مقالات

ديمقراطية الرداءة: حالة النقد العربي اليوم

ديمقراطية الرداءة:
حالة النقد العربي اليوم

 

د.محمد عبيد الله

أكاديمي وأديب وناقد ومحقق أردني

 

فقدَ النقدُ العربيُّ اليومَ الكثيرَ مِن تأثيرهِ وحضورهِ، بالرغم من اتساع إنتاجه وكثرة الممارسين له على نطاق واسع، في الجامعات وخارجها.

أما أسباب هذا “التراجع” و”خفوت” التأثير مقارنة مع دور النقد في عقود سابقة، فيعود إلى أسباب مركّبة متداخِلة. منها:

– اختلاف أو تغيّر وظيفة النقد:

في ظل اتجاهات ومناهج جديدة صعدت في العقود الأخيرة، معظم هذه الاتجاهات تنتصر للوصف وتبتعد عن الحكم والتقييم، وقد يكون الوصف والتحليل مغريا في ظاهره ولكنه يُفقد النقد وظيفة مهمة تتصل بدوره في تقييم الإنتاجات الإيداعية واتجاهاتها وتطورها، فليس الأمر مقتصرا على الفصل بين الجيد والرديء كما يظن البعض وإنما يتعدى ذلك إلى ترسيم خارطة الأنواع تاريخا ومستقبلا.

– كثرة الإنتاج الأدبي كثرة بالغة:

هذه الكثرة أدت إلى قدر واسع من الفوضى، بما في ذلك فوضى النقد نفسه، فاختلطت الأمور وفقدنا حضور الناقد بوصفه قوة يرتكن إليها، ويعتدّ برأيها. لم يعد لأحدٍ رأيٌ يؤخذ به، صار للكل وجهات نظر!

– ظهور منصات مؤثرة مثل الجوائز والمؤسسات الثقافية والأدبية الكبرى:

هذه الجوائز والمؤسسات تحرك المشهد الثقافي وتتحكم فيه، والناقد أصبح موظفًا غير مستقل يتبع هذه المؤسسات وينضوي تحت منطقها ونظامها، قد يشارك في تحكيم الجوائز أو الكتب بمنطق تلك المؤسسات ومعاييرها، ولكنه يظل في خلفية المشهد بلا حول ولا قوة.

– اتساع ممارسة النقد نفسه وتيسير شروط “الانضمام” إلى زمرة النقاد:

يظهر ذلك جليًا في الاختلاط بين ألوان من الكتابة الأكاديمية والبحوث العلمية التي تهدف غالبًا إلى الترقيات والأعمال الجامعية، وتفتقر إلى روح النقد الوثّابة المؤثرة.

– الممارسات شبه “النقدية” عبر المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل ونحوها:

وهذه تشبه ما سبق، إذْ لم يعد للنقد ولغير النقد أسسٌ ومطالبُ واستعداداتٌ، هناك جرأة على ممارسة الكتابة والنقد لا نظير لها في العقود السابقة، وفي ظل غياب حواضن ومرجعيات يصعب أن تقنع هذه الجحافل أن ما يكتبونه ليس نقدًا، مثلما يصعب أن تقنع الكتّاب أنفسهم أنّ ما يكتَب عنهم من هراء لا أساس له من صنعة النقد ورشده وفطنته.

– النقد الوظيفي:

النقد الجيد ما زال موجودا لكنه ضائع وسط هذه الفوضى الغامرة التي تكلل ثقافتنا الراهنة كلها، إبداعا ونقدا وفكرا وممارسة. أغلب النقد الجيد لا يستفاد منه ولا يجد له مكانا، لا في المؤسسات المؤثرة ولا في دوائر الجوائز ونحوها، وإنما يبدو أن المطلوب هو “ناقد” العلاقات العامة، الذي يفتقر للأصالة والاستقلال والموقف، وظيفته أن يتمم المشهد الاحتفالي والاحتفائي فحسب!

– التقاليد الجديدة:

الكتّاب اليوم في معظمهم يمارسون “شبه” نقد، بحكم التقاليد الجديدة وأجواء الاحتفالات والترويج لمؤلفاتهم ومشاركاتهم في التظاهرات الثقافية المختلفة، تجدهم يتحدثون بحكمة مفتَعَلة، وتطورت ألوان من الأحاديث الثقافية (أقرب إلى الهراء) حلت محل النقد، وحل خطاب الكتّاب مكان الخطاب النقدي، الذي لا يتم استدعاؤه أو الاستعانة به في غالب الأحيان. وما دام الكاتب يروج لنفسه وبمقدوره أن ينقد أعماله وأعمال غيره فما الحاجة إلى الناقد؟

هذه ألوان من “ديمقراطية الرداءة” تتسع اليوم وتتسبب في كثير مما نحن فيه، ولعل ما نسميه غياب النقد أو تراجعه ليس بعيدًا عن نتائجها وملابساتها.

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى