العدد الثالثنصوص أدبية

الدرس الأول

الدرس الأول

 

مالت بنا سيارة الجيب (لاند روفر) الحكومية قليلًا على جانب الخط الصحراوي, عند نُزُلٍ كُتب عليه: وزارة الزراعة, نزلنا من الجيب بعد مكابدة ثماني ساعات في طريق صحراوي غير معبّد. كنا أربعة معلّمين ومندوبًا من مراقبة تعليم (غات) في أقصى الجنوب الغربي للجماهيرية اللبية. نزلنا الواحد تلو الآخر,  دخلنا فوجدنا كبار أهل البلدة في استقبالنا على نحوٍ لم نتوقّعه, مما خفّف علينا مشقّة السفر.

بعد السلام أجلسونا في صدر المجلس وأخذوا يرحّبون بنا بلكنة عربية مكسّرة تشبه لكنة الأجانب عندنا, استغربنا شكل ملابسهم وطريقة سلامهم, فأشار إلينا المندوب أنه سيوضح ذلك لنا لاحقًا , بعد برهة قليلة أتى أحدهم بصحن وإبريق نحاسيين, فطلب منا المندوب أن نغسل أيادينا ونحن جلوس، ثم أُعطينا منشفة فجففناها, وعلى الفور حضر رجل آخر ومعه سيخٌ طويل فيه قطعٌ كبيرة مشوية من كبد الغنم, فتناول كلٌ منا قطعة. بعد فترة قصيرة أُحضِر الطعام وهو عبارة عن الطبق الشعبي في بلاد المغرب العربي (الكسكسي) يشبه قليلًا (المفتول) عندنا لكن حبّته أصغر. قال كبير الحاضرين بلهجة ليبية: “باهي توَّ تْفَضْلوا الغدا”, وذلك بين تهليل وترحيب الأهالي.

بعد الأكل أحضروا لنا الصحن والإبريق النحاسيين وغسلنا أيدينا مرة أخرى ونحن جلوس, ثم أحضر لنا الشاي المغلي جيدًا والمحلّى كثيرًا حتى صار كثيفًا مائلًا للسواد, في أكواب صغيرة الحجم بطول حوالي 3سم. بعد ذلك استأذن المندوب ليأخذنا إلى نُزل المعلّمين الخاص, وصلنا هناك فكان النزل عبارة عن ثلاث غرف حديثة البناء مع منافعها في كل غرفة ثلاثة أسرة, جلس معنا المندوب يحدثنا فقال:

أنتم الآن في بلدة العوينات, وهي بلدة هادئة تقع على الخط الصحراوي الذي يربط بين سبها (عاصمة إقليم فزان) وغات، وطوله 560كم, منها 200كم حتى مدينة (اوباري) معبّدة, والباقي 360 كم طريق ترابي صحراوي كما ترون، والحكومة تعمل على تعبيده بإذن الله. تَبعد العوينات عن المركز (غات) باتجاه (اوباري) 120كم, سكّانها من الطوارق, لهم لغتهم الخاصة بهم وتسمى (التارغي أو الهاوْسِن) والحكومة تسعى جاهدة لنشر اللغة العربية بينهم, وتعليمهم  والنهوض بهم من حالة البداوة والتصحر إلى حالة المدنية الحديثة, وهذا يقع على كاهلكم أنتم -أيها الشباب- وإن شاء الله أنتم على قدر المسؤولية. تحاول الحكومة جاهدة إقامة إسكانات وعمل مشاريع زراعية لتسكين الذين يقطنون في الصحراء.  الناس هنا هادئون طيبون يحبون الغريب,  وأكثر ما يحترمون المعلّم، فهو عندهم مقدّس ومبارك, أما اللباس الذي شاهدتموه فهو اللباس التقليدي الذي يحرص أهل البلدة على لباسه في الاحتفالات وعند استقبال الضيوف المهمّين, و يتكوّن من الثوب السروال الفضفاض والعمامة (بطول حوالي خمسة أمتار) التي تلف على الرأس ثم يغطى بجزء منها الفم والأنف ولا يظهر سوى العينان, وكل أهل البلدة مسلمون متدينون, في البلدة مخبز واحد، وفيها جمعية تعاونية لشراء حاجاتكم والجمعية هي ملك الحكومة إذ لا ملكية فردية عندنا, تبيع المواد الأساسية بسعرها في العاصمة أما الخضار فهي شحيحة لأن المشروع الزراعي لم يكتمل بعد. المدرسة هنا مختلطة حتى الصف التاسع وعدد الطلبة حوالي 200 طالب. سأترككم الآن ترتاحون وفي الصباح يحضر مدير المدرسة ليصحبكم إليها, ويعرّفكم مرافقها ويوزّع عليكم المهام.

استلقيت على السرير ورفعت عينَيّ في السقف, دارت في مخيلتي هذه الرحلة العجيبة السريعة، ففور تخرجنا كانت البعثة الليبية في الانتظار لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المعلمين منافسة لدول الخليج, لملء الشواغر في  مدارسها, في بلد مساحته حوالي مليون و750 ألف كم2, إبان النهضة والثورة الثقافية التي أُعلنت آنذاك, وسرحت  في ركوب الطائرة لأول مرة  من عمّان إلى طرابلس الغرب، ثم من طرابلس إلى سبها عاصمة إقليم فزان والمسؤولة عن كل مراقبات التعليم في الجنوب الغربي الليبي, ثم رحلة الحافلة التي استغرقت 24 ساعة لقطع مسافة 560كم منها 360كم طريق صحراوي غير معبّد تتخلّله كثبان رملية متحركة, ثم العودة مرّة أخرى على الطريق نفسه باتجاه العوينات, كل ذلك في 3 أيام . قلت: سبحان الله فعلًا كما يقال في المثل الشعبي (الإنسان طائر بلا جناح). ثم رحت في سبات عميق.

في الصباح حضر مدير المدرسة ورحب بنا, ثم صحبنا إلى المدرسة بكل ذوق واحترام, وعرفنا المرافق والصفوف, ووزع علينا المهام والنشاطات مع باقي الزملاء القدامى.

أسند إليّ نشاط الإذاعة المدرسية باعتباري معلم اللغة العربية. قرع الجرس واصطف الطلاب بكل سهولة ويسر, تفاجأت بأن بعضهم في مثل سني تقريبًا, فعلمت أن التعليم وصل إليهم متأخرًا فالتحقوا بالمدارس  في سن كبيرة.

بدا النشيد الوطني وهو النشيد المشهور (الله أكبر يا بلادي كبري) أحسست بشيء يهزّني من الداخل, أنا إذن في بلد عربي رغم السحنة الأفريقية السوداء واللكنة التي أسمعها. وصمّمت ساعتها أن أبذل كلّ ما في استطاعتي ليكون لي بصمة في نشر العربية في تلك البلاد. بعد انتهاء النشيد سلّمني المدير الميكروفون وقال: الآن مع الإذاعة المدرسية، أذكر أنني أخذت الميكرفون, ولا أدري لِمَ خطرت على بالي بالذات فواتح سورة الفتح (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا…) فتلوتُها, ثمّ كلمة ترحيبية بالطلبة في بداية العام الدراسي.

دخل الطلاب الصفوف وكانت الحصة الأولى لي عند الصف التاسع. أول قطعة طباشير أمسكت بها وأنا معلم, كتبتُ في أعلى يمين السبورة بسم الله, وعلى الجانب الأيسر التاريخ: 5/9/1976م، وفي الوسط كتبتُ: الدرس الأول, وتحته: بلاد العُرب أوطاني.

حكاية: علي الشافعي

اقرأ أيضًا:

غرناطة

أشواق اللقاء

يا سيد الثقلين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى