستذكر رحيل أمير البيان شكيب أرسلان –ذلك الأمير الذي اصطفته العربية لتيجانها، واختارته النهضة لترجمانها- تنبعث صورته كأنها منقوشة على صفحة الدهر، لا يطويها مرور الأيّام، ولا يبليها كرور الأعوام.
شكيب أرسلان مزيج الدم والنار:
نشأ شكيب في بيئةٍ كانت العربية فيها هواءً يُتنفَّس، وتشرّب منذ فتوته ميراثَ الفصاحة، حتى غدا لسانه أشبه بأوتارٍ إذا نُقرت أصدرت من البيان أجراسًا تُسمِع المتلقّي وقعَ العربية في أنقى تجلياتها. وكان إلى ذلك حادّ المزاج على الحق، لا يرضى بالهون، ولا يعرف لسانه لغة المواربة.
إنك إذا قرأت سيرته رأيت رجلاً من طينة القادة الحكماء، ومن طراز المقاتلين الأقوياء؛ لا يفتأ يحاور قوى الاستعمار، ويراسل زعماء الشرق، ويقوّم اعوجاج الفكر، ويرصد طبائع السياسة، ويفتح على الناس نافذةً يرون منها ما خفي عليهم من خيوط المؤامرة.
وفي كتابه المشهور «لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم» -ذلك المشعل الذي ظلّ يتأجّج في فكر الأجيال- قدّم رؤيةً جريئة في تشخيص العلل وفتح أبواب الحلول، وبلغ فيه مبلغ المصلح الذي يرى في النقد إصلاحًا للخَلق، وفي المكاشفة وفاءً للحق.
قلم شكيب ديوان الأمة:
قلّما شهدت القرون رجلاً جعل من قلمه دولةً موازية، كما فعل شكيب أرسلان؛ فقد عاش في زمنٍ أدلهمّت فيه الخطوب، وتكاثرت فيه الحروب، وطغت القوى الأوروبية على البلاد العربية طغيانَ السيل إذا انطلق، فكان هو لسان العالم الإسلامي في المحافل الدولية: يراسل الوفود، ويؤازر الثورات، ويفضح حملات التغريب والاستعمار.
جاء في مكتوبٍ بعثَ به شكيب أرسلان إلى أحد أصدقائه عام 1935م، أنه أحصى ما كتبه في ذلك العام فوجده قد بلغ (1781) رسالةً خاصةً، و(176) مقالةً في الجرائد، و(1100) صفحةً من الكُتُب المطبوعة. ثم قال: ((وهذا محصول قلمي في كل سنة)).
- نضاله في قضايا الاستقلال:
كان يكتب إلى الساسة الأوروبيين رسائل ملؤها الصراحة المضرّجة بدم الحجة، ينقض فيها منطوقهم، ويُسقط دعاواهم، حتى عُدَّ من أعلم الناس بسياسات الغرب، وأبرعهم في تفكيك خططهم.
ولم يزل يتابع ثورات الشام، وحركات التحرّر في المغرب العربي، وقضية فلسطين التي جعلها في طليعة قضاياه، وكأنما أدرك أنّ الأيام ستجعلها محكًّا لصدق الأمم ومعيارًا لرجولتها.
- دعوته إلى الجامعة الإسلامية:
ولم يكتفِ بالسياسة اليومية، حتى حمل هَمّ وحدة الأمة، فكان يرى أن جسد الشرق لا يبرا من سقمه إلا إذا لزمته القوة الجامعة، وأن التفرُّق سمٌّ يسري فيها، وأنّ على المسلمين أن ينهضوا لزمانٍ تُقاس فيه القوة بالقوة، لا بالأماني المنسوجة في الهواء.
فِكرُ شَكيب وَقودُ النهضة وشرارة الوعي:
قد يشتدّ الرجل في السياسة، فيضعف قلمه عن الأدب. وقد يطير في سماء الفكر، فتنأى به اللغة عن حرارة الواقع. أمّا شكيب فقد جمع بين الحالتين جمعًا عجيبًا.
- تشخيص أمراض الأمة:
في كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم» تجلّت عبقريته؛ فقد قدّم تشخيصًا للأوجاع قبل أن يُكثر الناس من صياح الشكوى. وكان يرى أن الحضارة لا تنهض بالأماني والكسل، بل بالعقول التي تُحسن العمل، والضمائر التي تتخلق بالجدّ، والقلوب التي تعشق العلم والكرامة.
- موقفه من التاريخ والتراث:
لم يكن الرجل أسيرًا للماضي، ولا قاطعًا الحبلَ الموصول بتاريخ الأمة؛ بل كان يمتح من تراث العربية شجاعتها، ومن حاضرها ألمها، ومن مستقبلها أملها. وكانت قراءته للتاريخ عبرةً، ونظره في التراث مرقاة، لا صنمًا ترفعه العقول جامدةً أمام أعينها وتتفاخر به دون عمل موصول.
- دفاعه عن اللغة:
وقد وقف -كما وقف الأوائل- موقف المنافح عن العربية في وجه المحْدَثين الذين أرادوا تجريدها من سلطان البلاغة. فكتب يردّد أنّ اللغة روح الأمة، وأن كسرها ليس كسرًا في للقواعد فحسب، وإنما هو كسرٌ في هيكل الهوية.
حين يُصبح الأسلوب عقيدة:
كان شكيب أرسلان كاتبًا من طرازٍ يعسر على الدهر أن يجود بمثله. ولعلّ سرّه في ذلك أنه لم يرَ الكتابة زينةً للورق، وإنما رآها رسالةً تؤدَّى، وجهادًا يُخاض، وعهدًا يُحمَل مدى الدهر.
- بنية العبارة:
تراه يبدأ فكرته بتمهيدٍ يشبه السيل حين يشقّ طريقه في الجبل، لا عنفَ فيه ولا رخاوة، ثم يبني عليها طباق من الأدلة.. يسوق النصوص، ويُحكِم الربط، ويُشيِّد الفكرة تشييدًا محكمًا، حتى تخرج كلُّ فقرة كأنها قصرٌ مشيد، منسَّق الأبواب والشرفات.
- حرارة الحجة:
لم يعرف المواربة؛ فإن كتَبَ كتب بقبضةٍ من نار، حتى ليخيّل إليك أنّ بين الحروف نَبضًا، وأن وراء كلّ جملة قلبًا يثور. وهذه السمة هي التي جعلت كتابته تُقنع خصمه قبل صديقه.
- عنايته بالفصاحة والتركيب العربي:
كان يحرص على أن لا تخرج الكلمة من بين شفتيه أو من قلم يده إلا وفيها رسمٌ من مدرسة التراث، وملمسٌ من بلاغة الجاحظ وأبي حيان، وجلالٌ من خطاب المتقدّمين. حتّى أنه ليُشمّ من عبارته عبق القرون الخالية، كأنها خرجت من مجلسٍ يُتلى فيه البيان كما يُتلى القرآن.
ذكرى شكيب وجرس الزمن الذي لا يخفت:
رحل شكيب أرسلان، ولكن الدهر لم يطوِ أثره؛ فما زالت مقالاته تتردّد في الآفاق، كأن صوته قائم خلف ستور الغياب، وما زالت أعماله السياسية تُقرأ كوثائق لأمة تنازعتها الأمم، وما زالت عباراته نارًا متوقدة في ليل اليأس.
قد يظن البعض أن ذكرى رحيله مزار للعاطفة، ولكنها في الحقيقة مرآةٌ تُرينا كيف يكون الرجل أمةً، والقلمُ دولةً، والفكرةُ سيفًا مصلتًا.
سلامٌ عليه يوم نُودي من ثرى لوزان، وسلامٌ عليه يوم سقطت رايات الشرق فلم يسقط، وسلامٌ عليه يوم تُعاد قراءته في هذا الزمان المنكسر؛ علّ قارئًا من بعدنا يجد في سيرته ما يعيد للأمة شيئًا من وهجها الأول.




