العدد الأولدراسات

استعمال جذر ( ق و م ) بدلالة السكن

تعريف السَّكَن:

في اللغة: “السِّينُ والكَافُ وَالنُّونُ أَصْلٌ واحِدٌ مُطَّردٌ، يَدلُّ عَلى خِلافِ الاضْطِرابِ والحَركةِ. يُقالُ: سَكَنَ الشّيءُ يَسكُنُ سُكُونًا فَهوَ ساكِنٌ. والسَّكْنُ: الأَهْلُ الذِينَ يَسكُنُونَ الدَّارَ”([1])، والسَّكَنُ: المَنْزِلُ، وَهوَ المَسْكَنُ والمَسْكِنُ أيْضًا، وَهوَ المَوضِعُ الَّذي يُسْكنُ فِيهِ، والجَمْعُ مَساكِن([2]). وَذَكَرَ ابن مَنظُور (ت711هـ): سَكَنَ بِالمَكَانِ يَسْكُنُ سُكْنَى وسُكُونًا: أَقَامَ. والسَّكِينَةُ: الوَدَاعَةُ والوَقارُ([3]).

والسَّكَن في الاصطلاح: “كلُّ مَا يُسْكنُ إِلَيْهِ وَفِيهِ ويُستأنَسُ بِه”([4]). وهو “المكْثُ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الاستِقرارِ وَالدَّوَام”([5]).

جذر (ق.و.م):

وردَ جذرُ (ق.و.م) في القرآنِ الكريمِ بدلالةِ السَّكن في الحياة الدنيا في خمسةِ مواضع متفرِّقةٍ، وذلك في:

  1. قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ} [النحل:80].
  2. وقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26].
  3. وقوله: {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:58].
  4. وقوله:{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73].
  5. وقوله:{وَزُرُوعٍۢ وَمَقَامٍۢ كَرِيمٍۢ} [الدخان:26].

فالملاحظ أنه وردَ بصيغٍ عدَّةٍ، فجاء بصيغةِ اسمِ الفاعل، وبصيغة المصدر، وصيغة اسم المكان، وممَّا جاء بصيغةِ اسمِ المكان ما وردَ في قولهِ تعالى: ﴿وَزُرُوعٍۢ وَمَقَامٍۢ كَرِيمٍۢ﴾ [الدخان:26]، ووروده بصيغة اسمِ المكان؛ للدلالةِ على مكانِ وقوعِ الحَدَث([6]).

 الدلالة:

اختلفَ المفسرونَ في تحديدِ دلالةِ لفظِ (مَقَام) في الآية، فمنهم مَن قالَ إنَّها المساكن([7])، فذكرَ ابنُ عاشور: “والمقام بفتح الميم: مكان القيام، والقيام هنا مجاز في معنى التمكُّن من المكان. والكريم من كلِّ نوع أنفسه وخيره، والمراد به: المساكن والديار والأسواق ونحوها”([8])، ومنهم مَن قالَ إنَّها المجالس الحَسَنة الَّتي كانت لهم([9])، ومنهم من قال إنَّها المَنَابِر([10]).

وذَكرَ مقاتل بن سليمان، وهارون بن موسى (ت: أواخر القرن الثاني الهجري) وهما مِن أصحابِ كتُبِ الوجوهِ والنَّظائرِ: أَنَّ دلالة لفظِ (مَقَام) في هذه الآية هي المسكن([11]). وأستبعدُ أنْ تكونَ دلالة (مَقَام) هي المنابر التي قال البعضُ عنها أنّ فرعون كان قد أمَرَ بإنشائها بمصر؛ ليُمدحَ عليها، ويُثنى عليه([12])؛ فهي لا تُعُّ بالشيءِ المُهمِّ مقارنةً بالجنَّاتِ، والعيونِ، والزروع. وأُرجِّحُ أنْ تكونَ الدلالة هي المَساكِن؛ كونها هي التي مِن الممكنِ أنْ تُورث، فضلًا عن أهميتها إذا ما قورنت بالبساتينِ الغنَّاء، وعيون الماء التي ورثوها، أمَّا المجالس الحسنة فمن شأنها أَنْ تُقام داخلَ قصورِ الأُمَراءِ الفارهةِ، وفي منازلِ الأغنياءِ العامرةِ، فهي في المحصِّلةِ تُعدُّ جُزءًا مِن تلك المَساكن.

يقول ربُّ العزَّةِ مخبرًا عن حالِ قوم فرعون بعد غَرَقِهم: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ [الدخان:25-27]؛ فَـ(كَمْ) في الآية خبريّة تُفيد التكثيرَ والتهويلَ، وهي في محلِّ نصب مفعول به مُقدَّم، أي ما أكثرَ ما تركَ فرعون وقومه القُبطُ من بساتين وأشجار، ومنابع ما كان يجري في بساتينهم من أنهار، وزروعٍ قائمة في مزارعهم، ومساكن حِسانٍ بعد إهلاك الله إيَّاهم بالغرق، وقد أُتِي بـ(مِن)؛ لورودِ فعلٍ متعدٍّ فصَلَ بين (كَمْ) الخبرية وبين مميّزها؛ لتجنُّب التباسِ المميّز بمفعولِ ذلك المتعدِّي([13])، و”النَّعمةُ بفَتحِ النُّونِ: اسمٌ للتَّنعّم مصوغ على وزن المرَّة. وليس المراد به المرَّة بل مطلق المصدر باعتبار أن مجموع أحوال النعيم صار كالشيء الواحد وهو أبلغ وأجمع في تصوير معنى المصدر، وهذا هو المناسب لفعل تركوا؛ لأَنَّ المتروك هو أشخاص الأمور التي ينعم بها، وليس المتروك، وهو المعنى المصدري”([14]). وفاكهينَ أي، ناعمين، وقُرِئ: فَكِهين، أي: أشِرين بَطِرين([15]).

 

————————

([1]) مقاييس اللغة، أحمد بن فارس (ت395هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، (1979م)، (3/88).

([2]) ينظر: العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ)، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال 5/312. جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت321هـ)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين- بيروت، ط1 (1987م) 2/856 .

([3]) ينظر: لسان العرب، محمد بن مكرم ابن منظور (ت711هـ)، دار صادر- بيروت، ط3 (1414هـ – 1993م) 13/212-213.

([4]) الكليات، أيوب بن موسى الكفوي (ت1094هـ)، تحقيق: عدنان درويش – محمد المصري، مؤسسة الرسالة- بيروت 1/495.

([5]) معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، د. محمود عبد الرحمن عبد المنعم، دار الفضيلة 2/280 .

([6]) ينظر: المعجم المفصل في علم الصرف، راجي الأسمر، مراجعة: د. إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1 (1413هـ – 1993م) 136-137 .

([7]) ينظر: بحر العلوم 3/270، نصر بن محمد السمرقندي (ت373هـ) ، تفسير مقاتل بن سليمان (ت150هـ)، تحقيق: عبد الله محمود شحاته، دار إحياء التراث- بيروت، ط1 (1423هـ). 3/205 ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد، علي بن أحمد الواحدي (ت468هـ)، تحقيق وتعليق: عادل أحمد عبد الموجود، وآخرين، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1(1415هـ – 1994م) 4/89 ، تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (ت68هـ)، جمع: محمد بن يعقوب الفيروزابادى (ت817هـ)، دار الكتب العلمية- لبنان 1/418 .

([8]) ينظر: التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور (ت1393هـ)، الدار التونسية للنشر- تونس، (1984هـ) 25/302.

([9]) ينظر: الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد الثعلبي (ت427هـ)، تحقيق: أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، ط1 (1422هـ – 2002م) 8/352 ، معالم التنزيل في تفسير القرآن، الحسين بن مسعود البغوي (ت510هـ)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، ط1 (1420هـ) 4/177 ، لباب التأويل في معاني التنزيل، علي بن محمد الخازن (ت741هـ)، تصحيح: محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1 (1415 هـ) 4/118 ، تفسير الجلالين، محمد بن أحمد جلال الدين المحلي (ت864هـ) وعبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (ت911هـ)، دار الحديث- القاهرة، ط1 1/658 ، التفسير الوسيط، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر- دمشق، ط1 (1422هـ) 3/2383 .

([10]) ينظر: النكت والعيون، علي بن محمد الماوردي (ت450هـ)، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية- بيروت 5/251 ، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، عبد الرحمن بن محمد الثعالبي (ت875هـ)، تحقيق: محمد علي معوض – عادل أحمد عبد الموجود، دار إحياء التراث العربي- بيروت، ط1 (1418هـ) 5/199 .

([11]) ينظر: الوجوه والنظائر في القرآن العظيم، مقاتل بن سليمان البلخي (ت150هـ)، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث- دبي، ط1 (1427هـ – 2006م) 141 ، الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، أبو هلال العسكري (ت400هـ)، تحقيق: محمد عثمان، مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة، ط1 (1428هـ – 2007م) 352 .

([12]) ينظر: تفسير الثعالبي 5/199 ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود الألوسي (ت1270هـ)، تحقيق: علي عطية، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1 (1415هـ) 13/121 .

([13]) ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري (ت310هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، محمود محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1 (1420هـ – 2000م) 22/31 ، شرح شافية ابن الحاجب، محمد بن الحسن الإستراباذي (ت686هـ)، تحقيق: محمد نور الحسن، محمد الزفزاف، محمد محيى الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية- بيروت، (1395هـ – 1975م)  3/156 ، إعراب القرآن الكريم، أحمد عبيد الدعاس- أحمد محمد حميدان – إسماعيل محمود القاسم، دار المنير ودار الفارابي- دمشق، ط1 (1425هـ) 3/210.

([14]) ينظر: التحرير والتنوير، 25/302.

([15]) ينظر: معالم التنزيل في تفسير القرآن، 4/177 ، معجم القراءات، د. عبد اللطيف الخطيب، دار سعد الدين- دمشق، ط1 (1422هـ – 2002م) 8/431.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى