نصوص أدبية

أبو عبيدة يتلو خطاب النصر

أبو عُبيدة
يتلو خِطاب النصر!

 

ياسر عبده

كاتب وأديب مصري

 

غدًا يُنادي المنادي: حيّ على الجهااااد.. يا خيل الله اركبي!

فنمتطي المَطايا، غير راهبين المَنايا، ونُجيبُ منادي الله: يا لبيك!

نجاهد جنبًا إلى جنب مع سرايا القدس وكتائب القسام، وتَسمع الآذانُ مُلثَّمًا فصيحَ اللسان عذْب البيان يحثّ على الجهاد فنميل بعضًا إلى بعض ونتهامس، كلٌ إلى صاحبه بالجَنب يُسائله: أليس هذا أبو عُبيدة؟ ليُجيب: لا، بل هذا أبو حمزة، ويطرب بعضنا للصوتِ الجهور والعزم الجسور في كلمات المنادي بين أصوات المدافع وهو يقول: “وإنَّه لجهاد نصرٌ أو استشهاد” فنقول: يا لجمال كلامك يا أبا حمزة! فيبتسم أحد أهل فلسطين ويقول: يا أحباب! بل هذا أبو عُبيدة ..

فتشتعل فينا العزيمة، ونوقع ببني صهيونٍ شرّ هزيمة، فما ينجلي الصباح إلا بنصر من الله وفتح مبين، فنُولّي وجهنا شطر المسجد الأقصى مهللين مُكبرين، ونقيم للقسّام وللمجاهدين في ساحات الأقصى منصة تكريم([1])، سيصعد عليها أمير الظل (عبد الله البرغوثي) وأبو العبد (إسماعيل هنية) وأبو الوليد (خالد مشعل) والبطل المغوار محمد ضيف، وأبو عُبيدة، ويحي السنوار، وأسرانا في سجون الاحتلال وكل الأبطال، وبالخلف صورة أحمد ياسين وعز الدين القسّام وعبد العزيز الرنتيسي وكل الشهداء..

سنهتف بصوتٍ جماعي: قال القائد إسماعيل.. ليُجيب هنيّة بدموع الفرح: لن نعترفَ.. لَمْ نعترف.. لَمْ نعترف بإسرائيل.

ثم ننظر إلى هذا البطل القعيد على كرسيه بقدم واحدة ويد واحدة([2]) فتتملكنا الدهشة: أهذا الذي دوَّخ بني صهيون؟! فنهتف بالعزة: حُط السيف قبال السيف.. إحنا رجال محمد ضيف.

سننادي خالد مشعل: أبو خالد يا حبيب.. إحنا مَلَكنا تل أبيب!

وننادي المُجاهدات الأمهات والبنات.. لله درُكنَّ! حُزتُنَّ الشرف من كل أطرافه!

غدًا.. ننثر الورود على رؤوس الأبطال الأماجد.. ونردّد وإياهم في صوت واحد: الله أكبر الله أكبر.. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده.

غدًا.. يظهر من بين القادة ذلك المُلثم فيصيح الناس: أبو عبيدة! فيبتسم القادة ويُقدّمونه ليقرأ خِطاب النَّصر، فيعم الصمت المكان، وتشرئِب له الأعناق والأجسام، وتصغي لحديثه الآذان، وتتوقف لسماعه أنفاس الزمان؛ فيشدو بعزة الإسلام: “الله أكبر.. سقطت خيبر” فتنهمر من خطابه دموع الفرح أنهارا، وينجلي الظلام فلا يُرى إلا نهارا.

حتى إذا فرغ من خطابه شَقَّ الصفوف رجلٌ أرهقه الفضول فيقول: “يا أبا عُبيدة! رأينا كل القادة وعرفنا اسمهم ورسمهم، إلا أنت، عرفنا كُنْيَتك وما رأينا وجهك، ولا عرفنا اسمك!” فيُميط اللثام عن وجهه ويقول: هذا رسمي، فيُسفر عن وجهٍ كالقمر، فنهتف بالتكبير.. سبحان الخالق القدير!

ثم يتَّحين رجلٌ آخر -لم يُشْبِع فُضوله- لحظةَ صمتٍ من الناس فيقول: هذا رسمك، فما اسمك؟ فيقول: “اسمي هو…”، فيهتف الناس: ” أبو عبيدة يا حبيب.. لا تُجيب لا تُجيب”. يريدون أن يبقى في ذاكرتهم “أبو عبيدة”.

غدًا.. يرانا أهل فلسطين بينهم نتدثر بالحياء، ونعتذر بالخجل عن التقصير في نصرتهم؛ فيلحظون حياءنا، فيهتفون بنا: “يا إخوتنا! يا أحبتنا! )لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم(؛ فيزول عن صدورنا جاثوم الهموم.

غدًا.. ينادي قادةُ النصر على أهل البلاء: هلمّوا إلى التكريم..

يا أم يوسف! صاحب الشعر الكيرلي، وابيضاني وحلو! آهٍ لو رأيتهِ يا أمّهُ في الجنة يرتع ويلعب، قد حُزتم به الحُسنيين “النصر والشهادة”.. فتغمرها الفرحة ونشوة النصر.

ويقال: يا أبا يوسف! ما كنتَ تقول يوم رأيتَ ولدك مُسجّى بدمه؟ فيضع يده على صدره ويقول من أعماق قلبه: الحمد لله.. فتتنهد الزوجة الصابرة وتردد خلفه: الحمد لله!

ثم يُنادَى على ذلك الشيخ الكبير الذي كان يبكي بحرقة حين قُصف داره ويقول: “دارنا راح، وين بدنا نقعد؟” أيها الشيخ الجليل: هذه دارُ مَن هدمَ دارَك فاسكُنها ولك في الجنة خيرٌ منها إن شاء الله.

غدًا.. يقال: يا أصحاب الهدم ادخلوا مساكنكم، فقد أورثكم الله ديارهم وملّككم أموالهم، وما عند الله خير لكم وأبقى.

غدًا.. يُنادَى على كل الصابرين المرابطين: يا أهل البلاء هلمُّوا فقد كَتبْتم أسماءكم في أشرف سجلّ للتكريم.

يا أيها الأب الذي فقد صغيره فرفعه بيديه متوجهًا به نحو السماء يُكلِّم ربه: “هل رضيت يا رب؟ خذ من دمائنا وأولادنا حتى ترضى يا الله” رضي الله عنك يا أخي وأرضاك.

أيها الطفل الصغير الجميل الذي طلب من الله أن لا تُقطَع رأسه حتى لا تراه الملائكة بَشِعًا.. يا صغيري! الملائكة لا تراك بشعًا، الملائكة لا يرونك تقِلّ عنهم جمالا.

إلى تلك الصغيرة التي رأت أمها شهيدة مغطاة بالدم لم يعرفها أكثر الناس فقالت: “هي والله هي بعرفها من شعرها” غدًا يا ابنتي تعرفينها من نضرة النعيم في وجهها.

إلى تلك الأم المسكينة التي زاد من فجيعتها أنْ ماتت صغيرتها قبل أن تُمِدَّها بالطعام، قَرّي عينًا أيتها الصابرة ابنتك مع الشهداء يُمِدُّهم ربهم بفاكهة ولحمٍ مما يشتهون.

إلى ذلك المولود الذي مات في اليوم الذي ولد فيه فاستُخرجت له شهادة وفاة ولم تُستخرج له شهادة ميلاد، هنيئًا لك بحياة كاملة في الجنة دون عناء الدنيا يا ولدي.

وإلى ذلك الشيخ الراسخ كالجبال، الواقف بين الجموع تنهار دموعه لأول مرة بعد أن كان ينهى الناس عن البكاء، فيلمَحه آخر صلب اليقين مثله فيقول مداعبًا: “تعيطِشْ يا زلمة، يا زلمة هذي أرض جهاد وأرض رباط، أليس هذا قولك؟” فيتبسم ضاحكًا ويقول: وأرض نصر.

غدًا.. تُرفع أكُفّ الدعاء لأحمد ياسين، ويُقال: يا شيخ المُجاهدين هذه المقاومة التي أنشأتَها تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، فذق منها أطيب الثمار يا كرّار.

غدًا.. نُلقي جثث كلاب اليهود فى قليب واحد كقليب بدر، ونلفُظُ من تبقى منهم ونلقيه مذمومًا مدحورا.

غدًا.. يعضُّ أشباه الرجال على أيديهم من الغيظ يقولون: “يا ليتنا اتخذنا مع المجاهدين سبيلا” فنقول: لا سمح الله أبدًا.

غدًا يُرفعُ الأذان من عسقلان وينادى للجُمعة في تل أبيب، وتُعلن الأرض كلها أرض إسلام.

غدًا.. تعود إلى الأرض المُحتلة سيرتها الأولى وتسميتها الأولى، نُعيد إلى تل أبيب اسمها الأول “يافا” ونعيد بير شيفع “بئر السبع”، ونعيد تسمية أكثر من سبعة آلاف موقع فلسطيني، وخمسة آلاف اسم مكان جغرافي إلى أسمائها القديمة.

 غدًا… نُحيل الأنفاق إلى مزارات وشواهد للنصر، ننقش على جدرانها أسماء الشهداء من كل عصر.

غدًا.. يُنادِي الشهداء من السماء على أهل الجهاد: )إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا( فيقع الصوت في آذان قلوبهم ليجيب اللسان: {نعم}.

غدًا.. موعدنا على حوض رسول الله نقطع الأشواق برؤيته، وتكتحل عيوننا به وبصحابته، فنقَدّم له أهل الجهاد، وقبل أن نقول: هذا فلان وفلان، يقول: “نعم أعرفهم وإنّا إلى رؤيتهم لَبِالأشواق”.

غدًا نرى أبا عبيدة بن الجراح وأبا عُبيدة بن القسام يتعانقان ويدخلان الجنة بسلام.

غدًا.. في الجنة يُنادي الرحمن: “يا أهل البلاء! هل رضيتم؟” فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.

غدًا.. يُعانق كلُّ مبتلًى فقيدَ قلبِه ويَقطع وَحْشتَه.. حيث لا فقْدَ بعدها أبدا.

غدًا.. في الجنة يرانا أبو عبيدة بن القسام ونراه، وابن الجرَّاح ومُثَنّاه..

بل.. غدًا نرى رسول الله..

لا… بل غدًا نرى الله!


([1]) كتبت هذا قبل استشهاد كثير منهم رحمهم الله.

([2]) كانت هذه هي المعلومة السائدة عن الحالة الصحية لمحمد الضيف قبل عملية طوفان الأقصى، فتَبَيَّنَ عدم دقّتها.

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى