مقالات

حكم الجهاد في العصر الحاضر في رأي المفتي عبد العزيز بن باز

حُكم الجهاد في العصر الحاضر
في رأي المفتي عبد العزيز بن باز

 

إنّ مما جاء في وصف العالِم المؤهَّل للفتوى في مسائل الجهاد وأحاكمه: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وطيَّب ثراه-: (الواجبُ أنْ يُعتبَر في أمورِ الجهاد: برأي أهل الدين الصحيح، الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين: فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا).

وإنّ مِن خيرة مَن يدخل في وصفه هذا ممن يُرجَع إليهم في أمور الجهاد والنوازل عمومًا في عصرنا هذا: هــو العلامة المجتهد الفقيه المحدِّث المفتي بقية السلف وخيرة الخلف: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله وطيَّب ثراه- (1330-1420هـ / 1912-1999م)، مفتي عام المملكة السعودية، ورئيس اللجنة الدائمة للإفتاء، ورئيس هيئة كبار العلماء.

وانطلاقًا مما تقدّم، أحبُّ أنْ أبيّنَ لبعض إخواننا ومشايخنا رأيَ الشيخ، أو أذكِّرَهم بقوله وفتواه في ثلاث مسائل كبيرة متعلّقة بأحكام الجهاد (أي: قِتال العدوّ) في عصرنا الحاضر:

المسألة الأولى:
وصف حال الأمة الإسلامية عمومًا من حيث القوة المادية والإيمانية، وما الواجب في حقهم من القيام بفريضة الجهاد في عصرنا:

قال الشيخ في “مجموع فتاويه” (3/197): (تختلف الأحوال بقوة المسلمين وضعفهم:
1. فإذا ضعف المسلمون جاهدوا بحسب حالهم.
2. وإذا عجزوا عن ذلك اكتفوا بالدعـوة.
3. وإذا قووا بعض القوة: قاتلوا مَن بدأهم ومَن قرُب منهم، وكفّوا عمّن كفّ عنهم.
4. وإذا قووا وصار لهم السلطان والغلبة، قاتلوا الجميع وجاهدوا الجميع حتى يُسْلموا، أو يؤدّوا الجزية، إلا مَن لا تؤخذ منهم كالعرب).

وجاء في “مسائله” لعبد الله بن مانع (ص168-169): (قال شيخنا -يعني ابن باز-: سمّى بعضُهم مراحل التشريع في الجهاد نسخًا. أوّلًا: الكفّ… إلخ. وقال بعضُهم: ليس ذلك بِنَسْخ: فإن كانوا ضعفاء كفّوا، وإن قووا قاتَلوا، وهو الصواب. وقال شيخُنا أيضًا: مراحل تشريع القتال: 1. الإذن بالقتال. 2. قتال مَن قاتلهم. 3. قتال دفْع وطلَب، أي: ابتداء. وحالة المسلمين الآن تشبه الحال الوسطى: إن قُوتلوا رَدّوا. أو دَفعوا القتال بما يَصلح. والحال الآن فيها ضعفٌ في القوة وفي الإيمان. والله المستعان).

فخُلاصة رأيه بحسب نَصّ كلامه:
1. أنّ حالة المسلمين اليوم هي الحال الوسطى، وهي المرحلة الثانية من مراحل تشريع الجهاد، وهي: وُجوب مقاتَلة مَن يقاتِلنا.
2. أنّ حال الأمة الإسلامية المادية فيها قوة تؤهّلها لقتال الدفع، وكذلك في الإيمانية، لكنْ وُصفت قوّتها بالضعف، وهي نظير قوله: (وإذا قووا بعض القوة؛ قاتلوا مَن بدأهم ومَن قرب منهم، وكفّوا عمّن كفّ عنهم). فقوله “بعض قوة” هو كقوله “ضعفٌ في القوة” وليس حالتنا حالة “العجز” أو الضعف التام الذي يَسقط به الوجوب.

المسألة الثانية:
حُـكم قتـال اليهـود المُحتـلّيـن لفلسطيـن:

قال في “مجموع فتاويه” (18/245): (اليهود لهم حالة أخرى: اعتدوا على أرض فلسطين. والواجب على المسلمين: 1. جهادهم حتى يَخرجوهم من بلاد المسلمين، 2. وحتى يَنتصر إخواننا الفلسطينيون عليهم، 3. ويُقيموا دولتهم الإسلامية على أرضهم، 4. وهذا لا شك في وجوبه على الدول الإسلامية حسب الطاقة).

وقال أيضًا في (18/246): (وبِمَا ذكرْنا يُعلم أنّ اليهود لهم شأن آخَر، وقتالهم واجبٌ مستقلّ).

بل وصفَ حالَنا في (18/246) بـ(تقصير المسلمين في الجهاد مع الفلسطينيين ضدّ اليهود).

وقال في (6/40): (وهكذا إخواننا في فلسطين لهم حق على جميع الدول الإسلامية وأغنياء المسلمين: 1. أن يساعدوهم في جهادهم. 2. وأن يقوموا معهم حتى يتخلصوا من عدو الله اليهود).

وقال أيضًا في (27/123-124): (فالواجب على الدول الإسلامية، وعلى جميـع المُسـلميـن القـادريـن: أن يساعدوهم في جهاد أعداء الله من اليهود، حتى يحكم الله بينهم وبين المسلمين وهو خير الحاكمين، وذلك بنصر الله لهم على اليهود، وإخراجهم من بلاد المسلمين. أو الصلح بينهم وبين دولة فلسطين صُلحًا ينـفع المسلميـن 1. ويحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم وقرارهم في بلادهم، 2. وسلامتهم من الأذى والظلم؛ فيجب على الدول الإسلامية أن تقوم بهذا الأمر حسب الطاقة والإمكان.
وأما بقاؤهم في حرب مع اليهود، وفي أذى عظيم وضرر كبير على رجالهم ونسائهم وأطفالهم: فهذا لا يسوغ شرعًا، بل يجب على الدول الإسلامية والأغنياء والمسؤولين من المسلمين: أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء الله اليهود أو فيما يتيسر من الصلح إن لم يتيسر الجهاد -صلحًا عادلًا-: يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم على أرضهم وسلامتهم من الأذى من عدو الله اليهود، مثلما صَالَح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة. وأهل مكة ذلك الوقت أكفر من اليهود؛ لأن المشركين الوثنيين أكفر من أهل الكتاب).

وقال أيضًا (4/296) و(18/417-418): (ولأنهم مظلومون؛ فالواجب على إخوانهم المسلمين: نصرهم، فمن ظلمهم؛ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. قالوا: يا رسول الله: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”؟ قال: “نصرته مظلومًا”. والأحاديث في وجوب الجهاد في سبيل الله ونصر المظلوم وردع الظالم كثيرة جدًا). (فنسأل الله أن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في فلسطين وفي غيرها على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق المسلمين جميعًا لمساعدتهم والوقوف في صفهم ضد عدوهم، وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وينزل بهم بأسه الذي لا رَدّ له على القوم المجرمين، إنه سميع قريب).

المسألة الثالثة:
بيان حال المقاتلين من المسلمين في فلسطين، ووصفه لهم بالمجاهدين في سبيل الله، وبيان الواجب تجاههم:

قال في “مجموع فتاويه” (4/295) و(18/416): (لقد ثبت لدينا بشهادة العدول الثقات: 1. أنّ الانتـفـاضـة الفلسطينية والقائمين بها من خواص المسلمين هناك. 2. وأن جهادهم إسلامي: * لأنهم مظلومون من اليهود. * ولأن الواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم. * وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوة. وقد أخبرَنا الثقات الذين خالطوهم في جهادهم وشاركوهم في ذلك عن: حماسهم الإسلامي، وحرصهم على تطبيق الشريعة الإسلامية فيما بينهم. فالواجب على الدول الإسلامية وعلى بقية المسلمين: تأييدهم ودعمهم؛ ليتخلصوا من عدوهم، وليرجعوا إلى بلادهم).

وقال أيضًا (18/410): (والمجاهدون في داخل فلسطين -وفقهم الله جميعًا- يعانون مشكلات عظيمة في جهادهم لأعداء الإسلام، فيصبرون عليها رغم أن عدوهم وعدو الدين الإسلامي يضربهم بقوته وأسلحته، وبكل ما يستطيع من صنوف الدمار! وهم بحمد الله: صامدون وصابرون على مواصلة الجهاد في سبيل الله كما تحدث عنهم الأخبار والصحّف، ومَن شاركهم في الجهاد من الثقات: لم يضعفوا ولم تلن شكيمتهم. ولكنهم في أشد الضرورة إلى: دعم إخوانهم المسلمين ومساعدتهم بالنفوس والأموال في قتال عدوهم عدو الإسلام والمسلميـن، وتطهير بلادهم من رجس الكفرة وأذنابهم من اليهود. وقد منَّ الله عليهم: بالاجتماع وجمع الشمل على التصميم في مواصلة الجهاد. فالواجب على إخوانهم المسلمين الحكام والأثرياء: أن يدعموهم ويعينوهم ويشدّوا أزرهم؛ حتى يُكمِلوا مسيرة الجهاد، ويفوزوا إن شاء الله بالنصر المؤزر على أعدائهم أعداء الإسلام. وإني أهيب بجميع إخواني المسلمين من رؤساء الحكومات الإسلامية وغيرهم من الأثرياء في كل مكان: بأَن يقدّموا لإخوانهم المجاهدين في فلسطين، مما آتاهم الله من فضله، ومن الزكاة التي فرضها الله في أموالهم، حقًا لمن حدّدهم الله -جل وعلا- في سورة التوبة وهم ثمانية: قد دخل إخواننا المجاهدون في فلسطين من ضمنهم).

وقــال –أيـضًا- (18/413): (وإخوانكم المجاهدون في داخل فلسطين أيها المسلمون يقاسون آلام الجوع والجراح والقتل والتشريد! فهم في: 1. أشدّ الضرورة إلى الكساء والطعام، وفي أشدّ الضرورة إلى الدواء. 2. كما أنهم في أشدّ الضرورة إلى السلاح الذي يقاتلون به أعداء الله وأعداءهم. فجُودوا عليهم أيها المسلمون مما أعطاكم الله واعطفوا عليهم؛ يبارك الله لكم ويخلف عليكم ويضاعف لكم الأجور).

وقال أيضًا (18/414-415): (ونسأل الله عز وجل أن يضاعف أجر مَن ساهم في مساعدة إخوانه المجاهدين، ويتقبّل منه، وأن يعين المجاهدين في فلسطين وسائر المجاهدين في سبيله في كل مكان، على كل خير، ويثبت أقدامهم في جهادهم، ويمنحهم الفقه في الدين والصدق والإخلاص وأن ينصرهم على أعداء الإسلام أينما كانوا إنه ولي ذلك والقادر عليه).

ونختمُ بقولٍ جــامعٍ للشيـخ يلمُّ شعَث ما تقدَّم مِن بيانِ الحقيقةِ والواجبِ:

قال في “مجموع فتاويه” (1/277): (إن المسلم لَيألم كثيرًا ويأسف جدًا من تدهور القضية الفلسطينية من وضع سيِّئ إلى وضع أسوأ منه، وتزداد تعقيدًا مع الأيام، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في الآونة الأخيرة، بسبب:
1. اختلاف الدول المجاورة، وعدم صمودها صفًا واحدًا ضد عدّوها.
2. وعدم التزامها بحكم الإسلام الذي علّق الله عليه النصر، ووعد أهله بالاستخلاف والتمكين في الأرض.
وذلك يُنذر بالخطر العظيم، والعاقبة الوخيمة: إذا لم تُسارع الدول المجاورة إلى توحيد صفوفها من جديد، والتزام حُكم الإسلام تجاه هذه القضية، التي تهمهم وتهمّ العالم الإسلامي كله.
ومما تجدُر الإشارة إليه في هذا الصدد: أنّ القضية الفلسطينية قضية إسلامية أوّلًا وآخرًا. ولكنّ أعداء الإسلام بذلوا جهودًا جبّارة لإبعادها عن الخط الإسلامي، وإفهام المسلمين من غير العرب أنها قضية عربية، لا شأن لغير العرب بها! ويبدو أنهم نجحوا إلى حدٍّ ما في ذلك! ولذا فإنني أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حلٍّ لتلك القضية إلا:
1. باعتبار القضية إسلامية.
2. وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها.
3. وجهاد اليهود جهادًا إسلاميًا.
حتى تعود الأرض إلى أهلها، وحتى يعود شذاذ اليهود إلى بلادهم التي جاؤوا منها، ويبقى اليهود الأصليون في بلادهم، تحت حــكم الإسـلام، لا حــكم الشيوعية ولا العلمانية. وبذلك ينتصر الحق، ويخذل الباطل، ويعود أهل الأرض إلى أرضهم على حكم الإسلام، لا على حكم غيره. والله الموفق).

ليث بن أمين العلواني

__________________________________________________________________________________________

اقرأ أيضًا:

تجربتي في ترجمة الأدب الحديث

منظومة في علل الزحاف

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى