
هل النحو ميزانُ القرآن والشعر واللغة؟
عمر ماجد السنوي
ليست العربية في حاجة إلى يومٍ عالَمي لنُحبّها، لكنها في حاجة إلى يومٍ نُحسن فيه النظر فيها، ونراجع فيه أدوات فهمها، ونردّ كلَّ علمٍ إلى موضعه الصحيح منها. ومن أكثر ما أُسيء فهمه في تراثنا اللغوي: علم النحو، حين جُعل قيدًا على اللغة، وحاكمًا على النصوص، وسيفًا مصلتًا على القرآن والأشعار.
وقد انتشرت بين المعاصرين مقولة لأبي العباس ثعلب رحمه الله، وحُمِلَت على غير الصواب، جاء فيها: «لا يصحّ الشعر، ولا الغريب، ولا القرآن، إلا بالنحو؛ النحو ميزان ذلك كلّه». وهي كلمة لا تحتمل الظاهر البسيط، ولا تُفهَم إلا في سياقها العلميّ، وعلى طريقة أهلها.
لم يُرِد ثعلب -ولا أحد من أئمة العربية- أن النحو ميزان الحكم على صحة النصوص، أو أنّه يتقدّم عليها، أو يكون معيارها للقبول. فهذا فهم مُحْدَث لا يعرفه المتقدِّمون. وإنما أرادَ أن النحو طريقة للفَهم، وميزان للدلالة، وآلة للكشف عن المراد؛ فمن هنا جاء قولهم: (الإعراب فرع عن المعنى). أما النص فهو الأصل الثابت، والمعنى المقصود، والنحو وسيلة الوصول إليه، لا أصل الحكم عليه.
فالقرآن الكريم يُتلقَّى كما نزَل، وتُحفظ قراءاته كما رُوِيَت بالأسانيد، ولا يُردُّ شيءٌ منها لأجل قاعدة نحوية ضاقت عنه. بل القاعدة هي التي تتّسع للنصّ، لا النص الذي يُحشر في القاعدة. ولهذا كان ثعلب شديدَ التوقير للقراءات كلّها، يسعَى في تَوجيهها، ويَطلب لها الشاهِد، ولا يقدِّم عليها رأيًا ولا قياسًا. وقد أبنتُ عن ذلك في دراستي التي بعنوان «مواقف أهل اللغة من الاحتجاج بالقراءة الشاذة».
وكذلك الشعر؛ فهو ديوان العرب، وشاهِد لغتهم الأوّل، رُوي عنهم بالسماع المتّصل، فلا يُصحّحه النحو من حيث هو نحو، بل يُفهم به، ويُستضاء به على مراد قائله. فإذا خالف ظاهر القاعدة لم يكن ذلك طعنًا فيه، بل دليلًا على سعة اللسان، وضيق التقعيد.
ومن هنا يَصحّ أن يُقال: إنّ النحو منطق العرب العقلي الأصيل، لا المنطق الأعجمي الدخيل. فالنحو ليس مجرد عِلم يكشف طرائق تعبير العرب، بل هو دليل على عبقرية واضعيه الذين استخرجوا قواعدهم المنطقية في معرفة الأساليب الخطابية، التي تعكس أفكارهم، وتطابق مرادهم، وتظهر علاقات الألفاظ بالمعاني، حتى صارت تلك القواعد نموذجًا صالحًا للتطبيق على سائر العلوم، مثلها في ذلك مثل فنّ المنطِق عندَ غيرِهم، الذي يُدرَس لمعرفة طرائقَ النظَر والاسْتدلال.
وهذا المعنى هو الذي دار حوله السِّجال الشَّهير بين أبي سعيد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس المنطقي، وهي المناظرة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة». ولم يكن الخلاف يومئذٍ في فضل عِلم على عِلم، بل في سؤالٍ أعمَق: هل تحتاج العربية في فهمها إلى منطقٍ وافد، أم يكفيها منطقها الذي نشأت عليه؟ وكان جواب التراث واضحًا: لكل أمة لسانها، ولكل لسان منطقه.
وليس غريبًا بعد ذلك أن نجد النحو أساسًا لكثيرٍ من العلوم، وفي مقدّمتها فقه الشريعة الإسلامية. فقد رُوي عن أبي عمر الجرمي -وكان من أهل الحديث- أنه لما تمكّن من النحو صارت له به مَلَكة في الفقه، حتّى قال: «أنا منذ ثلاثين سنة أُفتي الناسَ في الفقهِ مِن كتاب سيبويه». وليس في هذا مبالغة، ولا دعوى عارية، وإنما هو وصف دقيق لأثرِ قواعد النحو في تَهذيب الفَهم، وتمكين الاستدلال، وضبْط الدلالة، ومنع التسرّع في الاستنباط.
فالنحو -على حقيقته- ليس علم الإعراب وحده، ولا حفظ القواعد المجردة، بل هو عقل العرب، وميزانهم المنطقي، الذي به تستقيم المعاني، وتُعرَف المقاصد، ويُؤمَن الغلَط.
ولعلّ أنفع ما نُذكّر به في اليوم العالمي للغة العربية: أنّ حفظ العربية يكون بإحياء علومها على وجهها الصحيح، وردّ النحو إلى مكانه الحقيق: خادمًا للنص، أمينًا على معناه، شاهدًا على سعة هذا اللسان وجلالة عقول أهله.




