مقالات

مِن فقه النوازل

مِن فقه النوازل

أ.د. ضياء الدين الصالح

 

ينبغي للمسلم أن يعلم ويعتقد بأن صراعنا مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين مسألة عقيدة ودين وتأريخ، كما ذُكر ذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنّ مِن أضعف الواجب اليوم هو التضرّع إلى الله تعالى بالدعاء للمستضعفين المرابطين من أهل غزة وفلسطين المحتلة عمومًا، والوقوف معهم، والتفكيـر الجدّي بالجهاد، والإعداد الصحيح لتحرير المسجد الأقصى وكامل الأرض المحتلة من اليهود الغاصبين المعتدين، وندعو الله تعالى أن يُهَيِّئ ذلك في القريب العاجل.

وعلى المسلم أن لا يجعل موقفه من بعض الجماعات -التي يسجِّل عليها بعضَ المَلاحظ- أساسًا ينطلق منه في تأصيل هذه القضية المصيرية، فكلّ جماعة لا تخلو من خير وشر، وصواب وخطأ، نُعينهم على الخير والصواب وندعو لهم، وننصحهم في ترك الخطأ وندعو لهم بالهداية والصلاح؛ فعندما تكون الحرب بينهم وبين الكفر أو الاحتلال فيجب الوقوف معهم، فهناك كافر مجرم يبطش دون رحمة وبلا إنسانية، وهناك مسلم يُحارَب في دينه وعرضه وأرضه.

ويجب على المسلمين عامة وعلى طالب العلم خاصة أن يَحذر منال إشاعات المُرجفيـن وتخذيل المُنافقيـن -الذين في قلوبهم مرض- أيامَ النوازل والفتن، والتي تشرئب فيها أعناقهم، وتَطول فيها ألسنتهم، لإثارة الوساوس وطرح الشبهات وتزيين الشهوات، من أجل تفكيك المجتمعات وتضليل الرأي العام وإثارة الفتن والانقسامات، فيولّد ذلك الإرجافَ والخذلانَ، قال تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 60]، مما قد ينخدع بمكرهم بعضُ من الناس.

فعلى طلبة العلم أوّلًا عدم الخوض معهم فيما يسمعونه من الشُبَه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، ومِن ثَمّ التصدّي لهؤلاء المنافقين والمرجِفين ورَدِّ شُبهاتهم، وفَضحهم، وتَحذير الأمّة مما يقومون به عند النوازل من إثارة الخوف والإرجاف والتخذيل والإحباط، وبثّ اليأس في قلوب الناس.

وقد استخدم المشركون هذا النوع من الإشاعات والأكاذيب ضد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في مسيرة دعوته عامة، ومنها في غزوة أحد، وكان لها أسوأ الأثر في نفوس المجاهدين، فنزل التوجيه الإلهي بقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].

فيجب الحذر من أن تكون أنت قناةً لكل شائعة ومروّجًا لكل ذائعة، وعليك أن لا تتحدّث بكل ما تسمع، فقد قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم-: ((كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ))، فإنّ الناس لو سـكتـوا عن الكلام في الشـائعات والأراجيف لَمَاتت في مهدها، ولم تجِد مَن يحييها؛ فأميتوا الباطل بعدم ذكره، واقتلوا السوء بعدم نشره.

وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حين حذّر من نشر الأخبار والإشاعات بقوله: (لا تكونوا عُجُلًا مَذاييعَ بُذُرًا؛ فإنّ مِن ورائِكم بلاءً مُبَرِّحًا مُبْلِحًا، وأمورًا متماحِلةً رُدُحًا) -أي: ثقيلة وشديدة!- [صحيح الأدب المفرد، للألباني: 134].

والمعنى: لا تستعجلوا في الأمور عند الفتن وتذيعوا كل خبر وتبذروا الفتن، لأن في الفتن يشيع الكذب ويفشو، والأسماع تنتظر كل خبر، والقلوب ترجف من كل حدث.

ومَذاييع: جمع مذياع، مِن أذاع الشيء.

والبُذُر: جمع بَذور، وهو الذي لا يستطيع أن يكتم سره، أي المُفشون الأسـرار.

ومعنى مبرّحًا مبلحًا: أي أنّ البلاء سيزداد في الناس حتى يؤثّر فيهم تأثيرًا عظيمًا، ويلازمهم غمّه حتّى يظهر الغمّ في وجوههم المكلحة المظلمة من شدة الهمّ والغمّ، لا تجد إلى البسمة سبيلًا.

ومتماحِلةً رُدُحًا: وهي الفتن التي يأخذ بعضها برقاب بعض، وتستمر ردحًا، وهي فتن ثقيلة، وثقيلة جدًا، وأمور عظيمة متواصلة، يدوم أمدها ولا ينجو فيها إلا المبتعِد عنها، الذي لا يخوض فيها بشيء، ولا ينجو فيها إلا الساكت الذي لا يحدّث شيئًا.

فيا أخي المسلم، ويا طالب العلم: حافظ -بترك الإشاعة والإرجاف- على دينك وحسناتك ووطنك وأمتك، وتذكّر أنّ منهج الكتاب والسُنّة هو النهي عن القيل والقال، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم: ((إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)).

وقد جاء النهي في كتاب الله تعالى عن عدم التثبت والمسارعة إلى نقل الأخبار دون تمحيص، قال الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم :28].

ومِن فقه النوازل أن يشارك المسلم -بما يقدر عليه- في مجاهدة العدو، لدفع الظلم والبغي والعدوان؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أنّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- قال: ((جَاهِدُوا المشركينَ بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) [صحيحٌ رواه أبو داود والنسائي وأحمد]؛ فالأمر يفيد الوجوب، وقد يكون واجبًا عينيًّا إذا استنفرَهُم وليّ الأمر: {وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا}، وقد يكون واجبًا كفائيًّا كما في رَدّ الصائل على الأرض والعرض والنفس والمال، فيُدفع بالأقرب فالأقرب، وقد ذَكر الحديثُ المشركينَ على وجه التمثيل؛ ولذلك فهو يشمل جهاد الكفّار والمنافقين والمعتدين والمحتلين لأراضي المسلمين.

والجهاد يكون بالنفس واللسان والمال على التخيير، بحسب الأنفع والمصلحة، فقد يكون لسلاح اللّسان نَفعٌ، وتتحقّق فيه المصلحة، وذلك بالتضرّع والدعاء، أو باستخدام وسائل الإعلام في كشف جرائم العدو وردّ شبهاته، وكما هو صراعنا اليوم مع الكيان الصهيوني المحتلّ للأقصى الشريف وأرض فلسطين، فيتعيّن لوقوع النكاية بالعدو ((اهجُهم فإنّه أشدّ عليهم مِن رَشْقٍ بالنَّبْلِ)) [رواه مسلم].

_______________________________________________________________________________

اقرأ أيضًا:

الشعر في صدر الإسلام وأثره في الدعوة

إهداءات محمد بهجة الأثري لعلماء عصره

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى