العدد الثانينصوص أدبية

بيت الشجرة

 

بيت الشجرة

بيت الشجرة

قصة: بيان أسعد

هناك شجرة تسكن في ذلك البيت الذي يقابل بيتنا، البيت فارغ تمامًا وليس ثمة أحد غيرها. لقد لفت نظري صدفةً كما تحدُث لي الأشياء غالباً، أردت أن أسدل ستائر الغرفة ثم لمحتُها تتحرك في ذلك البيت، كانت نوافذه كلها مفتوحة، والعتمة تسود كل الغرف، البيت هادئ تحوطه مجموعة من الأشجار، لا أرىٰ أحداً يدخل أو يخرج من البيت، وثمة غرابان وحيدان يمران على سطحه، ينعقان كثيراً، ثم يقفزان إلىٰ بيوت بعيدة.

هناك شيء يحدث لتلك الشجرة، لقد استطالت كثيراً ثم توقف نموها حين وصلت النافذة، وبعدها هاجرتها كل العصافير وأتت موزعة علىٰ بيتنا وعلىٰ البيوت التي تجاورنا وتقابلنا. إنها المرة الأولىٰ التي أرىٰ فيها شجرة تسكن بيتاً كبيراً وحدها، وتتخذ غرفة واحدة منه لا غير، إذا لم تكن موجودة، كنت سأتخيل ساكني البيت؛ تتجمع العائلة المكونة من أربعة أفراد حول المائدة بهدوء كل يوم، طاولة صغيرة خشبية عتيقة، طعامهم يتكرر ذاته كل يوم، يأكلون بصمت، لدىٰ الجميع ذات الشكل، ذات الطريقة في الأكل، ذات الاهتمامات، أولاً الجلوس علىٰ الكراسي الوحيدة في البيت إذ لا يوجد أثاث فيه غيرها، يقرؤون رواية العمىٰ بنفس السرعة، لهم ذات الانفعال بعد كل موقف يحدث، إذا رأيت وجوههم في أول الرواية تجدها نفسها، يرفعون حواجبهم باندهاش ثم ابتسامة خفيفة تمر، يزيحون نظرهم إلىٰ النافذة (ولا يرونني)، ثم يقررون الاستماع إلىٰ إنريكو ماسياس وينتهون إلىٰ أغنية له مع الشاب مامي، يرتشفون القهوة في نفس السطور، ثم حين ينتهون من الرواية، يذهبون إلىٰ غرفة النوم ويعودون إلىٰ صمت غريب وهائل.

لا أعلم… صارت الشجرة تأخذ كل وقتي وأكثر ما يهمني في عاداتي اليومية، أستيقظ لكي أراها، أطمئن عليها، ولكن يكفي أن أستيقظ وأراها، حتىٰ مع الوقت صرت لا أتزحزح من مكاني، أبقى متسمرة أتأملها من النافذة.

وأثناء ذلك كنت أفكر بماذا تشعر امرأة تعرضت للخيانة؟ بماذا كان يفكر زوجها وهو ينظر إلىٰ المرأة الأخرىٰ، كيف كان يتأمل وجهها، كيف كان وجهه. إن ذلك عمق أيضاً، لا أحد يحترس إلىٰ اكتشاف الأمور العميقة في أدق تفاصيل الحياة، صرت أحس أن هناك عجزًا بي، لماذا يمكن أن أفكر بكمال الأشياء، بتمام الأشياء، ترتيب الأشياء إلىٰ نهايتها. المرأة أشبه بقاموس يقطر تفاصيل، والرجل أهل لذلك. لماذا يمكن لرجل أن يترك التفكير بامرأته الجديدة ويفكر بشجرة تقطن بيتاً! لماذا أنا أفكر بهذا الآن؟! ربما لأن الأنثىٰ دائماً يشغل بالها الحب، تفاصيله، إتمامه، تمزيقه، تخطيه، إلغاؤه، والانزياح إلىٰ شيء آخر، مغاير تماماً.

اليوم حذرت الأرصاد الجوية من تكون الضباب. ونسيت أن تحذر من تكون الضباب علىٰ نافذتي، استيقظت منزعجة عندما رأيت الغبش علىٰ النافذة وعلىٰ نافذة جارتي الشجرة. وذلك ما دعاني إلىٰ التفكير في حياتها أكثر، ماذا تفعل شجرة وحدها في بيت واسع مثل هذا؟ للحظة ما صرت أقارن بيننا، لا أعلم لماذا؟ أنا الآن في وحدتي أغلق الستائر وأحفل بمشاهدة فيلم جريمة مثلاً، أو بترتيب خزانتي علىٰ وقع موسيقىٰ لـHusno، أو شرب عصير ليمون احتراساً من الإصابة بالبرد، أو الرقص، أو شتم الحياة، أو إعداد فيتوتشيني، أو انتظار زوجي بصمت دون فعل أي شيء. ترىٰ هل للشجرة عائلة؟! ترىٰ ماذا تفعل الآن؟

في أحد الأيام اتصلت بي صديقتي تخبرني أنها قادمة، أنهيت الاتصال وكالعادة كنت أنظر من النافذة، فجأة ارتعشت، وصرخت، كانت هذه هي المرة الأولىٰ، أغلقت الستارة، أذكر إلىٰ الآن التصميم الذي كنت به عندما قررت إغلاقها، دقت صديقتي الجرس وفتحت لها الباب، ودخلت وتحدثنا كأن لم يحدث شيء. في الأوقات الأخرىٰ خلال أسبوع كامل أشغلت نفسي بأشياء أخرىٰ، نظفت النوافذ، وغسلت جميع الملابس التي في الخزانة، ومسحت الغبار عن جميع أثاث البيت، كنت كل يوم أعد لنفسي برنامج أعمال أقوم بها. إلىٰ أن أتىٰ يوم ونسيت أمرها بالكامل، كان الأمر مفاجئاً لي، ولكنه ما لبث أن أصبح حقيقة، ثم أصبحت أهتم بالأشياء الحقيقية، وزاد إيماني بكل شيء أمسكه بيدي، حتىٰ بجهاز التحكم، صرت لوهلة أحب أن أثرثر، أضحك علىٰ كل الأشياء السخيفة، أتحدث بمواضيع سهلة ومطروحة باستمرار، ألتزم بقواعد كثيرة يلزمني بها الأشخاص المقربون بلا داعٍ وحتىٰ الذين لا أعرفهم، إن كل شيء قد أصبح بسيطاً، حتىٰ إنني صرت حساسة بصورة كبيرة، أتوتر من أي موقف، أستسلم لرأي غيري المعارض تماماً، أفهم مدلول الكلمات الموجّهة إلي علىٰ طريقتي، حتىٰ صار الجميع يؤلمني، وصارت الاجتماعات العائلية تتعبني، صار كل شيءٍ جميلٍ سيِّئاً بطريقة كبيرة، صرت أتطلع إلىٰ الانتهاء من كل شيء والعودة إلىٰ ذاكرة واسعة لا محدودة، وعادت فكرة الشجرة تنبض برأسي، صرت أراها علىٰ أصابعي بعد كل شيء ألمسه، وعلىٰ كل شيء أنظر نحوه، في الأحلام، وتلاحقني، تدفعني أحياناً وتسير في مكاني، جذورها دخلت في جسدي، أغصانها تصفعني، إنها داخلي، وأنا خارجي تماماً.

ما عدت أستقبل أحداً ولا أهتم لأحد، صرت شخصية مغايرة تماماً، لا تجذبني أي فكرة عن ممارسات الحياة، لا أحمل في ذهني سوىٰ فكرة واحدة، أن أفهم حياة الأشجار، أتخيلني شجرة صنوبر مثلاً، ما هو شعوري وأنا أستطيل؟! ودون أن أدري رفعت جسدي علىٰ أطراف أصابعي، وقفت مدة طويلة هكذا، رفعت رأسي ويدي كأنني سأحلّق، ثم استدركت الأمر وعدت.

ثم فجأة قررت أن أخرج، أن أواجهها، من أي جهاتها، أغلقت الستارة بحزم، وبدلت ثيابي، حملت هاتفي، لم أعلم ماذا سأحمل أيضاً، أغلقت البيت بالمفتاح مرتين، وتأكدت أنه مغلق، طلبت المصعد، كل شيء إلىٰ الآن يسير كما يجب، اتصلت بزوجي لأخبره أنني خارجة وأنني ربما سأتأخر، ثم سرت باتجاهها، لا أعلم لِمَ المسافة بدت أطول مما هي من النافذة! طارت الغربان، وهدأ البيت، دخلت البيت، كم هي كبيرة! نظرت إليها طويلاً، وجفت الكلمات. أخيراً التقينا، أردت أن أصافحها، ولكن لم أدرِ كيف!

 

 

اقرأ أيضًا:

في حزنها سمو

 

عند باب الشيخ محمد

 

قدوم خير الناس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى