
كاميرا الآيفون كان قد بدأها الحسن بن الهيثم
د. مهاب السعيد
طبيب ومدوّن مصري
بطريقة ما، فإنّ كاميرا الآيفون الحالية كان قد بدأها الحسن بن الهيثم!
منذ ألف عام، وفي القاهرة، حوالي سنة 1012 إلى 1021م، كتبَ الحسنُ بن الهيثم كتابَ “المناظر“، وذكر فيه تجاربه مع الغرفة المظلمة، التي سماها: “تجربة البيت المظلم”، وعُرِفت لدى الغرب باسمها المترجَم: Camera Obscura، حيث Camera في اللاتينية تعني الحُجرة، وObscura تعني المظلِمة. فالكاميرا أوبسكيورا تعني الغرفة المظلمة، وهي بيت ابن الهيثم المظلم.

غرفة ابن الهيثم المظلمة عبارة عن صندوق مظلِم تمامًا، فيه ثقب صغير جدًا في أحد الجدران، يدخل ضوء العالم الخارجي من خلال هذا الثقب. وبدون عدسات أو فيلم حساس أو أي شيء، تتكوّن على الجدار المقابل للثقب الصغير صورةٌ مقلوبة للشكل الموجود خارج الصندوق!

سبب تكوُّن هذا المشهد بشكل ذاتي على الجدار أنّ الثقبَ صغيرٌ جدًا، والضوءَ يسيرُ في خطوط مستقيمة، فكلُّ نقطةٍ في الجسم الخارجيّ تُرسل شعاعًا واحدًا إلى موضع محدّد داخل الصندوق، فيُعاد ترتيب العالم كلّه كصورة.
درس ابن الهيثم، وعلماء الفلك والبصريات من بعده صورة الكسوف الشمسي من خلال هذا الثقب عبر الخمسمئة عام التالية، وطوال هذه الفترة كانت هذه هي الكاميرا الموجودة في يد الناس. والتي عرفتهم أن الصور موجودة في الواقع بالفعل، تنتظر من يلتقط الضوء الصادر من الشيء كي يتم تصويره.

أتى Girolamo Cardano بعد ذلك حوالي 1550م وفكر: ولكن الصورة المتكونة على الجدار ضعيفة جدًا ومعتمة، شدة الإضاءة قد تأثرت بشدة بسبب صغر الثقب الدقيق، فماذا لو وضعنا عدسة محدبة كالتي نستخدمها لتجميع الأشعة الشمسية، ربما تقوم هذه العدسة بتجميع أشعة الضوء في نقاط أصغر وتكون أكثر وضوحًا ولمعانًا.
وصف جيامباتيستا ديلا بورتا Giambattista della Porta بالتفصيل في كتابه Magia Naturalis سنة 1558 استخدام الكاميرا أوبسكورا، ثم في طبعة 1589 أضاف وصف استخدام عدسة محدبة ومرايا لتحسين الصورة، واقترح استخدامها لمساعدة الرسامين في الرسم بدقة.

هنا الغرفة المظلمة لم تعد مجرد حائط أمام ثقب، بل نظامًا بصريًا مكونًا من ثقب + عدسة + أحيانًا مرآة، ولكن ما زالت غرفة ثابتة غير محمولة، حتى أتى فريدريش رزنر Friedrich Risner في 1572 ليقترح تصميم [كوخ خشبي محمول] به عدسات في كل جانب، تُسقط الصور على مكعّب ورقي في المنتصف.
بالتالي صار بيت ابن الهيثم المظلم لأول مرة كاميرا أوبسكيورا محمولة. واستخدمها الفلكي الكبير يوهانس كيبلر Johannes Kepler رسميًا في 1604، حين بنى خيمة كاميرا أوبسكورا محمولة استخدمها في الرصد الفلكي والمساحة في النمسا العليا.
وفي القرنين 17-18 تطورت صناديق الكاميرا أوبسكيورا، لتحوي الثقب في أعلاها وليس جانبها، وتحته مرآة مائلة بزاوية 45 درجة، بالتالي تستقبل الصورة من أعلى وتعكسها على لوح أفقي ليستطيع الرسام تتبعها، مع عدسة لتحسين الصورة.
هنا صارت لدينا كاميرا كبيرة الحجم جدًا لكن ينقصها الفيلم.
يعني كي ترى الصورة يجب عليك أن تراها وقت التقاطها. وما ينقصنا الآن خطوة تخزين الصورة، هل يمكن أن نستعيض عن الرسام الموجود وقت تجميع الصورة ليرسم حوافها، بشيء كيميائي يقوم بمهمته؟!
هنا أتى دور العالم الكيميائي العبقري جوزيف نيسيفور نييبس Nicéphore Niépce في الثلث الأول من القرن التاسع عشر حوالي 1826-1827 ليلتقط أول صورة ثابتة من الطبيعة عبر كاميرا أوبسكورا، على لوح من pewter (سبيكة أساسها القصدير) مطلي بالبيتيومين Bitume في عملية سماها Heliography.

بعده بقليل قام لويس داجير Louis Daguerre بتحسين المادة المستخدمة، في 1839، باستخدام ألواح مغطاة بفضة يوديد،. ثم بعده بسنوات قليلة أيضًا، في أوائل أربعينات القرن التاسع عشر، طوّر ويليام هنري فوكس تالبوت William Henry Fox Talbot نظام النيجاتيف/بوزيتيف Calotype.

ولكن ما معنى كل ذلك؟ ما فكرة هؤلاء الكيميائيين العباقرة المجانين؟ ما علاقة بلّورات الفضة بالصورة والضوء؟!
كان الفيلم عبارة عن طبقة خفيفة من بلورات هاليد الفضة Silver Halides [Silver Bromide أو Silver Chloride] معلّقة في طبقة جيلاتينة. عندما تسقط فوتونات الضوء على بلورة Silver Bromide (AgBr)، يعطي الفوتون الطاقة للإلكترون في ذرة البروميد، يتحرر ويقفز داخل البلورة لتلتقطه أيونات الفضة الموجبة (Ag⁺) ويتحولا معًا إلى ذرة فضة معدنية Ag⁰، والتي تلتصق بسطح البلورة. أي: تتحول معلومات الضوء المرئي إلى نقاط صغيرة مكونة من ذرات الفضة المعدنية المرسومة وغير القابلة للذوبان. هذه هي بذرة الصورة Latent Image.
هنا تأتي المرحلة اللاحقة: التحميض، الذي يجري في إضاءة معتمة، أو إضاءة حمراء خافتة، لأن الأوراق [الأفلام] ليست حسّاسة لهذه الأطوال الموجية [مصمَّمة لتكون حساسة للأزرق-الأخضر]، فيقل التشويش على الصورة الأصلية.

حين يتم وضع [بذرة الصورة] في المادة المُحمِّضة Developer، يختار المحلول الكيميائي البلورات التي تحتوي على نواة الفضّة، ويحوّلها بالكامل إلى فضة معدنية سوداء، ولكن البلورات التي لم تتعرّض للضوء لا تتحول.
بعد ذلك يأتي المحلول المثبت Fixer [ثيوسلفات الصوديوم] ليذيب كل البلورات غير المتأثرة بالضوء، ويترك فقط الفضة التي كوّنت الصورة.
هنا صارت لدينا صورة حقيقية للفوتونات التي خرجت من مصدر الضوء في غرفتنا المظلمة، ولأول مرة استطعنا تسجيلها وتثبيتها وحفظها لرؤيتها لاحقًا!
ولكن المشكلة الآن أن الصورة معكوسة الإضاءة [نيجاتيف]، يعني المناطق التي تعرضت لضوء أكثر تصبح سوداء أكثر (لأنها تحوي فضة أكثر). والحل يكون بتكرار إمرار الضوء عبرها وكأن الصورة “النيجاتيف” حاجز أمام الضوء يجعله ينير الأجزاء المعتمة، ويعتم الأجزاء المنيرة، يعني يقلب الصورة من “نيجاتيف” إلى “بوزيتيف”، والآن لدينا الصورة الحقيقية كاملة.
بعد ذلك أضافوا الألوان، وهي نفس الآلية لكن بطبقات متعددة، طبقة حساسة للأزرق، طبقة حساسة للأخضر، طبقة حساسة للأحمر، وكل طبقة تحتوي صبغة Coupler تتحول أثناء التحميض إلى لون معيّن [Cyan–Magenta–Yellow]، والنتيجة النهائية: صورة ملوّنة متكونة كيميائيًا.
في أواخر القرن التاسع عشر، طوّروا الفيلم المرِن Roll Film كبديل للألواح الزجاجية الثابتة، وفي 1888 قدّم جورج إيستمان George Eastman أول كاميرا Kodak جاهزة للاستعمال من الجماهير، محمّلة بفيلم يكفي لـ 100 صورة، بشعار: You press the button, we do the rest. يعني أنت تضغط الزر ونحن نقوم بالبقية. ليصير بيت ابن الهيثم المظلم في جيب كل إنسان.

حتى وصلنا إلى عام 1975 عندما استطاع ستيفن ساسون Steven Sasson أحد مهندسي شركة كوداك هذه من بناء أول كاميرا رقمية كان وزنها حوالي 3.6 كجم، وتحتاج 23 ثانية لتسجيل صورة واحدة.

