العدد الرابعدراسات

رسالة في تصحيح تركيب “أكثر من أن يحصى”

لطاش كبرى زاده (ت 978هـ)

رسالة في تصحيح تركيب “أكثر من أن يحصى”

لطاش كبرى زاده (ت 978هـ)

تحقيق: سارة خالد الرحاحلة

مقدمة:

عُنيت هذه الرسالة بِحَلِّ تركيبٍ من التراكيب التي كَثُر تداولها وشاع استخدامها، وكانت مَوضع إشكالٍ، صَعُب حلُّها على كثير من حذّاق اللغة وفضلاء أهلها، لا سيّما تركيب “أكثرَ مِن أنْ يُحصى”، وهذا هو الهدف الرئيس الذي من أجله كُتبت الرسالة.

وقد عالجَها المؤلف باستخدام أسلوب التضمن في مقدمة رسالته، مع ذكره لتراكيب أخرى، كما استخدم أسلوب التمثّل بالشعر، فقد استحضر بيتًا للخوارزمي، يشبه تلك التراكيب التي ذكرَها، وقد ابتعد في رسالته عن الألفاظ الحوشية، والتزم فيها الطريقة العلمية.

ومما تمتاز به هذه الرسالة أنّ المؤلف ذكَر فيها المسالك التي سلكها العلماء في تفسيرهم لمثل هذه التراكيب.

 

المؤلف:

مؤلّف هذه الرسالة هو أحمد بن مصطفى بن خليل المعروف بـ (طاش كبرى زاده)، من مشاهير الموسوعيين الأتراك وكُتّاب السِّيَر، ولد في بروسة سنة (901هـ)، ونشأ في أنقرة، وتأدب وتفقّه، ووَلِيَ القضاء بالقسطنطينية.

يُعدّ من المصنفين في الموسوعات، فكتابه “مفتاح السعادة ومصباح السيادة” يعدّ ذخيرة للتعريف بكثير من العلوم، وله كتاب في السِّيَر هو “الشقائق النعمانية” فيه سيرة شيوخ الطرق، وله “العقد المنظوم في ذكر أفاضل الروم”، وله مؤلف في “البحث والمناظرة”، وله “نوادر الأخبار في مناقب الأخيار”.

وقد كانت وفاته في عام (968ه)[1].

 

النسخ المعتمدة:

لهذه الرسالة نسختان خطيّتان:

  • النسخة الأولى وهي النسخة الأم التي تم اعتمادها في تحقيق هذه الرسالة، وهي من مقتنيات مكتبة فيض الله أفندي، باستنبول، تحت رقم (1776).

تقع هذه النسخة في صفحتين، في كل صفحة (19) سطرًا، وحالتها جيّدة، كتبت بخط واضح نوعًا ما. وقد رمزت إليها بالرمز (أ).

جاء في طليعتها: (رسالة في تصحيح تركيب” أكثر من أن يُحصى” لطاش كبرى زاده)، وفي آخرها (تمت الرسالة لمولانا طاش كبرى زاده).

  • أمّا النسخة الثانية فهي من محفوظات مكتبة راشد أفندي، بولاية قيصري في تركيا، تحت رقم (2756)، ويقع هذا المجموع في (93) لوحة، وهذه الرسالة آخر رسالة فيه. وناسخه هو حافظ خليل، كما صرّح باسمه في عدة مواضع، وأمّا تاريخ النسخ ففي حدود سنة (1157ه) كما هو مدوّن في خاتمة بعض الرسائل التي تضمنها المجموع. والمجموع فيه رسائل متفرقة الفنون، ومختلفة المؤلفين، وفيه اقتباسات وفوائد كثيرة من عمل الناسخ، وعليه حواشٍ عديدة من الناسخ أيضًا فيما يبدو.

تقع هذه النسخة في صفحة واحدة، تحوي (21) سطرًا، وحالتها جيدة بيد أنها تحوي الكثير من الهوامش المحيطة بمتن الرسالة. وقد رمزت لها بالرمز (ب).

كُتب على رأسها (رسالة في حل تركيب “أكثر من أن يُحصى” لطاش كبرى زاده)، أما في أسفلها فقد اكتفى بقول (تمت الرسالة).

وصف عمل المحقق:

  • قراءة النسخة (أ)، والتي تم اعتمادها أصلًا، وتدقيق النظر فيها، ثم نسخها وفق قواعد الإملاء، مع الاهتمام بتفقير النّص وتنسيقه، ووضع علامات الترقيم المناسبة، وضبط بعض الكلمات التي قد تسبب الإشكال ضبطًا مناسبًا.
  • مقابلتها على النسخة (ب)، وإثبات الفروقات بينهما في الحاشية.
  • تفسير بعض الألفاظ الواردة في الرسالة بصورة موجزة.
  • تخريج بيت الشعر والأقوال الواردة في الرسالة.

 

نصّ الرّسالة:

 رسالة في تصحيح تركيب” أكثرَ مِن أنْ يُحصى”

   لطاش كبرى زاده

   أحمدُ الله سبحانه وتعالى حمدًا أكثر من أن يحصى، وأصلي على نبيه[2] محمد أفضل الرسل، أشهر من أن يُخفى- صلى الله عليه وعلى آله وأصحبه وسلّم- صلاةً وسلامًا، أكثر[3] من أن يضبطها القلم.

فهذه تعليقة مبيّنة لتراكيب شاع بين العلماء استعمالها، وأعجز نحارير الفضلاء وحذّاقهم حلّها وهي ما أشرنا إليه بطريق التضمين[4]؛ أعني قولهم: “أكثر من أن يحصى”، “وأشهر من أن يخفى”، و”أكثر من أن يضبطها القلم”، ومن هذا القبيل قول الشّاعر[5]:

النّاسُ أكيس من أن يمدحوا رجلًا    ما لم يروا عنده آثارَ إحسانِ

وجه الإشكال في هذه التراكيب أنّ موصوف اسم التفضيل لابدّ أن يكون مشتركًا مع المفضل عليه في نفس الفعل مع زيادة المفضل في نوع من أنواع ذلك الفعل، ولا يخفى عليك أن قولك هذه الجملة[6]: “أكثر من أن يحصى” ونظيرها[7]، ليس فيها اشتراك؛ لأنّ الإحصاء غير قابل للكثرة، وحيث انتفى شرط التفضيل لم يتحقق التفضيل، مع أنّه مرادٌ من الكلمات المذكورة بلا شبهة[8]، ووجه التقصّي عن هذا الإشكال هو أنّ المفضل عليه ههنا مقدّر، والتقدير أكثر مما يتعلق به الإحصاء، إذ الكثرة لا تتحقق في الأوصاف إلّا بواسطة موصوفاتها، فكلمة “من” متعلقة باسم التفضيل قطعًا.

ثم إنه لمّا كان مواقع الاستعمال بهذه التراكيب ادّعاء الاتساع مثلًا قولك لهذه الجملة: “أكثر من أن يحصى”، لمزيد اتساع الإحصاء[9] فيراد بهذه التراكيب معانيها الأصلية لينتقل منها إلى الاتساع اللازم لها فيكون من قبيل الكناية[10]، فهذه التراكيب معتبرة في معانيها الأصلية التفضيل، وفي معانيها الكناية ادّعاء الاتساع.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العلماء سلكوا في دفع الإشكال المذكور[11]، ثلاثة مسالك:

الأول: مسلك العلّامة التفتازاني[12]، حيث قال: (كلمة “من” متعلقة بفعل يتضمن اسم التفضيل؛ أي متباعدة في الكثرة من “ضبط القلم”)[13]، ولا يخفى عليك أنّ هذا التباعد هو المعنى الكنائي، فيلزم على ما ذكره أن لا يعتبر المعنى الأصلي[14]، وكلاهما فاسدان، ولهذا أورد عليه الشريف الفاضل سؤالًا حيث قال: (إنّ كلمة من إذا لم تكن تفضيلية فقد استعمل أفعل التفضيل بدون الأشياء الثلاثة)[15].

والثاني: مسلك الفاضل الشريف[16]، حيث قال: (إنّ التفضيل مراد بلا شك، فالمعنى أكثر ما يمكن أن يحصى)[17]. وأنت خبير بأنّ هذا التقدير تصحيح التفضيل فقط، فلا تعرُّض في كلامه للمعنى الكنائي الذي هو المعنى المقصود الأصلي من التراكيب المذكورة كما بيّناه.

الثالث ما ذهب إليه بعض العلماء[18] من أنّ التقدير: أكثر من متعلق الضبط، ومتعلق الإحصاء، وأكيس من فاعل[19] مدح بلا رؤية إحسان. ولا يشتبه عليك أنّ هذا أيضًا تصحيح لمعنى التفضيل، وهذا القائل وإن صحّح هذا المعنى لكن فاته التعرّض للمعنى الكنائي الذي هو المقصود الأصلي من هؤلاء التراكيب.

والله يقول الحقّ ويهدي السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.

تمت الرسالة لمولانا طاش كبرى زاده بحمد الله

 

الهوامش:

[1] ينظر: الموسوعة التاريخية للدرر السنيّة (ج8، ص3)، والشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية (صفحة المؤلف).

 [2]في النسخة (ب): (سيّدنا).

[3] في النسخة (ب): (أوفر).

[4] في النسخة (ب): (التضمن)؛ والضمن، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي شَيْءٍ يَحْوِيهِ، وتضمن العبارة: معنى أفادته بطريق الإشارة أو الاستنباط، ينظر: مقاييس اللغة (ج3، ص373)، والمعجم الوسيط (ج1، ص544)، والتضمين: هو أن يقصد بلفظ معناه الحقيقي ويراد منه معنى آخر تابع له بلفظ آخر دلّ عليه بذكر ما هو من متعلقاته. ينظر: كشاف اصطلاحات الفنون (ج1، ص469).

[5] البيت من البسيط، أورده أبو بكر الخوارزمي في قصيدة له في مدح الصاحب بن عباد. ينظر: ديوان أبي بكر الخوارزمي، تحقيق حامد صدقي، (ص414).

[6] في النسخة (ب): إنّ هذه الجملة.

[7] في النسخة (ب): جاءت على صيغة التذكير: (نظيره).

[8] في النسخة (ب): (تشبيه).

[9] في النسخة (ب): (مثلا قولك: “أكثر من أن يحصى” يراد به أن يمتنع إحصاؤه عادةً، ولا شك أنه الزائد في الكثرة على ما يتعلق به الإحصاء).

[10] الكناية: لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته وهي أنواع، ينظر: المعجم الوسيط (ج2، ص302)، ومختار الصحاح (ج1، ص274).

[11] في النسخة (ب): جاءت على صيغة التأنيث: (المذكورة).

[12] هو العلّامة مسعود بن القاضي فخر الدين عمر، الشيخ سعد الدين التفتازاني، (ت 793هـ)، عالم مشارك في النحو والتصريف والمعاني والبيان، من مؤلفاته: تهذيب المنطق، والنعم السوابغ في شرح الكلم النوابغ للزمخشري. ينظر: سلم الوصول إلى طبقات الفحول (ج3، ص329)، بغية الوعاة (ج2، ص371)، ومعجم المؤلفين (ج12، ص228).

[13] في النسخة (ب): (من ضبط القلم ومن الإحصاء). ينظر: تلوين الخطاب، لابن كمال باشا، تحقيق عبد الخالق الزهراني (مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، عدد 113، ص165).

[14] في النسخة (ب): (أن لا يعتبر المعنى الأصلي، وأن لا تتعلق كلمة “من” بالمعنى الأصلي، وكلاهما فاسدان).

[15] ينظر: تلوين الخطاب، المرجع السابق.

[16] في النسخة (ب): (الشريف الجرجاني)؛ وهو أبو الحسن علي بن محمد بن علي السيّد الشريف الجرجانيّ الحنفيّ الأشعريّ (ت 816ه)، من مؤلفاته: كتاب التعريفات، وخطب العلوم، وغيرها. ينظر: بغية الوعاة (ج2، ص196)، وتاريخ علوم البلاغة والتعريف برجالها (ص157-159).

[17] يُنظر: تلوين الخطاب، لابن كمال باشا، مرجع سابق.

[18] يَقصد: ابن كمال باشا في كتابه المشار إليه في الهواش السابقة: “تلوين الخطاب”؛ فقد أورَد كلام التفتازاني والشريف الجرجاني وتعقَّبَهما.

[19] في النسخة (ب): (أكيس من متعلق مدح بلا رؤية إحسانه).

 

اقرأ أيضًا:

رسالة في إعراب “من حفظ حجة على من لم يحفظ”

المدرسة الفخرية ببغداد وآثار فخر الدولة ابن المطلب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى