قلم محمود شاكر في الدفاع عن فلسطين
قلم محمود شاكر في الدفاع عن فلسطين

كان الأستاذ محمود محمد شاكر رجلًا مجاهدًا في زمن ضَرب الذلُّ والهوانُ أطنابَه في أرضٍ لم تعرف جنباتها هذا الذلَّ قبل سقوط خلافة آل عثمان.
لقد اعتدّ شاكر بقلمه كما يعتدّ الفارسُ بحصانه وحسامه، وإني لأسمعه يقول: “إنما حَملتُ أمانةَ هذا القلم لأصدع بالحقّ جهارًا في غير جمجمة ولا إدهان. ولو عرفتُ أني أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقّها لقذفتُ به إلى حيث يذلّ العزيز ويمتهن الكريم… وأنا جنديّ من جنود هذه العربيّة، لو عرفتُ أني سوف أحمل سيفًا أو سلاحًا أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكنّي نذرتُ على هذا القلم أن لا يكفّ عن القتال في سبيل العرَب ما استطعتُ أنْ أحملَه بين أناملي”.
الحقيقة أنّ القرن الماضي عجّ بالمفكّرين والأدباء، وما كان لأحدٍ منهم طرحٌ سياسيّ وفكريّ بقوّة طرح شاكر، فإنّ الذي ميّزه شدّة اليقظة مع عدم الغرق في أوهام السياسيّين العرب، بل نجده يهزأ من ملوك العرب الذين كانوا يُحسنون الظن بـ(أمريكا والدول الأوروبية). ثم إنّ شاكرًا لم يكن وثنيًا على صورة وطنيّ، فلم ينظر للأمة يومًا إلّا على أنها جسد واحد لا يتجزّأ، ولم يتشرّب فكر (سايكس بيكو) كما هو الحال اليوم، ونعني بالأمة هنا= كيانها بالمفهوم الشامل لها: وهو ما يتعلق بماضيها وحاضرها، ببُعديها الجغرافي والتاريخي، فالبوسنيّ المسلم لا يقلّ عند شاكر عن المسلم المصري، بل قد يكون أفضل منه إذا كان ملتزمًا بشرع ربّه وثقافة دينه.
إنّ شاكرًا قد آمن بأنّ حربنا مع الغرب الوثني المشرك عمومًا واليهود خصوصًا، لا تكون إلا في ميدانين:
* الميدان الأول في الثقافة والفكر، وقد أبلى شاكر بلاءً عظيمًا في هذا الميدان من خلال المعارك التي خاضها في كتبه، وعلى رأسها كتابه العظيم: “أباطيل وأسمار”، وقد سُجن على إثره ما يقرب من أربع سنوات.
* أما الميدان الثاني فهو في ساحات الوغى وميادين البطولات، فلا يفلّ الحديد إلا الحديد.
فنجد شاكرًا في أكتوبر من عام 1947م كتبَ في مجلّة “الرسالة” مقاله العتيد: “لا هوادة بعد اليوم” حيث قال فيه: “لا يحلّ لعربيّ منذ اليوم أن يرفع يده عن سلاح يعده لقتال عدو قد أحاطت به جيوشه من كل ناحية. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يدع ثغرة من ثغور العِدى إلا سدها بنفسه أو ولده أو صديقه. ولا يحل لعربي أن يضع عن عاتقه عبء الكد والكدح التماسًا للراحة أو الدعة. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يتواكل ويقول لنفسه: لقد تعبت، وما يضرني أن أترك هذا لفلان فهو كافيه. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقول: غدًا أفعل ما حقه أن يُفعل اليوم. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يخدع نفسه عن حرب دائرة الرحى بيننا وبين اليهود وأشياعهم من أمم الأرض. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يكتم الحق عن أهله أو عن عدوه، ويقول هذه سياسة وكياسة وترفّق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يمالئ قومًا يكاشفونه بالعداوة والبغضاء ونذالة الأخلاق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يَقبل من رجال السياسة تأجيل شيء من قضايا العرب، فهي كلٌّ مترابطٌ لا ينفكّ منها شيءٌ عن شيء”.
وهذه الفقرة تُدلِّل على كلّ ما كنتُ قد قلتُه قُبيل قليل مِن أنّ السِّمة الغالبة على شاكر هي تلك اللُّغة السامقة الحادّة، خصوصًا إذا ما تعلّق الأمر بقضايا الأمّة المركزية.
إنّ قضية فلسطين تحديدًا كان شاكر يسمّيها: (أمّ المشاكل العربية)، والحقُّ أنّه أصابَ في هذه التسمية؛ إذ إنّ الذي حصل في فلسطين على وجه الخصوص= هو زرعٌ لجرثومة أوروبية في فؤاد العالَم العربي، مما سهّل على الغرب حربهم الصهيوصليبية على أمّتنا.
يقول شاكر في المقالة نفسها: “عرَف كلُّ عربيّ وكلُّ مسلمٍ ما صارتْ إليه قضيةُ فلسطين في الجمعية العموميّة لهيئة الأمم المتحدة، فهل بقيَ بعدَ هذا مجالٌ لناظِر حتّى يقول: سوف أحتال بالسياسة حتى أنال ما هو حقٌّ لي؟! إنّ بريطانيا وأمريكا وسائر الدول التي تدير لهما الساقية، قد كشفت عن طواياها بما لا يعد لأحد علّة يتعلل بها أو يتشبّث، فقد قالوا الكلمة الصريحة الواضحة بأنهم عدوٌّ لنا وحرب علينا، وأنهم يبغون أن يحطموا هذا الجيل العربي، وأن يسلطوا على رقابه أنذال اليهود وأوباش الاستعمار، وأنهم يعتقدون أننا قوم لا نصلح لأن نَحكم أنفسنا بأنفسنا، أو أننا أمم قُصّر لم نبلغ رشدنا ولا يُظَن لنا بلوغ الرشد”.
أمّا سبب هذه العداوة لنا فإنّ شاكرًا يقول بكلّ صوتٍ مرتفع: (هي الحرب بين أهل الصليب وأهل الإسلام)، حيث قال في المقالة نفسها: “وسِرُّ هذه العداوة -ولا نَكتُم الحقّ- هو أن أوروبا وأمريكا جميعًا لا يزالون يعيشون في أنفسهم إذا ذُكر العرب في أحقادٍ صليبية، لم تَستطع المدنيّة، ولا استطاع العِلْم، ولا استطاعت سهولة المواصلات، ولا استطاعت كثرةُ الهجرة والرحلة، أنْ تَنفيَها عن قلوبهم، بل لعلّها زادتهم أضغانًا على أضغان، ولا تزال أوروبا وأمريكا تقول: خطرُ الإسلام وخطرُ العرب، كما كانوا يقولون الخطرُ الأصفر والخطرُ الآسيويّ”.
ثم سأل شاكرُ الحمقى الذين يظنون أنّ أمريكا ستعطف على العرب أو ستستمع إلى شكواهم استماع الرجل الحكيم الحازم، فقال: “وكيف تعطف أمريكا وهي التي تمدّ اليهود بالمال والقوة والسلاح والدعاية؟ وكيف وهي التي تبيح لشركات النّشر والإذاعة والصحافة أن تدلّس وتكذب وتخدع في شأن العرب، ولا تَجد مُنكِرًا يُنكِر ولا لسانًا يدافِع، ولا قلمًا يشمئز من هذه الوسائل التي تطفَح بالغدر والبغي والنذالة؟! إنهم جميعًا يظاهِرون علينا اليهود ويظاهِرون علينا الاستعمار، ويفعلون ذلك علانية لا يستخفون، ففيمَ نحتال نحن بالمداورة أحيانًا خشية أن نثير علينا هؤلاء المُظاهرين، ومَخافة أن نُرمى بالتعصّب؟ فيمَ نخاف ونحن في معمعة هذه الحرب التي تشنّها علينا بريطانيا وأمريكا بالاستعمار وباليَهود؟ ولِمَ نخاف أنْ نتعصّب لحريّتنا واليهودُ يتعصّبون لعُدوانهم جَهارًا؟”.
فالواجب علينا أن نتمسَّك بحقوقنا، وألا نجامِل فيها، ولا ندّعي السياسة والكياسة على حسابها “فَمِن حقّ البلاد العربية أنْ تفعل ذلك ولا تبالي بنقد منتقد، ولا هجوم متهجّم، ولا إقذاع مبطل، ولا سفاهة مدخول السريرة خبيث الطوية. كلّا إنّه ليس حقًّا لها وحسْب، بل هو فَرْض لا مَناص مِن أدائه، والقيام به، وحياطته كل الحياطة. إنّ هذه اليهود وهذه الأجانب هي ذرائع الاستعمار، وهي أداة البطش التي سلّطها الاستعمار على رقابنا”.
ومِن المُلاحَظ أنّ الأدوات الاستعمارية التي فرضَها الغربُ ما زالت قائمةً إلى وقتنا هذا، وأنّ حقوق الإنسان والمرأة والطفل والحيوان التي يتغنّى الغربُ بها بوصفه الأبَ الروحيَّ لحركات التحرُّر والحداثة الحضارية ما هي إلا أكذوبة= انطلت على الغوغاء من الأمّة، ولا حقيقة لها في ظِل المَجازر الحاصلة اليوم في فلسطين عامة وفي غزّة خاصة، ولا وجود لهذه الأخلاق العالية إلا في الحاضرة الإسلامية “فإنّ العرَب قد عاشوا على ظهر هذه الأرض أكثر من ثلاثة عشر قرنًا فكانوا أمةً وسطًا لم تَظلم ولم تَضطهد، بل نصرَت المظلوم وآوت المضطهد، ورفعَت النير عن رقاب الأمم مجوسها ونصاراها ويهودها، حتى جاء أمرُ الله وذهبَت ريحهم وغلَبت عليهم الأمم”.
وأختِمُ بوصية محمود شاكر، وهو يُؤكّد على أنّ هدف الغرب واحدٌ لا يتجزّأ، وأنّ الكيان المحتلّ لا يَعدو أن يكون أداةً استعماريّة لبريطانيا وأمريكا، ومَن يدعمها أكثر يكُن حظّه مِن نفوذها أكبر، وأنا ليس لي كلامٌ في حضرة أساطين الفكر والعِلم إلّا أنْ أنقُل كلامَهم لقومي لعلّهم يفقَهون شيئًا عن أئمة الأدب والفكر، فقد ختم شاكر مقالَه الملتِهب بنار الحقّ والغيظ على أهل الباطل قائلًا:
“إنها الحرب المُبيرة أيّها العرب، فلا تكن اليهود التي ضرب الله عليها الذل والمسكنة والتشرد في جنبات الأرض، أحمَى منـكم أنوفًا، وأشـدّ منـكم حفاظًا، وأقوى منكم حميّة، وأجرأ منكم قلوبًا، ولا يهود أيها العرب أشدّ محافظة على باطلهم منكم على حقّكم. واعْلموا أيّها العرب أنّ الذي بيننا وبين اليهود والذي بيننا وبين الاستعمار دمٌ لا تطير رغوته ولا ينام ثائره، وقد جدّت الحرب بِكم فجِدّوا يا أبناء إسماعيل ويا بقيّة الحنيف إبراهيم، ولا يهولنّكم مال اليهود، ولا بطش بريطانيا، ولا مخرقة أمريكا، فإنّ الحقَّ لله، وكلمةُ الله هي العُليا”.
سامح عثمان
___________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:




