مقالات

الذي يحدث في غزة

الذي يحدث في غزة

الذي يَحدُث في غزّة إقامَةٌ للحُجّة:

كل الكِتابات، كل المقاطع المصورة، كل المقاطع المسموعة، كلُّ ما يخرجُ من غزَّة من صراخٍ على هيئةٍ مصوَّرٍة أو مسموعةٍ أو مكتوبة، ليسَ لإخبارِ الحالِ ولا وصفِ المقال.. كلُّ ما يخرجُ من غزّة هو حجةٌ قامت على كلِّ نفسٍ تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. الحجّة قامت وانتهى.

أمَّا بثُّ الحزنِ والوجع، فقد حذونَا حذوَ يعقوب -عليه وعلى رسولنا السَّلام-: {إنَّما أشكو بثي وحزني إلى الله}، ذلك أنَّ الله وحده مَن ليسَ لديه وسادة يرى نشرةَ الأخبارِ ثُّم ينام!!!

نعلمُ أنّنا مجرد أرقامٍ لديكم، ونعلم أنَّكم كذّابون حين تقولون عكسَ هذَا، لأنَّه ما كانَ لأحدكم أن ينامَ لو أنَّ في بيته صنبورًا معطَّلًا يرشحُ المياه، لكنْ لأنَّ صنبورَ الدماءِ ليسَ في بيتكم ولا في خاصّة أهلكم، ولأنَّه ليسَ قضيتكم.. تنامون..

نعلمُ أيضًا أنَّه ليس لدمائنَا لعنة كما الدم السوريّ، لأنَّنا تعاونَّا وتواطأنَا مع الشيعة على ضمائركم (المُكَيَّفة) وعلى غيرتِكم (المُعلَّبة)، لا وقـتَ لمَوتِكَ أيُّها الفلسطينيّ، ولا أنتَ أيُّها المصريُّ المحروق المعدوم ساجدًا في صلاة فجرك، لا وقت لغربة السودانيّ، لا وقتَ للزَّنازين العربية المُتخَمةِ بعُلماءِ المسلمين، أعطوا “المايك” لِشَماتةِ السُوريّ..

على أيّة حال، أفْلام الكرتون الّتي تُشاهِدونَها على “الجزيرة” وعلى غيرها من الفضائيات، شـخصـيّاتُها حقيقـيةٌ، الفيزياءُ فيها حقيقـيةٌ، والجاذبية تعملُ بشكلٍ يدعو إلى القرَف.. والّذي يَسقطُ يُمِيتُ أو يَموت، والّذي يَموت لا يَعود..

الذي يَحدُث في غزّة حربٌ على الذاكرة:

قصف البيوتُ عمليًا هو تحويلُ البيوتِ -وبِالتأكيد الشَّوارعَ والمُدن- إلى كائناتٍ مفترِسةٍ مُخيفةٍ وبشعةٍ، بغرضِ ترويع الذَّاكرة، إنَّه عمليةُ انقلابٍ واضحةٍ وكاملةٍ على عرشِها.

o أنت تقول أشياءَ لا أفهمها.

اسمع -باختصار-: البيت المقصوفُ والشَّارعُ المهجَّر والمدينةُ المهدَّمة المخرَّبة هو سلوكُ تركيعٍ وإذلالٍ لقدرةِ الذَاكرةِ على إعادةِ الأشياء وبعثِها، وحصارٌ لها بكلِّ هذا الموتِ والرُّكام، فهي وإن كانتْ تستطيعُ أن تبني بيتًا مقصوفًا أو تُحييَ عزيزًا غاليًا، لكنها لن تستطيعَ بحالٍ أن تُعيدَ مدينةً كاملةً بكلِّ تفاصيلها من بيوتٍ وناس، وههنَا الخطر.. الذّاكرةُ أصلًا تتغذى على التفاصيل.

o إذنْ هي عمليةُ تجويعِ لها أيضًا!؟

طفلٌ ذكيٌ ههههه.

نعم يمكنكَ قول هذا. هذا خطيرٌ حقًا. نعم خطير جدًا على الذّاكرةِ الفردية.. وهُنا تأتي الحاجةُ الملحَّةُ والضروريةُ إلى الذّاكرةِ الجماعية، فهذَا الخرابُ قاتلٌ وحتميٌ لذاكرة الفرد، ولا نجاةَ منه إلا بذاكرةٍ جماعية.

– “أوبس”.. أخفتني.

لا تخفْ، للذاكرةِ أيضًا وسائِلها للدفاعِ عن نفسها.

ما يحدثُ في غزَّة الآن مِن حربٍ على كلِّ ما هوَ ثابتٌ..

– تقصد “متحرك”!

هههه، لا، بل قصدتُ “ثابتٌ” أيُّها الطفل الذَّكي.

o كيف؟!

الحروبُ لا تستفزها الأشياء المتحركة. ما يرعبها حقًا هي الأشياءُ الثَّابتة، لذلكَ أولُّ ما يفتحُ شهيتها على الخراب هي “البيوت”، لأنَّ البيوتَ معاقلُ الذَّاكرةِ، والذّاكرةُ بطبِيعتها مُقاوِمَة.

لذلك وإن كانت الأشياءُ المتحركةُ صعبة الاصطياد فإنَّها سهلة التدمير، وهذا الفرقُ الواضح بين ما هو متحركٌ وبين ما هو ثابتٌ، ذلك أنَّ الأشياءَ الثابتة وإن كانتْ سهلةَ الاصطيادِ فإنَّها عصيةٌ على التَّدمير.

لا تنسَ أيضًا أنَّ الذاكرةَ لا يمكن بحالٍ محوُها أو حرقها أو تدميرها أو سحقها، لكنْ يُمكنُ تخويفها.

o تخويفها؟!

نعم تخويفُها؛ فقصفُ بيتٍ -مثلًا-ليسَ الهدفُ الأساسيُ منه قتل مَن فيه، فالموتُ نِسبيٌ في هذه الحالة واحتماليٌ جدًا، لكنْ الخوفُ أساسيٌ وحتمي، ببسـاطة.

اللهم انقطع الرجاءُ إلّا مْنك، وخابتْ الآمال إلّا فيك، وانسدَّت السبُل إلَّا إليك، يا غياث المَلهوفين، يا أمانَ الخائفين، إنَّ لنا أهلًا بغزّة يُطحنونَ طحنًا تحت القذائفِ والرُّكام، وما لهم من أحدٍ سِواك، فكن لهم العونَ والسَّند، كن لهم العينَ واليد، عينًا تحفظهم ويدًا تنتشلهم من فوّهات الموت، اللهم لا تُشمتْ بنا عربًا ولا غربًا، واقضِ بيننا وبينهم بالحقِّ.. إنَّك أنت العزيز الحكيم.

مهند السبع

_______________________________________________________________________

اقرأ أيضًا:

نكبة المسكوت عنه والشيخ الددو يضحك ملء شدقيه

المدرسة الفخرية ببغداد وآثار فخر الدولة ابن المطلب

editor

هيئة التحرير بمجلة روى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى