نحو عقد اجتماعي عراقي بعقل بارد وقلب حار

نحو عقد اجتماعي عراقي
بعقل بارد وقلب حار
عمر ماجد السنوي
رئيس التحرير
في المنعطفات الكبرى، لا تُنقَذ الأوطان بكثرة الكلام، بل بالفكرة التي تُقال في وقتها المناسب، وبالمقدار الذي تحتمله اللحظة الحاسمة.
من هنا تبرز أهمية المنشور الذي كتبه أستاذنا المؤرخ المحقق إياد القيسي؛ حيث قال:
((لا بدّ للعراقيين بجميع أطيافهم أن يخرجوا العقلاء من كل مكوّن ليتفاهموا من أجل بناء عقد اجتماعي عراقي متعايش. فإن تجربة ٢٢ سنة السابقة أو تجارب ما قبلها أوجدت شرخًا طائفيًا إثنيًا كبيرا. وليس العيب بحجم التدخل الخارجي الشرقي أو الغربي، ولكن العيب يكمن في المكونات التي سمحت بتدخل الآخرين في شؤونها. وكانت النتيجة أن الجميع خسر. نحتاج عقلاء، وفي المجتمع العراقي يوجد وفرة منهم. لنبدأ بترسيخ العقد الاجتماعي الجديد)).
كلمة قصيرة، لكنها عميقة، جاءت في توقيت لا يحتمل التأجيل. كلمة ليست من قبيل الترف الفكري، وإنما من وعي بالواقع الراهن، فجاء يحمل دعوة إلى فتح ملف طالما ظلّ مؤجلًا: ملف العقد الاجتماعي العراقي، في لحظة يمكن وصفها بلا مبالغة بأنها لحظة فاصلة بين طورين.
إنّ عراقنا اليوم يقف عند مفرق طرق، بعد تجربة طويلة، مثقلة بالدم والتعب، وسلب الحقوق، وتغلغل الفساد… تجربة علّمتنا أكثر مما تحتمل الذاكرة. سنوات كشفت عن أنّ الخطر لا يأتي من التدخل الخارجي وحده، بل يجد طريقه إلينا حين يضعف الداخل، وحين يُدار الخلاف بمنطق الطائفية، والمصالح الشخصية والحزبية، وتُختزل الدولة في مكوّناتها المتناطحة، ويُختزل الوطن في شعارات جوفاء.
وقد أصاب أستاذنا حين سمّى العلّة باسمها الصريح، ووضع التشخيص في موضعه الصحيح. فالتدخلات الخارجية لم تكن يومًا سرًّا، لكن قابليتها للتمدد ارتبطت بثغرات داخلية، وبمكوّنات فقدت القدرة على إدارة اختلافها، أو لم تُحسن حراسة قرارها، فكانت النتيجة خسارة عامة، لا يستثنى منها أحد.
الخسارة هنا ليست خسارة سياسية فحسب، بل خسارة اجتماعية وأخلاقية ومعنوية… خسارة ثقة، وخسارة أمن، وخسارة شعور بالعيش المشترك.
في مثل هذه اللحظات، لا يكفي تبديل الوجوه، ولا تنفع إعادة تدوير الخطابات. إنما الذي يحتاجه العراق هو عودة العقل إلى الصدارة، ورجوع الحكمة إلى بيتها المعمور، بعد سنوات من الضجيج والانفعال.
النداء الذي أطلقه أستاذنا القيسي إلى العقلاء من كل الأطياف لا يمكن أن يُحسَب على النداءات النخبوية المعزولة، وإنما هو نداء المصلحة الوطنية العامة، بحيث ينطوي على ضرورة التحرك لتحقيق الأمن المجتمعي من كل جوانبه.
فالعقلاء موجودون، بكثرة صامتة، في المدن والقرى، في الجامعات والبيوت، في الحقول والمجالس. لكنهم اعتادوا التهميش، أو آثروا الابتعاد، لأن المشهد لم يكن يتسع لصوت متزن.
إن (العقد الاجتماعي العراقي) الذي نبحث عنه اليوم، يجب أن يتجاوز مرحلة غرف التفاوض وتدوين البيانات، فينطلق نحو الحوار والتكاتف وإدارة الخلافات بوعي، وبهذا يُعاد تعريف الشراكة، ويصبح التفاهم فضيلة عامة، لا ضعفًا تُخشى عواقبه.
نحن بحاجة إلى مجالس حكمة وخطابات متزنة، لا تَستفز الأعداء ولا تُطمّع الحلفاء. وبحاجة إلى تربية تُرسّخ فكرة الوطن قبل فكرة الطائفة. وبحاجة إلى إعلام ثقافي يلمّ الشروخ ولا يوسّعها. وبحاجة إلى مسؤول يرى المنصب تكليفًا لا غنيمة. هذه ليست مطالب مثالية، بل هي شروط نجاة.
إن مفرق الطرق الذي نقف عنده اليوم يفرض علينا مكاشفة شجاعة مع الذات، ومسؤولية جماعية في ترميم الداخل، وحوارًا يُدار بـ(عقلٍ بارد وقلبٍ حار). حوار لا يبحث عن غالب ومغلوب، بل عن صيغة عيش ممكنة تحفظ الجميع.
فالعراق غير محتاج إلى معجزة، لكنه محتاج إلى قرار شجاع بالانتقال إلى بناء المعنى، محتاج إلى أن يتقدّم فيه الحكماء خطوة، ليتأخر الخراب خطوات.
ومن هذا المنطلق، فإن فتح هذا الملف الآن هو واجب الوقت. ولذا نشكر أستاذنا إياد القيسي، لأنه أعاد توجيه البوصلة نحو سؤال جوهري تأخرنا كثيرًا في طرحه. لعلّ هذه اللحظة تكون بداية عبور، لا تكرار سقوط. ولعلّ العقد الاجتماعي القادم يُكتب بعقول أبنائه، لا بدمائهم.




