مقالات

جعفر ضياء جعفر رائدًا

وفاء للأوفياء
جعفر ضياء جعفر رائدًا

 

بقلم:
البروفيسور: سامي المظفر

عالم كيميائي عراقي
عضو المجمع العلمي العراقي

وعضو الأكاديمية الإسلامية للعلوم
ووزير التربية، ثم وزير التعليم العالي، سابقًا

 

لم يكن جعفر ضياء جعفر مجرّد عالم فيزيائي نشأ في زمن الحروب والتحوّلات، بل كان واحداً من الأسماء النادرة التي استطاعت أن تربط بين قوة الشخصية وحسّ المسؤولية الوطنية. كان رائداً لأنّه حمل مشروعاً علمياً في بيئة تتنازعها السياسة والاضطراب، فبنى مع زملائه منظومة بحثية معقدة بوسائل محدودة، وبطموح لا ينسجم مع واقع البلاد يومها.

تفوّق في ميادين الفيزياء النووية ونمذجة التفاعلات، لكنه تفوّق أكثر في القدرة على تحويل المعرفة النظرية إلى برنامج عمل، وصياغة رؤية علمية كان يمكن لو استمرّت أن تغيّر وجه البحث العلمي في العراق.

كان رائداً لأنّه أدرك مبكّراً أنّ العلْم مشروع دولة لا مزاج عالِم، وأن الحداثة ليست شعاراً بل بنية تحتية للعقل وللمكان.

وفي سيرة جعفر، تتقاطع التجربة الشخصية مع قصة بلدٍ كان يحاول أن يصنع لنفسه مكاناً في عالم الفيزياء النووية، بين الطموح المحلّق والقيود الثقيلة. لذلك بقي اسمه علامةً على مرحلة كاملة من الطموح العلمي العراقي، بما لها وما عليها.

لم يكن جعفر ضياء جعفر مجرّد عالم فيزيائي صعد اسمه في مرحلة ملتهبة من تاريخ العراق، بل كان واحداً من تلك النماذج النادرة التي تجمع بين الذكاء الصارم، والانضباط العلمي، والإيمان بأن المعرفة يمكن أن تكون مشروع خلاص للأوطان. في زمنٍ تتنازعه الشعارات الكبيرة وضيق الإمكانات، برز جعفر كعقلٍ هادئ يعمل بصمت، لكن أثره ظلّ أعلى من ضجيج المرحلة وأقوى من اضطرابها.

يدرك جعفر ضياء جعفر أن العلم ليس ترفاً بل هوية، وأن بناء القدرات العلمية في دولة فتية يشبه بناء جدار لا يسمح بمرور الرياح ولا يَترك للانهيار فرصة. ومع تسارع الأحداث السياسية والحروب التي عصفت بالمنطقة، وجد نفسه أمام مهمة ليست عادلة: أن يشيّد منظومة علمية متقدمة في بيئة غير مستقرة، وأن يرفع سقف الطموح العلمي بينما الجغرافيا تضيق، والقرارات السياسية لا تمنح الباحث ما يحتاجه من أفق!

كان جعفر ضياء جعفر رائداً لأنّه لم يكن أسير المختبر فحسب، بل كان رجل رؤية، يُدرك أن العلوم النووية ليست مجرد معادلات وتفاعلات، بل منظومة تفكير تبدأ بالتجربة وتنتهي ببناء مؤسسات. ساهم في تأسيس برامج بحثية معقدة، ووضع أسساً لتقنيات متقدمة في الفيزياء النووية ونمذجة التفاعلات، ورعى أجيالاً من الباحثين الذين وَجدوا فيه معلماً أكثر من كونه مسؤولاً.

ومع ازدياد الضغوط الدولية وتبدّل موازين القوى، كان جعفر واحداً من القلائل الذين حاولوا أن يحافظوا على المعايير العلمية وسط عواصف السياسة. لم يكن أمامه خيار الرفاه العلمي الذي ينعم به العلماء في بيئات مستقرة، لكنه اختار أن يصنع من القليل كثيراً، وأن يدفع بالبحث العراقي نحو أفق لم يكن الوصول إليه ممكناً لولا تلك الإرادة الصلبة.

لقد ظلّ جعفر ضياء جعفر حتى خارج السلطة العلمية رمزاً لتلك المرحلة التي حاول فيها العراق أن يصير دولة متقدمة في ميادين الفيزياء والعلوم النووية. ورغم اختلاف المواقف السياسية وتباين القراءات التاريخية، بقي الرجل عنواناً لطموح علمي مبكر كان يمكن أن يأخذ البلاد إلى مكان آخر لو توفرت له بيئة داعمة ورؤية سياسية بعيدة النظر.

إنه ليس مجرد “عالِم”، بل أحد أواخر الأدلة على أن العراق، رغم الجراح، كان يملك رجالاً يرون أبعد مما تراه السلطة، ويعملون أصعب مما تسمح به الظروف. وحين نكتب عنه اليوم، فإننا نكتب عن نموذج لرجلٍ آمَن بأنّ مستقبل الوطن لا يُبنى إلا على المعرفة، وأنّ العالِم الحقيقي هو من يترك خلفه مؤسسة، لا مجرد سيرة ذاتية.

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى