العدد الخامسمقالات

عبد الرحمن الحجي سيرة ومسيرة

عبدُ الرَّحمن الحَجِّي: سِيرة ومَسيرة

 

د. أحمد عبد الرحمن الحَجِّي·

 

عبدُ الرَّحمن الحَجِّي: سِيرة ومَسيرة
عبدُ الرَّحمن الحَجِّي: سِيرة ومَسيرة

حين طُلِبَ مِنِّي كتابة هذه السطور عن حياة والدي، الدكتور عبد الرحمن الحَجِّي (رحمه الله)، تَرَدَّدتُ في الموافقة بادئ الأمر، رغم فرحي الكبير بهذه الدعوة الكريمة من قبل هيئة تحرير المجلة، فضلًا عن تكريسهم هذا العدد لغرض الوقوف عند محطات في سيرة الراحل ومسيرته الفذة والفريدة في خدمة التاريخ الإسلامي والأندلسي. مردُّ هذا التردد الذي انتابني هو تَهَيُّبي من كتابة مقال عنه يحمل توقيعي، أحْسَسْتُ في ذلك شيئًا من الجَرْأة في السماح بأن يقترن اسمي المتواضع باسمه الكبير.

لكنني في الوقت نفسه أحببتُ هذه المهمة التي أُنيطَتْ بي، ثم لم يسعني إلا الإسراع في أخذ قلمي والشروع في كتابة هذه الكلمات حين بَدَأتُ أتَخَّيل والدي (رحمه الله) يقرؤها مبتسمًا. بل ذهب خيالي إلى أبعد من ذلك، بدأتُ أتَخَّيل دموعه تتساقط فرحًا بما يقرأ، إذ كان لا يتمالك نفسه في مثل هذه المواقف التي يسمع فيها كلمات دافئة تحمل في طياتها شيئًا من الوفاء، حتى أنه كثيرًا ما كان (رحمه الله) يستعير بيتًا من الشعر في التعبير عن قرب الدموع منه، كأن هذا البيت الشعري نُظِمَ خِصِّيصًا ليصف تساقط دموعه، من إحدى عينيه لِتَنْضَم إليها الأخرى سريعًا:

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها                عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

الحَجِّي والأندلس:

الحَجِّي والأندلس صنوان، ولقد استحقَّ بجدارة ما أُطلق عليه من ألقاب عديدة بُعَيد وفاته: فارس الأندلس وعاشق الأندلس وشيخ المؤرِّخِين الأندلسيين. لقد أحَبَّ الوالد الدكتور عبد الرحمن الحَجَّي (رحمه الله) التاريخ الإسلامي أيما حب، وبالأخص الأندلسي منه، وعشق الأندلس عشقًا حقيقيًا. كان الوالد (رحمه الله) يتنفس الأندلس، ويعيش هموم أسلافه المورسكيين ومعاناتهم مع محاكم التفتيش. كثيرًا ما كنا نراه غارقًا في أفكاره، ليبدأ سيل دموعه بالنزول. وحين نستقصي نعرف أنه يتذكر مشاهد المورسكيين وهم يُحْرَقون أمام السلطات الكنسية في أحفالها “الإيمانية”، قابضين على دينهم يورِّثونة جيلًا بعد جيل وهم تحت وطأة محاكم التفتيش الغاشمة. لَكَم كان يسوؤه مَن يسْتَخِف بآلام المورسكيين وجهادهم ومصابرتهم، بل يلومهم ويتخذ من قضيتهم مثالًا على من أضاع دينه ودياره باللهو واللعب والرقص! وكثيرًا ما يأتي هذا الاستخفاف واللوم ممّن لا يكاد قرأ عن الأندلس غير مطالعة سريعة. أشْعُر أن رحيل الوالد زاد القضية المورسكية يُتْمًا في هذه الأيام، نسأل الله أن يعوضها بمن يسير على هذا الدرب ويرفع لواء هذه القضية الإنسانية العادلة.

جاء حُبُّه هذا للأندلس طبيعيًا دون تكلّف، إذ هو يشعر حقيقةً أنه من رفقة وصحبة ابن حيان وابن حزم الأندلسي ويحيى بن حكم الغزال، قذف به الزمان في العراق، لكنه عاد أدراجه إلى الأندلس (أرض الآباء والأجداد -كما كان يسمّيها-)، وشاء الله أن يُدْفَنَ فيها؛ في مَجْريطها (مدريد)، التي يحلو له تلقيبها بـ: “العاصمة الأوربية التي بناها المسلمون”. لعله كان خلال رحلة “العودة” تلك إلى الأندلس يَتَقَفَّى خُطى العديد من أسلافه المَشارقة الذين وفدوا الأندلس، لا سيما البغدادي أبو علي القالي الذي قدم إلى الأندلس واستقر فيها حتى وفاته، رحمه الله تعالى. هكذا كان رحمه الله، يتلمس الإسلام وأثره في كل حركة أو وقفة له في إسبانيا حتى آخر يومٍ له.

الانطلاقة العلمية:

دفعه هذا العشق المتدفق أن ينطلق من حقول الفلاحة في المقدادية بمحافظة ديالى في العراق في خمسينات القرن الميلادي الماضي، متوكلًا على الله بمُكنَته البسيطة، حاملًا بساط نومه في حقيبة سفره، ليستقر به الحال لدراسة الدكتوراة في أرقى جامعة عالمية: كيمبرج، التي قضى فيها شتاءه الأول بمعطف صيفي، ولكن كان ذلك بالتأكيد بعد أن مَرَّ بمحبوبته الأندلس، فكان أول لقاء جمعهما عام ١٩٥٩م، لم تسأم مشاعر ذلك اللقاء من جلب السعادة له حتى أواخر أيامه رحمه الله، والإعجاب والفضول لنا حتى اليوم. وكان نتاج هذه الرحلة باهرًا والحمد لله: أطروحة أنيقة راقية في موضوعٍ غاية في التَخَصُّص والتعقيد: “العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوربا الغربية خلال المدة الأموية”، دراسة عميقة استُمِدَّت من مصادر باثنتي عشرة لغة، قال فيها مشرف البحث في جامعة كيمبرج الدكتور جون هوبكنز بأنه لو أتى أي باحث ولو بعد مئة عام، فإنه لن يضيف إلى البحث في هذا الموضوع حرفًا واحدًا. يُذْكَرُ أن الوالد (رحمه الله) هو أول من حَمَلَ شهادة الدكتوراة في مدينته المقدادية، وذلك وفق ما ذكره أحد أهالي المقدادية لنا مؤخَّرًا. كما ذُكِرَ أنه أول من حمل دكتوراة في التاريخ الأندلسي في العراق.

إقدام وتصميم منذ نعومة الأظفار:

قبل عشرة سنوات تقريبًا، وفي صبيحة أحد الأيام، تبادر إلى سمع الوالد (رحمه الله) وَصْفُ أحدِ أنصاف المثقفين لواحدٍ من كتبه بأنه “إنشاء”! أثار ذلك التَجَنِّي الكثيرَ من الحزن والألم عنده (رحمه الله). أعاد له هذا الوصف (إنشاء) شيئًا من الذكريات الطريفة حول هذه الكلمة، يوم كان طالبًا في دار المعلمين في الأعظمية ببغداد. ذلك أن مدير الدار عاقب جميع طلبة السنة الثالثة الأخيرة بسبب هَرجٍ ومَرجٍ بَدَر منهم في حافلة المدرسة خلال رحلة علمية، وذلك بخصم درجات من السلوك. أحجم مجموع الطلبة عن الذهاب إليه للتفاهم معه حول رفع هذه العقوبة فلم يفعلوا خوفًا من قسوة المدير، وطلبوا من الوالد (رحمه الله) القيام بهذه المهمة. وافقهم، ولكن بشرط أن يكونوا معه في كل الأحوال. وبعد موافقتهم على هذا الشرط، ذهب الوالد (رحمه الله) إلى مدير الدار، وكان جالسًا في غرفة الأساتذة، قال له: “يا أستاذ، هذه العقوبة الجماعية كانت بأسباب لا ظل لها من الحقيقة”، وإذا به يقول له بعنف وقوة باللهجة العراقية: “إنتَ تتعلم إنشاء براسي، تعال معي إلى مكتبي”، وكان جازمًا في توقيع هذه العقوبة التي تحول دون العمل، فبدأ الوالد (رحمه الله) يكلِّمه محاججًا، فاستمعَ إليه، فأخذ يهدأ، ثم قال الوالد (رحمه الله) له: “يا أستاذ، لا بد أن تستمع إلى حججنا وذلك إذا جاءك شخص وعينه مفقوءة فلا تحكم له، فلعل الشخص الثاني عيناه الاثنتان مفقوءتان”، وإذا به يضحك وتنفرج أساريره، فيقول للوالد (رحمه الله) وهو مبتسم: “خلاص سأرفع هذه العقوبة عنكم”، فشكره وانصرف بين إعجاب الطلبة وفرحهم وشكرهم.

فَتْحٌ عِلميٌّ:

وفي إحدى جولاته عن المخطوطات أيام دراسته الدكتوراة أوائل ستينات القرن الماضي، يَسَّر الله له فتحًا علميًا كان باكورة نتاجه العلمي الواعد. كانت علاقته قد توثَّقَت مع القائمين على مكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد والتي تقبع على كنز ثمين من المخطوطات الأندلسية النادرة، ومَرَدُّ العلاقة الوثيقة تلك هو تكرار زياراته الجادة لهم. وبسبب تلك العلاقة الناشئة، سُمِحَ له بشكل أو بآخر بتصوير جزء من كتاب “المقتبس” لابن حيان، في وقت كان مجرد الاطلاع على تلك المخطوطات يُعَدُّ من أصعب المهمات، إن لم يكن من مستحيلاتها. فأخذ رحمه الله صورة المخطوط تلك وسارع بتحقيقها وطباعتها عام ١٩٦٥م في طبعة صَدَّر لها الدكتور إحسان عباس فَرِحًا ومُشيدًا بجهود هذا المُحَقِّق الناشئ والباحث الواعد، ثم تبين لاحقًا أن نسخة مدريد المُسَرَّبة من المقتبس هذه هي صورة وحيدة لأصل في مكتبة سيدي حمودة بالجزائر فُقِدَ لاحقًا. وبهذا يكون تحقيق الوالد (رحمه الله) لهذا المخطوط هو بمثابة إنقاذ له من الضياع. ثم تزامن صدور هذا التحقيق المُدَوِّي مع مؤتمر علمي أُقيمَ في مدريد، قال له فيه -ممازحًا- حسين مؤنس، مدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد آنذاك، أن عملك هذا كان كقنبلة انفجرت في أروقة هذا المؤتمر!

الحَجِّي علامة فارقة في تاريخ الأندلس:

يمكنني أن أقول بارتياح: إن مشهد التاريخ الأندلسي بعد عبد الرحمن الحَجِّي ليس كَقَبْلِه. لقد كانت مادة التاريخ الأندلسي قبله مادة خامًا لا يحسن استخدام مصادرها المتخصصة ومخطوطاتها إلا مَن تَبَحَّر وتَعَمَّق في هذا التخصص، حتى كُتُب المعاصرين التي سبقت عمله بقليل كانت تميل إلى التخصص والأكاديمية التي لا تجد القبول الواسع لدى العامة. فلتوفيق الله له (رحمه الله) يمكن أن نعزو جزءًا غير يسير من حركة تحويل تلك المادة الخام إلى أخرى قا

 

بلة للاستهلاك والعرض للأقل اختصاصًا وللعامة الذين يعتريهم الفضول في التعرف على هذا المقطع المهم من تاريخنا. وكتابه “التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة” يعد حجر أساس في التحول الذي شهده حقل العمل هذا.

لقد ملأ هذا الكتاب فراغًا كبيرًا، فطُبع أكثر من عشر مرات وغدا مقررًا دراسيًا في العديد من الجامعات، ولقد سقى عطاشًا بماء زلال أنقذهم بفضل الله من اللجوء إلى مياه آسنة متعفنة بالشبهات يسقون عطشهم بها، وإن بدت براقة في ظاهرها. ومن العلامات الفارقة التي تركها هذا الكتاب -رفقة غيره من أعماله (رحمه الله)- أنه أظهر جرأة لم تكن شائعة في مواجهة أعتى الشبهات التي أُلصِقَت بتاريخنا زورًا وبهتانًا، مواجهةً مسلحة بالدليل العلمي الواعي المنصف، دون أن يُرهبه شيوع هذه الشبهة أو تلك، أو كونها جاءت على لسان أحد المستشرقين المعروفين مثلًا، ويكون رحمه الله بهذا قد بث جرعات من الأمل والشجاعة في أروقة البحث العلمي في عالمنا العربي والإسلامي.

لطالما أُعجب والدنا عبد الرحمن الحجي (رحمه الله) بالفضل أبي رافع، ابن ابن حزم الأندلسي، الذي قال بعد وفاة أبيه (ابن حزم) أنه أحصى مؤلفاته فوجدها ٤٠٠ مجلد بحوالي ثمانين ألف صفحة. وإذا اعتبر عبد الرحمن الحجي (رحمه الله) نفسه من رفاق ابن حزم، فلا يسعنا -برًا بوالدنا- إلا أن نقف موقف الفضل أبي رافع، مشيدين بما تركه والدنا (رحمه الله) من تركة علمية كبيرة: قرابة ثلاثين كتابًا مطبوعًا وأكثر من عشرة كتب شبه جاهزة للنشر، جعلها الله شفيعةً له يوم القيامة كما كان يدعو الله تعالى دائمًا.

لم يبحث يومًا عن عمل، إنما عن ميدان:

لم تكن دوافعه في كل تلك الأعمال شخصية على الإطلاق، بل كان كل همه خدمة دينه من خلال رعاية تاريخ أمتّه، كان عالمًا بروح الفارس المحارب الذي آلمته سيطرة الشبهات على تاريخ أمته حتى غدت من المُسَلَّمات، فحمل سيف هذا التاريخ مستندًا على أقوى الأدلة العلمية، فسقطت بحمد الله الكثير من تلك الشبهات بضربة واحدة من هذا السيف العلمي التاريخي. وقد ذكر رحمه الله أكثر من مرة أنه يَعُدُّ عمله في التاريخ من العبادة وأنه نوع من أنواع الجهاد. لقد سلك طريقًا وعرًا شَحَّت فيه الرفقة، ولم يكن رحمه الله يبالي لذلك، وقد جلبت له تلك الجرأة وذلك التجرد للعلم الكثير من المتاعب التي أجبرته على حمل حقيبته من مكان إلى آخر!

نجد أنفسنا في اتفاق كبير مع من قال له في أحد الأيام الصعبة: لو أن أحدًا أنفق نصف جهودك في دراسة التاريخ الأوربي الحديث لنُصبت له التماثيل النصفية في سوح الجامعات الأوربية، ولسُمِّيَت القاعات المتعددة باسمه، إلا أنه كان دائمًا ما يرد بأن هذه المظاهر لا تهمه ولا يحسب لها حسابًا، وأنه لا يألم لفقد منصب أو أي مزية دنيوية، فهو لا يبحث عن “عمل وإنما عن ميدان” يوصل من خلاله رسالته. والحق أنه لا بد لمن يعرفه ويخبر تصرفاته أن يدرك منها ما يؤكد ذلك. لقد كان رحمه الله ينفق الساعات بعد الساعات من وقته، مع البسطاء قبل غيرهم، يصب العلم صبًا لكل من يطرق بابه، لا سيما من يتوخى فيهم الصدق والإخلاص في العلم والتوجّه. نرجو أن يكون فيما أدخره الله له خير عوض، ولعله شاطرَ الكثير من أعلام التاريخ الأندلسي كطارق بن زياد وموسى بن نصير بشيء من هذا الظلم الدنيوي، والذَين جمعهما مع غيرهما في كتابه الجميل “المظلومون في تاريخنا”.

ووجدنا في ملاحظاته التي كتبها (رحمه الله)، التبرير التالي لعدم رغبته في نشر مذكراته التي كتب أكثرها ثم تثاقل في المضي بها: “ما كنتُ أبحث عن الشهرة ولا أريدها، فقط أريد أن يعرف المسلم تاريخه من خلال ما أقدمه له”.

رفيقة دربه أول اللاحقين به:

كانت وفاة الوالد (رحمه الله) في مدريد يوم 18 يناير 2021م مفاجئة، إثر أزمة قلبية دهمته. وما هي إلا بضعة أشهر حتى لحقت به الوالدة الحبيبة النجيبة، أم بلال، منال عبد اللطيف الربيعي، في 5 سبتمبر 2021م، بعد معاناة من كورونا وتبعاتها دام قرابة الشهرين والنصف. كان أحدهما للآخر خير رفيق في مشوار الحياة، ولعل ثمة إشارة لهذا القرب بينهما في سرعة رحيل والدتي بعد والدي. لقد شاء الله العلي القدير واختار والدي ووالدتي أول الراحلين منا عن هذه الدنيا، لعله الحكيم (سبحانه وتعالى) شاء ذلك لأنهما أكثرنا قربًا منه واستعدادًا للقائه، فعسى أن يكون ذلك تذكيرًا لنا بالعودة إليه سبحانه والاستقرار والاستمرار على الطريق إليه، فلا فلاح حقيقي في هذه الدنيا إلا على هذا الطريق، نسأل الله أن نكون وإياكم من سالكيه.

كانت أمي (رحمها الله) تعمل دومًا دون توقُّف، كالساعة. تَجْمَع عملها التربوي الشَّاق في الصباح مع أعباء المنزل الكثيرة بعد الظهر، فضلًا عن مساعدة والدي (رحمه الله) في المساء، لا سيما في كتابة كتبه وتنظيمها. كل ذلك قَدَّمَتْه بِصَدْرٍ رَحب، لا تكاد تذكره، وما كُنّا لنَعْرِف شيئًا عَنْه لولا إشادة والدي (رحمه الله) المستمرة بِكَرَمِها ووَقْفَتِها معه في مشوار الحياة. كثيرًا ما كان يذكر والدي (رحمه الله) ويُشِيد بكتابتها مسودة كتابه “التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة” بيدها مَرَّات خمس. إليها أَهْدَى الوالدُ إحدى أوائل كتبه وأكثرها أهمية: “نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي”، أهداه إليها بهذه العبارات الرقيقة: (إلى الَّتي أحْسَنَتْ صُحْبَتي، وتَبْذِلُ جُهدَها في معاوَنَتي، وَفَاءً وتَقْدِيرًا.. إلى زوجتي).

صفحة الإهداء في كتاب “نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي”

ثم كَتَبَ لها من الشِعْر أرَقَّه، لا سيما تلك القصيدة التي كَتَبَها لها ولأُختي الكُبرى ابتهال (وحيدتهما يومَها)، وذلك حين بَعُدا عنه بسبب سفر طال أَمَدُه. كانت تلك القصيدة أول تجاربه الشعرية الجَادَّة، جاءت بعنوان: “زوجتي منال”.

من أبياتها([1]):

حبيبة قلبي هَيَّا تعالي            فأنتِ أنيسي وكُلّ مآلي

أنا لا أُطيق عنكِ بِعادًا           بين غُربتي ووحـش الليالي

أمَا عَلِمتِ الحُبَّ كيف بَراني            أضناني شوقًا وأساء حـالي

فلا نومٌ يطيبُ ولا طعامٌ                 ولَمْ يَرْوِني ماءُ الزلالِ

قَضَيتُ الصيفَ منتظرًا لقاءً            مَلَلتُ الصيفَ وعيشًا في الجبالِ

تَهيمُ النفسُ في آفاقِ شوقٍ              بين شرقٍ وغربٍ في تَوالِ

أَقْرضُ الشعرَ فيكِ ولستُ         كثيرَ القوافي رَبيبَ خيال

لا جعل اللهُ ساعةً وهـي تَمُرُّ           دونما ذِكْرُكِ يَحْتلُّ بالي

ووليدَتُنا صُبِّرْتُ عنها                   سِتًا مِن الشهورِ دون “ابتهالِ”

فلا بَعُدْتُم بعد اليوم عني         ولا بَعُدْتُ عنكم يا “منالي”

مسيرة.. بالمتابعة جديرة:

لطالما تمنّى الوالد (رحمه الله) إطلاق مركز بحثي لدراسات التاريخ الإسلامي والأندلسي، وسعى لذلك عشرات السنين، ولكن حالت دون تحقيقه المُكنةُ المادية. بدأت هذه الفكرة في ثمانينات القرن الماضي، إذ نُشِرَت معه حينها مقابلة في صحيفة البيان الإماراتية، يوم 9 مارس 1985م، تحت عنوان: إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، مشروع يتكلف مليون دولار. وبعد مرور سنين دون تحقق هذا الهدف، مضى الوالد (رحمه الله) بفكرة مختصرة لكنها تسير في هذا المضمار نفسه، وهي مجلة علمية مُحَكَّمَة لنشر دراسات رصينة في التاريخ الإسلامي. وبالفعل، صدر العدد التجريبي من هذه المجلة، تحت عنوان “البذور”، إلا أنها بِدَورها كذلك لم يُكتب لها الاستمرار، مع أسف شديد.

واليوم نُجَدِّد الدعوة لتبني هذه الفكرة المهمة من قِبَل المؤسسات والأفراد، فتاريخنا الإسلامي جدير بهذا الاهتمام. إنه الصورة العملية للإسلام، من خلاله نرى أثر الإسلام في المجتمع، نرى جليًا كيف أن أي ارتفاع ونهوض كان بالأخذ بمنهج الله، وأي انخفاض وهبوط كان بسبب البعد عن ذلك المنهج. كما نوجِّه الدعوة للاهتمام بنتاج الدكتور عبد الرحمن الحَجِّي (رحمه الله)، لا سيما إنتاج المواد الإعلامية والوثائقية التي تُعَرِّف بسيرته ومسيرته في توعية الأمة بأهمية تاريخها لاستعادة الثقة بنفسها والنهوض من واقعها المتراجع([2]).

 

 

الهوامش:

  • أستاذ العلوم المالية المشارك، جامعة كيبيك – مونتريال – كندا.

([1]) أبقينا على الأبيات كما أوردَها نجله الكريم الدكتور أحمد الحجي، مع ما فيها من كسر في الوزن، لأنها تمثل مرحلة مهمة من حياته كونها أول تجاربه، ولها دلالات يستفيد منها المهتمون بسيرته -رحمه الله-. (التحرير)

([2]) حساب أ.د. عبد الرحمن الحَجِّي في تويتر وفيسبوك تحت مُعَرِّف: aaelhajji وفي يوتيوب: abdulrahmanelhajji

 

اقرأ أيضًا:

خواطر مسجدية أندلسية

العلّامة العمرانيّ بقيّة الفضلاء

المؤرخ المحقق والأديب المدقق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى