عبد القادر المغربي وعودة الكراس الشارد

عبد القادر المغربي
وعودة الكراس الشارد
عمر ماجد السنوي
ليس أشدَّ على الباحث من اسمٍ يلمع في دفاتر النهضة ثم يُطوى، ولا أقسى على التاريخ من عالمٍ جليلٍ يَمضي ولا يَلتفت إليه اللاحقون إلا التفاتَ العابر إلى ظلٍّ ممدود.
من ههنا ابتدأتُ قراءتي كتابَ «الكرّاس الشارد» الذي وضعه البحاثة المحقّق والأديب المتأنّق: الدكتور وليد عبد الماجد كساب، فجاء كمن يعيد ترتيب الرفّ، ويستخرج من بين أضابير الزمن علَمًا أهملته الأقلام، ألا وهو الشيخ عبد القادر المغربي (1867 – 1956م)؛ ذلك الذي عاش بين دفّتي القرنين التاسع عشر والعشرين، فلم يأخذ من الاحتفاء معشار ما أعطى من العلم واللغة والفكر.
مقدمة المؤلف التي دشّنت العودة:
صدّر المؤلف الدكتور كسّاب كتابَه بمقدمةٍ نفيسة، بديعة الإشارات، واضحة الأغراض، نصّ فيها على أنّ الباعث الأول لهذه الصفحات هو الغيرة العِلمية على عالمٍ كبيرٍ لم يُنصفه عصره، ولم يلتفت المتأخرون إلى آثاره كما ينبغي.
فقد أوضح المؤلف في مقدّمته أنّ قصده الأساس هو ردّ الاعتبار لاسمٍ لم يأخذ نصيبه من البحث، وإعادة جمع خطى رجلٍ تفرّقت آثاره في بطون الدوريات، حتى غاب كثيرٌ منها عن الأعين. واعترف المؤلف بأنّ المغربي كان واحدًا من أولئك الذين غلب عليهم النشر الصحفي، فلم تحفظ لهم الكتب مجموعاتهم كما تحفظ لغيرهم، فرأى -وهو مُصيبٌ فيما رآه- أنّ جهد المغربي لم يزل مُبعثرًا في الصحف، مبثوثًا في المقالات، منسيًّا في هوامش كتب النهضة؛ فانتخَب من «أوراقه الشاردة» مقالات ونصوصًا، كي يعيد بها بناء صورة المغربي، ويجمع من بعض أخباره ونصوصه ما تفرّق، ويُبرز للناس علَمًا طُمست بعض ملامحه تحت ركام الأزمنة.
وفي مقدمة المؤلف حديثٌ طويلٌ عن طبيعة الكتاب ورسالة اختياره، فقد أفصح أن غايته تتعدّى تجميع المقالات إلى كشف الأبعاد الخفيّة من حياة عبد القادر المغربي؛ تلك الجوانب التي لا يعرفها كثير من قرّاء النهضة، مع أنّ الرجل كان في عصره صوتًا لغويًّا وإصلاحيًّا وطنيًّا قلَّ نظيره.
ثم ذكر المؤلف أنه اطّلع على (نصّ فريد) وجده في مذكرات الناشر وجيه بيضون، يتحدّث فيه عن صاحبه عبد القادر المغربي، فكان ذلك النصّ مدخلًا إلى فهم الطريقة التي كان يكتب بها المغربي، وكيف كان يتصرّف في المقال، ويستخلص مادته، ويحبك عبارته، حتى إذا تمّ له القول أرسله إلى الناس صافيًا، متينَ الخيط، جزيل البناء.
ومن ظريف ما جاء في المقدّمة أنّ المؤلف استملح عنوانًا قديمًا من عناوين المغربي، فجعل ، فجعل منه اسمًا للكتاب: «الكرّاس الشارد»؛ وهو عنوانٌ يشي بالضياع ثم البحث، وبالإهمال ثم الكشف، فهي للفظة تضيء للباحث صورة عبد القادر، الذي كان يكتب كثيرًا، وينشر كثيرًا، وتتخطف صحفُ عصره مقالاتِه حتى تتيه بين أوراق الجرائد ومجلات الشام ومصر والعراق. فكأن المؤلف يقول: هذا الذي شرد من صاحبه، وهذه الأوراق التي تناثرت، قد حان أن تُجمع، وأن تسترد مكانها بين كتب النهضة وروّادها.
موسوعية العالِم الذي لم يُحطْ به زمنه:
يتراءى للقارئ -حين يشرع في صفحات الكتاب- رجلٌ موسوعيٌّ رحيب الأفق، جمع بين علوم الشرع، واللغة، والتاريخ، والسياسة، والتربية، والتحقيق، والعمل المجمعي، والإصلاح المجتمعي.
ويؤكد المؤلف أنّ المغربيَّ كان نموذجًا لعالم النهضة الحقّ: أصيل الجذور، ممعنٌ في التراث، متفتحٌ على العصر، يزن الأفكار القديمة بميزان العلم، ويستقبل الحديثة بميزان الحذر.
ويشير الكتاب إلى أنّه ضرب بسهمٍ وافرٍ في ميادين شتى: من تصويب اللغة وتعليلها، إلى نقد الأدب، إلى مواقف سياسية واضحة، إلى جهود إصلاحية تدعو إلى العودة إلى القرآن وفهمه السليم، ونبذ ما علق في العادات مما ليس من الدين القويم.
معارك الإصلاح وموقف المغربي فيها:
إنّ من أبرز ما يعرضه الكتاب موقف عبد القادر المغربي المتزن من دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة، فقد ذبَّ عنه المغربي حين اشتدّ الهجوم، مع تثبيت الحدود الشرعية التي لا تتجاوز أصل الإسلام.
ويكشف الكتاب من خلال الوثائق أنّ الرجل لم يكن مفرطًا ولا مميّعًا، بل كان مصلحًا عاقلًا يرى التحرير في إطار الشرع، لا في خرقه، ويرى العودة إلى القرآن أساس كل نهضة.
وقد أغضب هذا الموقف كثيرًا من أهل عصره، ودخل المغربي في معارك فكرية شرسة، فكان أنْ كتبَ، وردّ، واحتجّ، وأبان، وظلّ ثابتًا على أرضٍ وسطى لا يحيد عنها.
سيرة ممتدة بين دمشق والقاهرة وبغداد:
يجمع المؤلف سيرة المغربي في مسردٍ تاريخي أدبيّ حسَن، اشتملت على:
- نشأته الأولى في دمشق.
- انتقاله بين مدارس العلم.
- عضويته في مجمع اللغة العربية بدمشق (1934م) ثم نيابة رئاسته.
- إشرافه على دار الكتب الوطنية.
- مشاركته في لجان المجامع العربية في القاهرة والعراق.
- حضوره القوي في الصحافة الشامية والمصرية.
- وفاته سنة 1956م إثر نزيف دماغي، ودفنه في مقبرة الفواخير بقاسيون.
هذه الحياة العامرة لا يمكن أن تكون حياة رجلٍ يكتب من محرابٍ مغلق، بل حياة عالمٍ ينزل إلى الشارع ويتفاعل مع المجتمع، ويخالط العلماء والأدباء، ويناظر أقطاب الإصلاح.
“الكرّاس الشارد” نموذج حيّ لمنهج المغربي:
في قلب الكتاب تأتي المقالة التي حمل الكتاب عنوانها؛ إذ يحكي المغربي فيها قصة مخطوط غريب عثر عليه بين أضابير مكتبة قديمة، لا يُعرف صاحبه ولا عنوانه، فتتبع أثره، وقرأ صفحاته، وحاول أن يميّز إن كان هو جزء من «التصريف» أو من قسم الجراحة في «الحاوي» للرازي.
وهذه المقالة تُقدِّم مثالًا واضحًا لمنهجه في التحقيق والوصف، والصبر على تتبع الأصول، والوقوف على القرائن؛ فكأنها مختبرٌ متكامل تمرّ فيه التجارب العلمية حتى توصل الباحث إلى النتائج.
جولات في الأدب والتاريخ واللغة:
لا يقف الكتاب عند السيرة والمواقف، ولا عند مقالة الكرّاس الشارد، بل يجمع نماذج مختلفة من مقالات المغربي، منها:
- كيف ضاع معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي؟
- حافظ إبراهيم واللغة العربية.
- صديقي عبد المحسن الكاظمي.
- البدر الحسني: محدّث دمشق.
- تكريم كراتشكوفسكي.
- السيد جمال الدين: إيراني أم أفغاني؟
- التمثيل العربي والفنون الجديدة.
- سياحة الذاكرة في أزقة القاهرة.
- من آثار السيدة زبيدة.
هذه المقالات تكشف عقلًا لا يكلّ، وقلمًا لا يهدأ، وباحثًا يتنقّل بين الفكرة وأختها، كأنما هو رَحْلٌ ممتدّ في أودية المعرفة.
قيمة الكتاب وأثره:
إن «الكرّاس الشارد» للدكتور وليد كساب، هو كتاب يجمع ما كان مبعثرًا، فيعيد بناء الصورة الكاملة لعبد القادر المغربي، ويضعه في مكانه اللائق بين أعلام النهضة، بوصفه عالِمًا موسوعيًّا، ورجلًا نهضويًّا ذا مشروعٍ إصلاحيّ وسطيّ متماسك، وكاتبًا يَمتح من التراث ويُجدِّد بقدْر ما يسمح به أصلُ البيان العربيّ.
وبذلك يصبح الكتاب مصدرًا لا غنى عنه للباحثين في تاريخ المجامع اللغوية، وفي حركة الإصلاح العربي، وفي تطور المقالة العربية الحديثة.
وبعد؛ فإنّ هذا الكتاب يمثّل استعادة النمط القديم الذي كان يصوغ لغتنا وفكرنا ووعينا بذواتنا. وإنّ عبد القادر المغربي -بهذه العودة- ما عاد وحده، بل عاد معه زمن النهضة بأكمله.
ولولا هذا الجهد الذي بذله الدكتور وليد كساب، لبقيت أوراق الرجل مبعثرة في زوايا الرفوف وخبايا الأدراج، مع «الكراسات الشاردة» التي تتناهبها الصحف وتطويها السنون.
فلا يسعني والقراء إلا أن نكثر مِن شكر المؤلف، وشُكر كل من حثّه وساعده على إنجاز هذا العمل العظيم.