كانت الكاميرات الرقمية تستخدم شبكة من الوحدات الضوئية الكهربائية الصغيرة جدًا، كل واحد اسمه Pixel Well، وكل بئر منها مصنوع من مواد شبه موصلة، غالبًا السليكون، لها قدرة على تخزين الإلكترونات. وحين يضرب الضوء الفيلم السيليكوني الحساس، فكل فوتون يسقط على بئر معين Pixel Well يدخل الإلكترون في البئر الضوئي، ويتراكم.
تتم ترجمة عدد الفوتونات إلى عدد الإلكترونات المتراكمة، وشدة الضوء إلى كمية شحنة كهربائية، ويمكننا أن نضع فوق كل بكسل فلتر لوني، نصف البكسلات بفلتر أخضر لمحاكاة تموضع حساسية شبكية الإنسان حول النطاق الأصفر-أخضر أكثر من غيرها من الألوان، وربعها: فلتر أحمر، وربعها الأخير فلتر أزرق، هذا يسمى Bayer Filter.
ثم يقوم المعالج (ISP – Image Signal Processor) بتجميع هذه البكسلات Demosaicing لتكوين لون حقيقي، وتضخيم الإشارة Gain / ISO، وإزالة التشويش Noise Reduction، وموازنة اللون الأبيض، وتوسيع الديناميك Dynamic Range، ثم يحوّل البيانات إلى ملف JPEG أو RAW.
مع تطور الكاميرات الحديثة، والمهارة في صنع رقائق السيليكون، زادت حساسية هذه الكاميرات للضوء من ISO 1600، إلى ISO 102,400 كما في كاميرات Sony A7S III، وقل حجم البكسل من 6 ميكرون إلى 1.2–1.4 ميكرون وأقل في الهواتف المحمولة، وصار كل بكسل يرى الثلاثة ألوان لكن في طبقات عميقة.
ثم صار هناك دماغ إلكتروني داخل الكاميرا، يحول الصورة الخام إلى عالم مليء بالتفاصيل: Noise Reduction تقليل الضوضاء، HDR (High Dynamic Range) المدى الديناميكي العالي، Tone Mapping ضبط التدرّج اللوني، Sharpening زيادة الحِدّة، Face Detection اكتشاف الوجوه، Skin Smoothing تنعيم البشرة، Demosaicing إعادة تركيب الألوان.
لنصل إلى كريزة التطوّر التصويري في النهاية بـ(التصوير الحسابي Computational Photography)، هنا يحدث السحر! فآيفون مثلًا لا يلتقط صورة واحدة، بل يأخذ عدة لقطات [حوالي 9 في Deep Fusion]، يعالجها، يختار أفضل أجزاء منها، يدمجها، يجمّلها بذكاء صناعي، يوازن الضوء، يعيد توزيع الألوان، ثم يعطيك [صورة واحدة].
لذلك صار رجل الشارع العادي مصورًا محترفًا. لأنه ليس هو من يقوم بالتصوير الاحترافي في الحقيقة، إنما هاتفه.
هذا ذاته شعار كوداك: “تضغط الزر ونحن نقوم بالباقي”، لكن الفرق أنهم قاموا بكل شيء مسبقًا، والآن بقي فقط أن تضغط الزر.
غير أن الإبداع البشري ليس ابتكارًا من الصفر، ولكن تراكم تقليد ومحاكاة، بالتالي من الصعب أن نقول إن كاميرا الآيفون قد بدأ اختراعها ابن الهيثم، ومن الصعب أيضًا ألا نقول ذلك!
حتى ابن الهيثم برغم أنه كان أول من بنى تجريبيًا الغرفة المظلمة لأغراضه العلمية البحثية، فهو لم يكن أول من فكّر فيها! فهي موصوفة في الصين في القرن الرابع قبل الميلاد لدى الفيلسوف الصيني موزي (Mozi)، الذي لاحظ أن الضوء الداخل من ثقب صغير يصنع صورة مقلوبة، وبعدها تساءل أرسطو لماذا يمر الضوء من خلال فجوة بين أوراق الشجر، فيسقط على الأرض في شكل دائري حتى لو الفجوة نفسها ليست دائرية؟!
ولكن ابن الهيثم لم يصف فقط الظاهرة، بل بنى غرفة التصوير Obscura كاملة ليدرس بها الضوء، ووضع الأساس العلمي الدقيق لكيفية تكوّن الصور. وهو أول من كتب نصًا صريحًا يثبت أن الضوء لا يخرج من العين ولكن يدخل إليه. ويعد كتابه [كتاب المناظر] الشرارة التي أنتجت علم البصريات الحديث نفسه. ويعتبره المؤرخون الأب الحقيقي للكاميرا.

يكفي أن تتذكر ما قلناه من معنى كلمة [كاميرا]!
أنا أصدّق العلم، وأقدّس الدين… أصدّق أن العلم في جوهره تسبيحٌ بمجد خالق السماوات والأرض في محراب ابن الهيثم المنير، وأن الدين تأطير لكل قِيَم العقل الحسنة من تدبّر وتأمّل واستنتاج واستقراء وتجريب ونقد في بيت ابن الهيثم المظلم.




