مقالات

توجيهات في أخلاقيات الباحث والمشرف

توجيهات في أخلاقيات الباحث والمشرف

 

د. معتز أحمد رفاعي

أكاديمي ومحقق مصري
مختص في السيرة النبوية ومناهج البحث 

 

إنّ مما أوصي به الباحثَ دومًا أن يتمسك -ضرورةً- بمبدأ توقير الأستاذ المُشرف وتقديره، مع الالتزام بالآداب العامة للحوار العلمي، ومنها (خفض الصوت) و(الامتثال للتوجيهات)، بَيْد أنّ هذه التوصية تقترن بضرورة الحفاظ على الكرامة الذاتية للباحث، والتي تُعَدّ ركيزة أساسية لا يَجب التنازل عنها تحت أيّ ظرف، حتى وإن كان ذلك مقابل تحقيق هدف أكاديمي كالدرجة العلمية، ولو كان بها مطعمه ومشربه.

وفي هذا السياق: يجب على المُشرف أن يُميِّز بين النقد العلمي البناء الذي يُثري البحث، وبين التعدي الشخصي أو التهكم الذي يخرج عن سياق المناقشة الأكاديمية الموضوعية، وفي حال وقوع الأخير، فإن المقتضى الأخلاقي والأكاديمي يوجب على الباحث الرد الحازم والواضح دون تردد، رفضًا قاطعًا للضيم أو المهانة أو المذلة.

أستعرض موقفًا شخصيًّا قد وقع معي قبل خمسة عشر عامًا، تجسّد فيه التحدي بين (النزاهة العلمية) و(الاحترام الشخصي)، كنتُ قد ارتكزت في مسيرتي العلمية منذ بدايتي على منهجية تعدد التخصصات بهدف بناء شخصية علمية ذات قاعدة معرفية موسوعية بالمفهوم المعاصر، ومن هذا قد تقدّمتُ برسالة بحثية رصينة في جامعةٍ ما، لاقت قبولًا وانبهارًا واسعًا من لجنة الإشراف المشتركة (مُشرفة ومُشرف) بل ومن رئاسة القسم بأكمله.

بعد الانتهاء من إعداد الرسالة وعرضها، ظهرت ملاحظات من الأستاذ المشرف، تضمنت تجاوزًا لحدود النقد العلمي إلى استخدام أسلوب تهكمي غير لائق، كقوله: “يا علّامة يا جهبذ، أنت تنتقد السيوطي يا جهبذ!”… إلخ.

تجدر الإشارة إلى أن رسالتي العلمية كانت قائمة على النقد الموضوعي لبعض ما سطّره الإمام السيوطي في سياق تاريخي وحديثي، وهو أمر مألوف ومقبول في منهجية البحث العلمي الرصين، ولا يمسّ مقام الإمام الجليل بشيء قط؛ فأنا أبعد الأبعدين عن النيل من الأئمة متقدميهم ومتأخريهم.

وقد تصاعد الخلاف حينما تطرّق المُشرف –المتخصص في التاريخ الأندلسي في إطار تقسيم تخصصيّ دارج في الجامعات المصرية– إلى مناقشة مسألة حديثية في متن البحث، وقد استغرب المُشرف من حُكمي على إحدى الروايات، رغم أني بيّنت أن مصدر الرواية يُعاني من انقطاع في الإسناد يصل إلى قرون عديدة، وهو تفصيل لا يتطلب الرجوع إلى مصادر الجرح والتعديل المشهورة، مما عكس تباينًا معرفيًا.

حينها ظهر عليّ ما قد يُفهم منه استقلال علمي أو تقليل من قيمة الأستاذ في هذا الجانب الحديثي، بادر الأخير بالادعاء بأنه صاحب مؤلَّف في علم الجرح والتعديل، أثار هذا الادعاء استغرابي ودهشتي لعلمي المُسبق بمحدودية إلمامه بهذا الفن، ما أدّى إلى ردّ فعلي يوحي بالاستخفاف، وهو ما أثار حفيظته بشِدّة، وهدّد بوقف الإشراف وإلغاء موعد المناقشة، في حضرة المشرفة التي حاولت التهدئة.

ظن المسكين أنني سأتوسل إليه حينها وأعتذر وبشدة و… و… و… لكن واجه إصراري على موقفي حيث أكدتُ على أصالة البحث ورفضي التام لقبول التعدي الشخصي المتضمن عبارات التهكم التي صدرت منه، وشددتُ على أنّ النقد العلميّ محلّ ترحيب واسع، أما المساس بشخصي وكرامتي فإنه غير مقبول على الإطلاق، وعلى إثر ذلك؛ سحبتُ من يديه نسخة رسالتي وكذا من المشرفة وغادرتُ، في موقفٍ غير مسبوق في الوسط الأكاديمي، ما زالوا يتحدثون عنه حتى الآن.

ورغم قرب موعد المناقشة، رفضتُ المضي قدمًا في الإجراءات، لرفضي أن أُقيَّم أو يُقلَّل من شأني في ظِلّ وجود مَن أساء إليَّ شخصيًا.

لقد أثمر هذا الموقف عنادي، حيث قدمتُ رسالتي في جامعة أخرى أكبر وأعرق، وقُبلت الرسالة، ونلتُ الدرجة العلمية، وتمّ نشر البحث، وحظي بانتشار واسع في كثير من المكتبات الجامعية حول العالم بفضل من الله ومِنّة.

الخلاصة:

إني أوصي الباحث بالتمسّك بالعزة الذاتية، والنزاهة الأكاديمية؛ فيجب على الباحث أن يكون مرنًا في قبول النقد العلمي مهما كان مستواه أو مصدره، وأن يُرحب بالمراجعة والتقييم والنقد العلمي، وفي المقابل لا ينبغي مُطلقًا التسامح مع أي شكل من أشكال الضيم أو الاستخفاف بالذات، فالعلم لا يُكتسب بالتنازل عن الكرامة.

 

د/ معتز أحمد رفاعي زارع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى